منتديات الفرسان
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 فصول في علم الاقتصاد الأدبي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:06 pm

فصول في علم الاقتصاد الأدبي



الفصل الأول: كاسندرا بريام والأدب الحديث

لأمرٍ ما صارت طروادة غنية، حظها أن تصبح غنية، هل هي المكوس البحرية التي فرضتها على البضائع المشحونة أم هي المكوس البرية المفروضة على البضائع العابرة، أم نشاط أبنائها حوّلها إلى دولة غنية؟ لا نعرف فربما كل هذه الظروف مجتمعة جعلت طروادة الدولة الأولى في العالم آنئذ. أبراج وأسوار وقلاع، ساحات وأبهاء وقصور، بيوت ودواوين وطرقات ونقاط مراقبة وجباية مكوس، ملك وجيش وقادة وأبطال، بطون متخمة وخزائن مفعمة، وقد تحولت الثروة إلى كنوز وكنوز حتى حار بريام، ملك طروادة أين يضعها، فقد ملّ من إنشاء بيوتات محكمة ومحصنة لها، كل شيء صار باعثاً على السعادة، وكل شيء بات جميلاً، فحتى العذارى صرن يضارعن الفتيات الأغريقيات حسناً وجمالاً وأناقة وبذخاً... باختصار دبت سوسة الاقتصاد السياسي في هذه المدينة/الدولة.

كانت كاسندرا بنت بريام ملك طروادة تراقب ما يجري بعين نافذة ومتخوّفة، فقد كانت هذه العذراء الفائقة الجمال تمتلك موهبة النبوءة الصادقة التي وهبها لها أبولو، عاشقها الولهان الذي رفضته رفضاً قاطعاً. عرض عليها كل أنواع المسرات والثروات، ولكنه أخطأ في شيء واحد وهو أنه منحها النبوءة الصادقة قبل أن ينال قبولها، فلما عرض عليها نفسه مع كل المباهج والغنى، استلهمت قوة النبوءة فوجدت أنها إن وافقت فسوف تبدأ حياة البؤس والشقاء فلا نعيم ولا سعادة مع الثروة، وتذكرت قصة أيون وأمه مع أبولو فرفضت بكل تصميم، فاغتاظ منها عشيقها المدنف، وبما أنه لا يستطيع استرداد ما وهبه لها، على جاري عادة الآلهة، فقد عمد إلى استرداده بطريقة أخرى، وهي أنه جعل الناس لا تصغي لنبوءاتها الصادقة، ومنذ ذلك الوقت والناس لا تصدق النبوءات الحقيقية، بينما تتهافت على نبوءات الشعوذة والدجل وتؤمن بها.

رأت كاسندرا ما رأت من أمر طروادة، وكيف اغتنى أهلها ففسدت علاقات الابن بالأب، والزوج بالزوجة والأخ بالأخت، فعرفت على الفور أي كارثة سوف يجرها الاقتصاد السياسي على مدينتها، وقالت لأبيها الملك: إنك ترفع للهزيمة راية وتحفر للأحياء قبراً، الأسوار سوف تنهار، وبنات الملوك سوف يصبحن أسيرات والغواني في البراري سوف تهيم وجوههن، أما الأبطال فللقتل منذورون، أما طروادة فلن يبقى منها إلا اسمها تلوكه الأجيال، جيلاً بعد جيل بقلب حزين. أيها الملك السعيد أنت بدأت تاريخ التعاسة وبالبوق أعلنت اقتراب الكارثة.

كانت في مقتبل العمر أي في السن التي تتتفتح فيها موهبة الشعر والأدب، فلم يصدقها بريام ولم يصدقها أحد ممن سمعها. كيف؟ بالمال والثروة والكنوز تصرف طروادة الأمور كما تشاء وكما ترغب. لقد نسي هؤلاء أنك عندما تصبح غنياً يكثر أعداؤك فيتساءلون: من أين له هذه الثروة؟ وهل يستحقها؟ وماذا يفعل بها وهي تتجاوز موهبته وقدرته وعمله؟... إنه يملك ما يجب أن يكون لغيره. وهذه بالضبط نظرة الإغريق تجاه المدينة التي كانت في طرف أوروبا أو طرف آسيا، فقد رأوا أنها تستأثر بما يجب أن يكون ملكاً لهم.

وعندما أراد بريام أن يسفر إلى الإغريق حذرته ابنته كاسندرا: لا تجعل باريس الجميل سفيراً، ولا تحمله الذهب والفضة وذخائر الكنوز هدايا، لأنه بذلك سيعود إليك بالجيوش التي ستدك أسوار طروادة المدينة الغنية المترفة.

ولما صار ما صار واشتد الحصار خاف بريام على ثروته الضخمة فأوفد ابنه بوليدورس مع كنوزه البراقة المغرية إلى صديق له في تراقيا يدعى بوليمنستر. لكن الحلوة كاسندرا التي لا يصدقها أحد قالت لأبيها: أن بوليدورس يصطحب معه قاتله. ومن قاتله من هؤلاء الموفدين؟.. فأجابت كاسندرا: إنه الكنز أيها الأب العجوز. فلم يصدقها ويصر على تنفيذ ما ارتآه، وبالفعل فإن صديقه الحميم جداً بوليمنستر عندما رأى هذا الكنز العظيم بيّت في نفسه شيئاً، وهل يكون هذا الشيء غير التخلص من بوليدورس والاستحواذ على الكنز؟... لقد خسر بريام ابنه وكنزه دفعة واحدة كما تنبأت كاسندرا.

وعندما صرع آخيل شقيقها البطل هكتور قالت لأبيها: إذا تركت روح هكتور هائمة على شواطىء أخيرون فخير من أن تفتدي جثمانه لتعبر روحه النهر إلى الدار الأبدية. وإذا ذهبت إلى آخيل فاعرض عليه الثروة مقابل السلام والرحيل، لا مقابل تسليمك جثمان هكتور، وإلا انهار حصنك ودك عرشك وتدحرج تاجك. لكنّ مالِكَ المال أعمى، يظن أن ماله منجيه من كل متاعبه ومشكلاته، بل يؤجل الأجل ويطيل العمر، فذهب بريام الشيخ ضارعاً وطرح أمام قدمي أخيل فدية مقابل جثة أوشكت تتعفن، فماذا يخبىء في خزائنه إذا كانت هذه هي فديته؟ هنا أزمع الإغريق على متابعة الحصار لتتم نبوءة كاسندرا الصادقة التي لا يصدقها أحد.

ويرى الطرواديون الحصان الخشبي ويصدقون ما رواه عميل الإغريق، لكن كاسندرا وحدها تقف معترضة تحذرهم من هذه الخديعة الواضحة صارخة: يا أهل طروادة لن تعرفوا الراحة والسلم مادامت كنوزكم حكراً لكم. إن هذا الحصان الخشبي يعرف معلفه تماماً، إنه كنوزكم، فلا تدخلوه الأسوار لأنكم ستكونون أول ضحاياه.

كاسندرا الجميلة التي لم يصدقها أحد وجدت هذه المرة أذناً صاغية من لاؤوكون. وهذه ميزة النبوءات الأدبية الصادقة، قلة يصدقون أما البقية فيسمعونها بآذان من طين. والذين يصدقون من أمثال لاؤوكون يلاقون مصيراً مأساوياً.

بعد سقوط طروادة صارت مباحة لجنود الإغريق، فالذكور للقتل والإناث للأسر، أما ما بقي فيها من ثروات فتوزع ويقترع عليها. وكان القائد اغاممنون يطوف بين الخرائب فرأى وجه كاسندرا المختبئة، فضمها إلى غنائمه، بعد أن أنقذها من يد أجاكس الأصغر.

ولما رأت كاسندرا أحمال الذهب مع اغاممنون تذكرت أخاها بوليدورس وسفارته إلى بوليمنستر فقالت لاغاممنون: دعني واذهب وحدك إلى بلدك مسّينا، إنك تحمل قاتلك معك. خلف باب قصرك تلتمع شفرة البلطة، فواجهها وحدك ودعني هنا فخير لي أن أهيم في خرائب مدينتي من أن أقتل في دهليز قصرك. سينتقم لك ابنك، ولكن ما قيمة الانتقام إذا وقع الفأس في الرأس وفات الأوان؟ وكما هي العادة لم يصدق اغاممنون كلمة واحدة مما قالته هذه الصبية، بل جعل أحمال الذهب تنتظم في قافلة تتقدم موكبه، وعاد إلى مسينا واصطحب كاسندرا معه... وخلف باب القصر وقعت الفاجعة، تماماً كما تنبأت هذه الفتاة الجميلة.

***

لا أدري لماذا نميل إلى معاملة الميثولوجيات بعيداً عن الواقع، مع أن كل ميثة من الميثات التي تردنا من هذه الميثولوجيا أو تلك ما هي إلا قصة واقعية بطريقة فنية رمزية. ونحن اليوم نعامل نبوءات كاسندرا باستخفاف فنظن أن هذه النبوءات سجلت في تاريخ الأدب بعد وقوعها ونسبت إلى كاسندرا، وهذا ليس صحيحاً أبداً، فنبوءات كاسندرا قيلت قبل وقوعها، وهي ليست بحاجة إلى قوة خارقة لمعرفتها، إنها لا تحتاج إلا لقليل من التبصر فقط. ولو نظرنا اليوم في هذه النبوءات لبدا لنا أن كاسندرا كانت تقابل بين النشاط الروحي والنشاط المادي، أو بين الاقتصاد الأدبي والاقتصاد السياسي فحيث يكون النشاط الأدبي فسلم وسعادة، وحيث يكون النشاط المادي فالكوارث تترى وتدمر. فلنستعرض تلك النبوءات مجدداً ولنمعن النظر فيها:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:07 pm

عندما رأت ثروة طروادة تتعاظم قالت لأبيها إنك ترفع للهزيمة راية وتحفر للأحياء قبراً. وعندما رأت بوليدورس يخرج بأحمال الذهب إلى تراقيا قالت لأبيها إنك ترسل قاتله معه، وعندما رأت الحصان الخشبي الضخم عرفت على الفور أن الأعداء لا يمكن أن يقدموا مثل هذه الهدية مجاناً فحذرت منه، وعندما ذهب بريام إلى آخيل بفدية ضخمة من الذهب لاسترجاع جثمان هكتور عرفت كاسندرا أن أباها يزيد من الشهوة الذئبية في صدور الإغريق، وعندما أخذها اغاممنون معه حذرته من عرضه للثروة أمام موكبه، فلو عاد فقيراً مشرداً لما طمعت فيه كليتمنسترا وعشيقها ايجست.

إن نبوءات كاسندرا بسيطة جداً، فهي من قوانين الاقتصاد الأدبي، وفي كل يوم يمارس الأدباء هذه النبوءات، فلو قرأنا أي قصيدة أو مسرحية أو رواية وعثرنا فيها على كنوز بريام أو أحمال لوليدورس أو أسلاب أغاممنون أو حصان طروادة، الهدية التي لا تفسير لها، لقلنا في أنفسنا إن هناك كارثة سوف تقع. فحيث الثروة يكون الوباء، وحيث الكنز يكون الموت حارسه. إنه قانون أدبي لا يمكن تغييره، ولا يمكن لأي اقتصاد أدبي أن يفعل غير ما فعلته كاسندرا، فأي غرابة في نبوءاتها؟

كيف حلّ الاقتصاد الأدبي هذه المشكلة، أو هذه الكارثة؟... حلها بالتربية الجمالية التي تدفع الإنسان إلى القيم المعنوية وتدخله مملكة القناعة المادية وتحول أطماعه إلى طموحات فنية، حيث لا وباء ولا جريمة، ولا حقد ولا حسد ولا غل ولا نميمة ولا طمع ولا جشع... فالكنز المعنوي لا يستطيع أحد انتزاعه منك، لأن الحصول عليه لا يكون باستثمار الآخرين فلا حاجة إلى جريمة أو قتل بل يكون بالتربية الجمالية التي يجعلها الاقتصاد الأدبي الموجه الأول للإنتاج المادي، فبها وحدها تكون السلعة مساوية للحاجة ويكون الإنتاج موازياً للضرورات فقط وليس لاستغلال الآخرين واستثمار جهدهم وإفقارهم.

يناقش النقاد بحرارة ويدخلون في مناظرات ومجادلات شائكة حول "وظيفة الأدب" أو "وظيفة الفن" مع أن هذه الوظيفة معروفة منذ آلاف السنين، منذ أن أوصى بروميثوس ابنه ديوكاليون أن يتعلم، بعد أن يحط فلكه على البرناس من ربات الفنون ما ينقذه ويحميه ويخلص روحه. وقد تابعت كاسندرا نبوءات بروميثوس. كان الاقتصاد السياسي قد نما بعد أن قتل قائين أخاه هابيل واضعاً حداً لأساليب الانتاج القديمة، فكان لا بد أن تحذر كاسندرا من خطورة الانسياق وراء المادة والثروة والكنوز، فوراء كل طمع نكبة، وخلف كل جشع كارثة، فنبوءات كاسندرا هي الخط الأساسي الذي يقوم عليه الاقتصاد الأدبي.

تابع الأدباء هذا الخط، ومع ذلك تعاظم دور الاقتصاد السياسي حتى صار الدور الوحيد الذي يحدد قيمة كل شيء والذي يقبع وراء كل الدوافع حتى أننا رحنا نغزو القمر والكواكب الأخرى تحت ذريعة "الضرورات" فأي ضرورة تدفعنا إلى الإنفاق على مثل هذه المشاريع سوى شهوة الطمع وحب السيطرة؟

إن وظيفة الأدب ليس تقديم التعزية والسلوان، فالأدب لم يخلق لينسي الإنسان متاعبه وهمومه وحياته الصعبة كما قد يظن بعضنا، إنه ليس سيركاً يسلينا ويروح عن نفوسنا وينسينا متاعب نهار شاق، بل إنه مجابهة حقيقية لمشكلات الإنسان المادية والروحية، فهو يطرح باستمرار البؤس الروحي والبؤس المادي، بل يربط بين الأول والثاني، ويرى أن الاضطراب في الحياة المادية سيؤدي إلى اضطراب في الحياة الروحية، ويعزو سبب ذلك إلى هيمنة الاقتصاد السياسي على النشاط المادي بحيث يتحول هدف السلعة من تلبية الحاجات إلى استغلالها، ومن وفرة السوق إلى احتكاره، ومن تأمين الضرورة إلى التلاعب بها. إن هدف الاقتصاد السياسي ليس الموازنة بين الحياة المادية والحياة الروحية بل دفع الناس إلى الانخراط في معمعة لا تنتهي من أجل تكديس الأرباح ضماناً للمستقبل، ومن أجل فرض سلطة قوية تؤمن استمرارية الأرباح وتدفقها. فالاقتصاد المادي هنا لا يعني سوى الربح. والسياسة التي ينسبونها إليه أو يصفونه بها لا تعني سوى السلطة، فكل اقتصاد سياسي هو في النهاية ثروة لتوطيد السلطة، وسلطة لضمان الثروة والاستزادة منها.

هدف الاقتصاد الأدبي، بالمقابل، هو جعل الحياة الروحية المفعمة بالقيم الفنية منطلقاً لتنظيم الحياة المادية، أي أنه يناقض تماماً طريق الاقتصاد السياسي، ولذا يدعو إلى التربية الجمالية لإحلال الرضى الروحي محل الجشع المادي. وهو باستمرار يبين فداحة الإنصياع لقوانين الاقتصاد السياسي، ويرى أن العناصر التي يقوم عليها من ثروة وسلعة وسوق وتجارة... لن تؤدي إلا إلى البؤس، وربما كانت الثروة من أهم ما دأب الأدب على فضحها وإظهار الاضطراب التي تحدثه في الحياة الاجتماعية والنفوس البشرية.

بعد أن دبّت شهوة الثروة والسلطة في النفوس بات من الصعب اقناع الناس بتهافت الاقتصاد السياسي، ومع ذلك ما فتيء الأدب يندد بذلك منذ ميداس وحتى اليوم. وميداس ملك على بقعة صغيرة، أراد أن يكون له نفوذ بتوسيع سلطان مملكته، ومثل هذا الطموح لا يتحقق إلا بالثروة، وعندما أكرم أحد الباخيين الشيوخ كافأه باخوس بتلبية أي رغبة يتمناها، فتمنى الغبي أن يتحول كل ما يلمسه إلى ذهب، فكان أن مياه الشرب ومآكل المائدة تحولت إلى ذهب، فهرع إلى باخوس فوراً ليوقف هذه المهزلة أو هذه المأساة، فنصحه إله الخمرة أن يغتسل بماء نهر يتدفق من ينبوع بين صخرتين، دعاه إلى الانسجام والتكيف مع الطبيعة، واغتسل الرجل فشفي، لكن الأدب بعد ذلك لم يطلعنا على رجل عرف فعل الندامة سريعاً مثل ميداس، فالأغلبية لا يظهر الصحو عندها إلا متأخراً.

إن عناصر الاقتصاد السياسي كلها تتبخر لدى ظهور أي هزة، فما يجمعه الاقتصادي في عشرات السنوات قد يبدده ابنه على مائدة قمار بليلة واحدة، وما يرثه ولد عن والد من أموال قد يتسرب إلى محفظة غانية لعوب بأقل من سنة، وقد برع الأدب الفرنسي إبان القرن التاسع عشر في تقديم الكثير من هذه النماذج. فأي اقتصاد هش هذا الذي تعصف بكل قوانينه نزوة عابرة، أو هواية سيئة، أو عادة ذميمة؟... إن ما يتراءى لنا ثابتاً وطيداً ليس أكثر من أطياف واهية، وما نظنه سنداً لنا ليس أكثر من عامل دسيس يفتت روحنا ويقضي على قيمنا، ويدفعنا إلى اقتتال بهيمي لا ينتهي. إن صراع الأمم، وبالتالي صراع الأفراد لا يكمن وراءه سوى سبب واحد فقط لا شريك له وهو الاقتصاد السياسي. إن الحرب الطروادية تتكرر باستمرار من أيام بريام وحتى هذه الأيام. كل المدن التي دمرت تمثل طروادة الغنية الناشطة التي تتركز فيها الثروة، أو التي تقاسم غيرها الثروة. وما نشبت حرب إلا كان خلفها الاقتصاد أو السياسة، إما لحيازة ثروة أو لتمكين سلطة ولا شيء غير ذلك سواء كانت الحرب تدور حول مرعى بسيط أو حول منطقة غنية بالذهب، حول سفح جبل أو ممر على البحر. وكل ما عدا ذلك ما هي إلا أعذار للتغطية فقط. المذّبة الجزائرية أو قتل مبشر مسيحيي في إفريقيا أو إهانة شعار امبراطورية في جنوب شرق آسيا ما هي إلا أعذار فقط لأن جميع الأسباب تنحصر في اثنين لا ثالث لهما: الاقتصاد أو السياسة، ولو قلنا لسبب واحد فقط هو الاقتصاد السياسي لكان أفضل: لأن لا وجود لسياسة خارج الاقتصاد. وكل تاريخ الانتاج الأدبي مكرس منذ القديم لفضح هذا المحرك للنشاط البشري وإظهار تهافته حتى نكاد نقول إن مجمل الأدب هو فضح تهافت الاقتصاد السياسي، وإظهار دوره المفسد في الحياة الاجتماعية، ولكن أروع ما في الأدب هو تلك الاختبارات التي يخضع لها الاقتصاد السياسي، كما فعل فيه الأدب الفرنسي كما أشرنا، ومثله بقية الآداب، فالدكتور فاوست، سواء في النسخة الإنكليزية أو النسخة الألمانية، يجسد الاقتصاد السياسي عندما يدخل في مساومة مع مفستوفيلس، فيطلب منه طلباً واحداً فقط وهو الثروة والسلطة أي الاقتصاد السياسي تماماً: بالثروة والسلطة يحقق كل ما يريد، حتى أنه يستقدم هيلن، الحسناء اليونانية التي كانت ذريعة نشوب حرب طروادة، ويا لها من ذريعة، كما ينتشر اسمه في كل الأصقاع، ويقصده الناس من كل صوب، ويتوج بالمجد الزائف مثل أي بشري يراكم الثروة ويستخدم السلطة. بيد أن كل هذا المجد، وكل هذه السمعة، وكل هذه الثروة وكل هذه السلطة لا تنفع في شيء، فقد كان العقد بينه وبين مفستوفيلس يقضي أن يدفع حياته ثمناً للثروة والسلطة. وكأن المتنبي كان يسهم في الصياغة الفاوستية عندما قال:



ومن ينفق الساعات في جمع ماله


مخافة فقر فالذي فعل الفقر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:07 pm

فلا يمكن تحقيق الثروة والاستحواذ على السلطة من دون الوقوع في الخواء الروحي، كما يقول الشاعر اليوت، فما يتحقق في مجال المادة تدفع الروح ثمنه، فما تقدم الاقتصاد السياسي إلا على حساب التربية الجمالية التي هي شعار الاقتصاد الأدبي.

ومن أعظم الاختبارات الأدبية التي أخضع لها الاقتصاد السياسي ما نجده في الرواية الروسية في القرن التاسع عشر. أن راسكولنيكوف يريد تحقيق العدالة عن طريق توزيع الثروة فيصبح رجلاً أجوف خاوي الصدر بعد أن استخدم البلطة وسيلة، ويأتي الإنقاذ على يد سونيا المجدلية الفاضلة، فهي نسخة راسكولنيكوف، أو ظله الذي كان مختبئاً فظهر وكان غافياً فاستيقظ، فهو لا يختلف عن فاوست، وإن كانت الدوافع مختلفة. إن راسكولنيكوف أراد تحقيق العدالة عن طريق وسائل الاقتصاد السياسي ففشل وضاع لو لم تعده سونيا إلى الحياة الروحية. إنه فاوست الروس بقلم دستويفسكي، وشبيه به بطل قصة "موت إيفان ايليتش" التي كتبها تولستوى في أواخر حياته، فقد سعى إيفان إلى الثروة فنالها وإلى السلطة فحققها، ولكن ذلك كان على حساب حياته الروحية، لم يشعر بالخواء الروحي الذي فيه إلا عندما وقع فريسة المرض الذي لا برء منه. وهذه هي اليقظة المتأخرة التي أشرنا إليها، فهي ليست يقظة سريعة كيقظة ميداس بحيث يمكن تداركها بالاغتسال في مياه الطبيعة، أي العودة إلى الحياة الإنسانية الأصيلة، وإنما هي يقظة لا ترد مسافراً إلى الدار الأبدية ولا تؤجل موعده. كل شيء يتغير في نظر إيفان ايليتش بعد أن يدب فيه المرض، يلتفت إلى الماضي فيتألم، وينظر إلى الحاضر فيحزن ويتطلع إلى المستقبل فيتجهم، فقد أمضى حياته في جمع الثروة وتوطيد السلطة فخلق لنفسه ظروفاً غير إنسانية، وهذه الظروف هي المأساة التي يفرزها الاقتصاد السياسي، فهو يستدرجك لبذل جهدك فيما تكمن فيه مأساتك، ولا يستطيع المنجرف خلفه أن يميز بين الحاجة الروحية والحاجة المادية، فيظن أن بالمادة يفعل ما يريد كفاوست، ويغيب عن باله أقفار الحياة الفاوستية من كل معنى وتدهورها.

فضحت الاختبارات والتجارب الأدبية بهرجة الثروة والسلطة، وأظهرت أن المرشد الحقيقي للحياة المادية هو التربية الجمالية وليس شيئاً آخر، فبها تتحول ملكية الطمع إلى ملكية القناعة، وهي الشرط الإنساني الأول لكل حياة بشرية، وهي الخطوة الضرورية لقيام نشاط روحي لا يرتوى منه الإنسان ولا يشبع. ولكن بالمقابل أيضاً نرى أن النشاط الروحي ضروري لضبط المسار المادي، أي لتحقيق ملكية القناعة، فمن دون تربية جمالية يستحيل الدخول في مملكة القناعة... إنهما شرطان متلازمان ولا نستطيع تقديم واحد على الآخر، تماماً مثل قصة الدجاجة والبيضة. لكن في العصر الحديث عصر سيادة الاقتصاد السياسي والانجراف المادي، نرى أن الخطوة الأولى هي إشاعة التربية الجمالية والانفاق عليها حتى تصبح شبه مجانية، فبها يمكن الخروج من بوابة الاقتصاد السياسي والولوج في عتبة مملكة القناعة.

الاختبارات الأدبية هي المحك الذي فضح الاقتصاد السياسي، وقد برع تولستوي في هذه الاختبارات التي ظهرت في معظم انتاجه الأدبي، إن لم نقل كله، وبالأخص في مؤلفاته الأخيرة كالأب سيرجي وموت إيفان إيليتش والمالك والعامل والبعث... وقد اتهم بسبب إدانته للاقتصاد السياسي القائم على الملكية والسلطة، بالرجعية من قبل النقاد الثوريين آنذاك، والنقاد الإشتراكيين الذين ظهروا في أعقاب ثورة اكتوبر، وهم يزعمون أن رجعيته تكمن في رفضه للتطورات الحديثة التي قدمها العلم، وفي دعوته إلى الحياة الريفية. ومثل هذه التهمة هي نوع من التأويل الذاتي والقراءة السياسية لمؤلفاته التي لا نظن أن فيها ما يدل على هذه التهمة التي ليست أكثر من اختبارات كان يدفع الاقتصاد السياسي إليها ليبين بهتانه. فالمعروف أن الاقتصاد السياسي هو ابن المدينة لا ابن الريف وكاسندرا بريام أدانت الاقتصاد السياسي لأنها ابنة مدينة طروادة تعرف سر الأشياء، أما الريف فكان بريئاً من مفاسد هذا الاقتصاد. وقد اضطر تولستوى أن يقارن بين هذين الطرفين لفضح الاقتصاد الجديد، فاحتجاجه لم يكن على العلم بل على طريقة استخدامه، ولم يكن أيضاً على الاختراعات الجديدة بل على وضعها بيد المالكين الكبار مما يجعل لها تأثيراً سيئاً في العلاقات الاجتماعية وتشويش الحياة والتدني بها، ونجد هذا الموقف الأدبي لدى كل الكتاب الأوروبيين حتى منتصف القرن العشرين من بلزاك حتى د. هـ. لورانس الذي أدان هذا الاقتصاد في روايته "عشيق الليدي شاترلي" حيث نجد ميلرز يمثل الحياة المنسجمة مع الطبيعة، وقد لجأت الليدي شاترلي إليه للخلاص من التطورات الجديدة التي أفسدت كلاً من الارستقراطية الإنكليزية والطبقة العاملة. وفي قصة "الحسناء والغجري" نرى ابنة القمر تهرب مع الغجري وكأنها تهرب من "الحياة الجديدة" المريعة التي كانت تلمس مفاسدها، إلى حضن الطبيعة، إلى الحياة الغجرية. فالاحتجاج الأدبي لا ينصب على التطورات العلمية الاقتصادية، وإنما على طريقة استخدامها ذلك الاستخدام المذل والمخيف.

على أي حال لم تكن تهمة الرجعية التي وجهها الاشتراكيون الروس إلى تولستوى مقتصرة على هذا الكاتب، بل شملت كثيرين غيره من أمثال دستويفسكي وكل من أدان الطريقة الجديدة في الملكية واستخدام السلطة. فما الذي جعل كاتيوشا في "البعث" تقف في المحكمة فترى على قوسها ذلك الشاب الذي كان سبباً في سقوطها، إنها الملكية، أو بالتحديد هذا النوع الجديد من الملكية الذي ظهر في كل المدن، وكل مدينة هي طروادة وكل كاتب هو كاسندرا بريام.

***

في النسختين الإنجليزية والألمانية لفاوست يمثل مفستوفيلس الاقتصاد السياسي، فهو يقدم الملكية والسلطة لكل من يبيع روحه، وقد انتقل الاقتصاد السياسي إلى فاوست فاستخدمه اسوأ استخدام. وماتزال هذه المقايضة سارية المفعول حتى أيامنا هذه. لكننا في النسخة الفرنسية لفاوست التي كتبها بول فاليرى في القرن العشرين نلاحظ شيئاً جديداً، وهو أن من يتحكم في الصفقة لم يعد الشيطان بل الإنسان، فقد شعر مفستوفيلس أنه خدع، فكل من اتفق معه ضحك عليه. كان الانسان قد تمكّن من فن الاقتصاد السياسي، صار يصنعه بيديه ولم يعد بحاجة إلى معين كمفستوفيلس، فكل اقتصادي صار أمهر منه، فبدلاً من أن يعقد صفقة معه صار يعقد الصفقات مع بني البشر، فالثروة لم تعد وليدة الحظ بل صارت لها طرق لانتاجها، الحظ يقتصر على تبديدها وليس على صنعها، وهذا ما عزز دور الإنسان الاقتصادي وجعله يستغني عن مفستوفيلس الذي ظهر لنا في النسخة الفرنسية مسكيناً مغلوباً على أمره. لقد تجسد مفستوفيلس وحلّ فينا، وهي خطوة جديدة في الحياة الاجتماعية التي مالت إلى المادة وانجرفت وراءها كلياً على حساب الحياة الروحية، قل الريفية بلغة تولستوى، تلميذ جان جاك روسو. وبهذه الخطوة انتقل الأدب الحديث من النبوءة إلى الإدانة، من اتهام الاقتصاد إلى اتهام الاقتصادي، فكأنه استعار لسان كاسندرا، بعد أن ترجم لغتها ترجمة تنسجم مع العصر الحديث العاصف، ولو قارنا بين الموقف الأدبي في النصف الثاني من القرن العشرين وبين موقف كاسندرا لهالنا هذا التطابق الكبير. كل ما في الأمر أن الحياة الآن صارت أشد قتامة وتعقيداً، حتى أن الإنسان لم يعد يعرف نفسه، ففي مسرحية يونسكو "المغنية الصلعاء" يلتقي الزوج بالزوجة فلا هو يعرفها ولا هي تعرفه، وبطريقة يونسكو المعهودة نعرف أن كل واحد منهما قد ضاع عن نفسه فضاع عن غيره وضاع غيره عنه، وليس غريباً فعندما تقفر الروح يموت الإنسان بتحوله إلى آلة تنتج المفاسد.

تميزت لغة كاسندرا بريام بالوضوح والدقة والصراحة والإيجاز والبعد عن الحذلقة والتنميق والتأكيد المتكرر على المقولة الواحدة، وهذه هي ميزات الأدب الحديث الذي عمد إلى المجابهة، تماماً مثلما كانت تفعل كاسندرا، إلا أن شيئاً واحداً كان ينقص لغتها وهو الإدانة، فقد كان عليها أن تقول لبريام أن السوء ليس في الثروة بل في استخدامها، فهو نفسه السيء الذي جلب الكارثة على وطن بكامله. وهذا ما قام به الأدب الحديث الذي صار يوجه الإدانة للإنسان نفسه، ولا يتنبأ بموته بل صار يعامله كأنه ميت بعد هذا الإيغال في مفاسد الاقتصاد السياسي.

كل ما فعلناه في هذا الحديث أننا شرحنا للقاريء لغة كاسندرا وكيف أنها اللغة التي ترجمها ويترجمها الأدب في موقفه من التطورات الحياتية. وفي الأحاديث القادمة سوف نترجم لغة كاسندرا إلى لغتنا القرعشرينية، ولا فضل لنا غير ذلك. إنها المؤلفة الحقيقية لهذه الأحاديث، ومن المعيب أن يدعي المترجم تأليف ما ترجم.

وقد قمنا بهذه الترجمة لاعتقادنا أن شيئاً في أيامنا لم يتغير عن أيام كاسندرا. صحيح أننا استبدلنا بعض الأسماء والعناوين القديمة بأسماء وعناوين جديدة، وسمينا المدن بأسمائها الحالية فلم نستخدم اسم طروادة أو مسينا أو طيبة أو غيرها، لكن ذلك لا يغير شيئاً، هدفنا "تحديث" لغتها وليس تغييرها، بل لا نستطيع تغييرها، فكيف نغير مثلاً قولها لاغاممنون: الجريمة تختبيء خلف باب القصر؟ هل نقول أن الجريمة تختبيء في مدخل الكوخ؟ من يصدقنا؟ الجميع يعرفون أن الجرائم الخفية لا ترتكب إلا في القصور، مكان إدارة الاقتصاد السياسي، وليس في الأكواخ. واليوم تقع أبصارنا على مئات القصور السامقة الباذخة التي تشاد باستمرار، فلا نستطيع أن نبتكر لها لغة جديدة، بل نتذكر لغة كاسندرا التي تذكرنا دائماً أن خلف باب كل قصر تختبيء الجريمة. يا الله ما أكثر القصور عندنا.

لقد اخترت من كلام كاسندرا الجميلة بعض الفصول وترجمتها بلغتنا القرعشرينية، وأني لفخور بذلك، مع علمي أن ما كان ينتظرها ينتظرنا نحن أيضاً، وإليه سوف نساق سوقاً... مثلها تماماً.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثاني مدخل إلى علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:09 pm


الفصل الثاني مدخل إلى علم الاقتصاد الأدبي


عندما نسمع بمصطلح الاقتصاد الأدبي نظن أنه مصطلح بلاغي، أو أنه ترجمة للمصطلح البلاغي المشهور: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أي يقوم على التزام القواعد البلاغية، بحيث يتقن المتكلم أصول الكلام أو الكتابة من أجل تشخيص الحال بما يلائمها، من دون زيادة أو نقصان، فقد تقتضي الحال الإيجاز أو المساواة أو الاطناب، فأي اخلال بذلك يعني الإخلال بالأداء، وبالتالي الانحراف عن الهدف المنشود. ليس هذا وحسب، بل إنه يشتمل أيضاً على أصول انتقاء الألفاظ، إذ قد تكون اللفظة المناسبة في موقف غير مناسبة في موقف آخر، وقد تكون الألفاظ مناسبة إلا أن التركيب غير مناسب... ومع ذلك نرى أن الأساليب تتغير وتتبدل من عصر إلى عصر، بينما تبقى البلاغة كما هي.‏

علم الاقتصاد الأدبي لا علاقة له بالبلاغة، لأن البلاغة إنما تحصل عن طريق التقاليد الأدبية وليس عن طريق التعليم والدراسة أي بدخول المرء في عمق الدلالة الأدبية، وليس في القواعد البلاغية. والملاحظات التالية قد تكون مفيدة في تحديد دور البلاغة.‏

1- البلاغة عندما تكون نتيجة تلقين القواعد البلاغية هي بلاغة جامدة لأن الدخول إلى الأدب عن طريق بلاغي يعني تماماً تهميش الموقف الأدبي، كالدخول إلى الشعر من باب معرفة العروض، فالبلاغة كعلم تابعة لا متبوعة، فهي من العلوم الناقلة التي لا يجوز جعلها طريقاً إلى الأداء اللغوي الجميل، فالبلاغي لا يقابل الأديب. البلاغي له حرفة غير حرفة الأدب، إن كتب انتج كلاماً صحيحاً ولكنه ليس كلاماً أدبياً بالضرورة. ونلاحظ أن جميع البلاغيين في تاريخنا لم يكونوا أدباء، فالجرجاني والعسكري والقزويني وأضرابهم لم ينتجوا سلعة أدبية حقيقية. فمعرفة البلاغة لا تؤدي إلى انتاج النص الأدبي بالضرورة، تماماً مثلما أن معرفة العروض وعلومه لا تعني انتاج النص الشعري، والعروضيون كانوا نظامين ولم يبرز منهم شاعر.‏

2- الدخول إلى الاقتصاد الأدبي عن طريق القواعد البلاغية لا يعني تهميش الاقتصاد الأدبي وجعله تابعاً وحسب، وإنما يعني أيضاً تجميد الانتاج الأدبي وتقييد حريته وإن لفترة. والملاحظ أن الاقتصاد الأدبي هو ابن التقليد الأدبي ولكنه ليس ابن القواعد البلاغية. فالتقليد الأدبي هو النشاط الحر الناجم من الموقف الأدبي، فأنت عندما تجعل الآثم ينال جزاءه إنما تتبع تقليداً أدبياً لا تستطيع أن تغيره وإلا سقط أدبك ولم يأبه به أحد. أما كيف تجعل الآثم ينال جزاءه فهذا لا قاعدة له وإنما متروك للنشاط الفني الابتكاري الحر. ولا شك أن البلاغة -في التحليل الأخير- هي خلاصة التأملات في الفن الأدبي، ولكنها على يد المتحمسين المندفعين انقلبت إلى قوالب جامدة، وفقدت صلتها بالعلاقات الميثولوجية التي تحدد الأدب، والتي هي أصل اللغة والبلاغة والأدب.‏

البلاغة تسير في الطريق المعاكس، أي تقدم القاعدة وتطالب الضرب عليها ضرباً، على النقيض مما يطالب به التقليد الأدبي، الذي ينبع من موقف أدبي إنساني عام ذي أصل ميثولوجي لا يمكن مخالفته، كما لا توجد قاعدة متبعة، فأنت حر في اتباع آلاف الطرق للتعبير عن هذا الموقف الذي ترى نفسك منساقاً إليه بطبيعتك. إن الروائي الذي يعاقب الآثم إنما يفعل ذلك من تلقاء ذاته، وعندما لا يعاقبه، بل يدعه يرقى في سلم النجاح فإنه يدفعه إلى النجاح المعكوس، أي النجاح الذي يثير سخطنا ويجعلنا ناقمين على الكاتب نفسه، ونسرع فنعلن فشله على الملأ. من يفرض على الكاتب معاقبة الآثم؟ لا أحد سوى التقليد الأدبي.‏

من هذا التقليد العفوي تنشأ البلاغة الحقيقية. أما القواعد البلاغية فلا تنشىء أدباً، بل إنها تسهم في تجميد أساليب الأداء فيرى المنتجون الأدبيون أنفسهم وقد وقعوا في أشراك الكليشيهات والتعابير الجاهزة، فنحن مثلاً نقول ارتعدت فرائصه، وقلما استخدمنا تعبيراً جديداً من أمثال: تراءى له قلبه وهو يرتجف، أو شعر كأنه تمثال من جليد... أو غير ذلك. إننا عندما ندخل الانتاج الأدبي عن طريق البلاغة نكون وافقنا مسبقاً على التخلي عن حرية التعبير التي هي الشرط الأساسي للانتاج الأدبي وابراز التقليد الأدبي لا إعادته كما هو. إننا دائماً موجودون في قفص التقليد الأدبي، لأنه تقليد أخلاقي، لكن حرية التعبير هي التي تعيد هذا التقليد ضمن ما يسمى الجديد. والبلاغة لا تسهم في هذا التجديد، فهي دائماً تطفو على السطح ولا تغوص إلى عمق العملية الفنية.‏

3- البلاغة مرتبطة بالسفسطة، أي باللغو الكلامي، فحتى الآن لم نعرف سفسطائياً إلا كان ضليعاً بعلم البلاغة، بل إنه يستخدم هذا العلم لا لانتاج النص الأدبي، بل لإظهار البراعة وقوة المناظرة وحسب. فلا غرابة مثلاً إذا أيّد شيئاً هنا ورفض شيئاً هناك لا يختلف عن الشيء السابق في شيء، ولا غرابة في اتخاذ موقفين من ظاهرة واحدة. وقد اشتهر الإغريق بالسفسطائيين من أمثال سقراط وهيباس وبروتاغوراس وغورجياس... الذين برعوا في التلاعب اللفظي باعتماد البلاغة لتأييد فكرة مغلوطة أصلاً... فإذا نظرنا في أقوال سقراط - وهي الأوفر لدينا- لم نخلص إلى شيء. إنه يناقش في العدالة أو القانون أو الخير أو الجمال... ولكنه لا يوصلنا في النهاية إلى تحديد العدالة أو القانون أو الخير أو الجمال. إنه يستخدم البلاغة للغوص في السلبيات وليس للغوص في التحديات الإيجابية. وقد وصل الأمر ببروتاغوراس إلى نفي وجود الأشياء بتلاعبه البلاغي وتفتيقه اللفظي.‏

أما الأدب فمهما اعتمد على الفنون البلاغية، وحتى لو غدا كليشيهات جاهزة في أساليب الأداء اللغوي فإنه لا يصل إلى هذه الدرجة المتمحلة والمصطنعة، فلا يجوز أن يتجه إلى البلاغة كغرض مقصود لذاته. ولعل المقامات في الأدب العربي مثال بارز في هذا الصدد، فما كان منها ناحياً نحواً بلاغياً نجح في التنميط اللغوي وفشل في الأداء الفني، فالمسألة هنا أبعد من مسألة الصح والخطأ، إنها مسألة كيفية التواصل مع الآخرين، ومدى قبولهم لما نقول. لقد قدم الإغريق بسفسطتهم البلاغية نصوصاً إدهاشية، أي تقوم على الإدهاش، ولم يقدموا نصوصاً أدبية، والنصوص الإدهاشية لا تحترم التقليد الأدبي، بل لا تحترم أي تقليد.‏

ونعتقد أن سبب ذلك هو انجرافهم وراء الاقتصاد السياسي وليس وراء الاقتصاد الأدبي، فكلهم -عدا سقراط وبعض تلاميذه- كانوا يبيعون قدرتهم البلاغية، أي يعلمونها لقاء مبالغ متفق عليها. وهذا الموقف جرهم إلى المزيد من الاصطناع البلاغي والإيغال فيه، فقد خضعوا للسوق الاقتصادية وليس للسوق الأدبية التي لها قوانين مختلفة. ونظن أن هذا الإيغال هو ما أفقد البلاغة وهجها في العصر الحديث، فأخضعها النقد الأدبي لدراسات عادت بها إلى أصلها الميثولوجي، ولم يعد لتلك الفروع الكثيرة التي انتهت إليها البلاغة أي أهمية بالنسبة إلى الكاتب المعاصر، فقد غدت كالجداول اللوغارتمية، من غاص فيها ضاع ضياع الطفل في جرن معمودية فلورنسا، كما يقول دانتي.‏

الأدب وليد الفطرة، ينمو ويتطور وفقاً لأنماط الفطرة هذه، من غير قسر ولا فرض، ولا تقعيد جامد. بلاغة الأدب مستمدة من طقوسيته الميثولوجية التي تتنامى باستمرار وتتجدد كل يوم، من غير أن تتخلى عن الجذور الأولية التي تعتبر أساساً لا يمكن التخلي عنه، لا لأنه يفرض نفسه، بل لأنه منطلق كل بلاغة أدبية، فالسفسطة البلاغية في الأدب انتحار.‏

لقد أدت السفسطة البلاغية لدى البنيويين الفرنسيين إلى نتائج لم يقبل بها قسم كبير من المختصين، بل أن بعض الذين انتهوا إليها طفقوا يتراجعون عنها ويعيدون النظر فيها، وعلى الأخص في بعض اطروحاتها كموت المؤلف وموت النص. وهذا يدل على أن الغوص في بلاغة القول بعيداً عن مرجعيته الميثولوجية قد يؤدي إلى مثل هذه النتائج، في حين أن ربط الإنتاج الأدبي بهذه المرجعية مثمر النتاج، من غير ما حاجة إلى التقعيدات البلاغية المتشعبة، فالفن الأدبي ليس بلاغة إلا بمقدار ما تصدق البلاغة في حملها الينبوع الميثولوجي الأدبي، وإلا فإن الطغيان البلاغي يحرف الإنتاج الأدبي عن مساره ويغير من استراتيجيته.‏

4- ثم إن البلاغة تحاول أن تحدد ما لا يحدد. فهي تزعم مثلاً أنها علم مطابقة الكلام لمقتضى الحال، مع أن الحال لا يمكن تقديرها من قبل البلاغة، وبالتالي فإن البلاغة لا تستطيع أن تحدد مقدار الكلام المناسب لمقتضى الحال. وقد يوضح المثال التالي ذلك:‏

لنفرض أن ثلاثاً من الأمهات استيقظن صباحاً فوجدن أطفالهن يعانون من ارتفاع حرارة، ولا شيء آخر سوى هذه الحرارة. فهل يكون رد الفعل الكلامي واحداً؟... لا نعتقد ذلك، فقد تكتفي إحداهن بصرخة، وأخرى بدعوات لله والنبي ورقية على الرأس، وثالثة تفضل استدعاء الطبيب. إذا رفعنا العدد إلى ثلاثة آلاف أو ثلاثة ملايين امرأة، نحصل على زمر من ردود الفعل، وليس على رد فعل واحد، فأين مطابقة الكلام لمقتضى الحال؟‏

والمثال ذاته ينطبق على الأدباء، فقد يتريث أديب عند مشهد يمر به غيره مروراً عابراً، فما يحدد مقتضى الحال ليس القواعد البلاغية، بل النفس البشرية. وهذا يدل أن البلاغة هي علم الجزئيات لا يمكنها أن تحيط بالفلز الأدبي. إنها تصفه بتشعباته وفروعه ولكنها لا تفسر لنا سبب استمرارية التقليد الأدبي كمرتكز لكل اقتصاد أدبي. فالقول ان البلاغة هي علم مطابقة الكلام لمقتضى الحال نوع من السفسطة التي تشتمل على مغالطة داخلية، وهذا ما جعل البلاغيين يظنون أن الأدب هو علم الكلام فراحوا يحددون "الأصول" في الألفاظ والبدايات والخواتيم والتقديم والتأخير وأنواع الأفعال والأسماء. وقد وصلت البنيوية الفرنسية إلى الطريق المسدود مثل البلاغيين العرب الذين ساروا في هذا المنحى.‏

ثم إن بلاغة التعبير لا تنحصر في بلاغة الكلام، لأن هذه البلاغة تابعة للشغل الميثولوجي لانتاج الأدب، حتى أن بعضهم تطرف وصرح بأن كل كتابة هي خلق ميثولوجي، واللغة على أهميتها هي جزء من الدلالات الأدبية، وإلى جانبها كثير من الدلالات، وإلا كيف نفسر أن الأدب الإيمائي الذي ينتعش في هذه الأيام لم يفتقد الدلالات على الرغم من افتقاده اللغة؟‏

هناك تشبيه ناجح لبرغسون في كتابه "منبعا الأخلاق والدين" حول الثابت والمتغير استمده من النباتات النهرية، فكثيراً ما تنمو هذه النباتات من قاع النهر بساق طويلة باسطة أوراقها على سطح الماء الذي يحركها حسب اتجاهه، فتبدو لنا متحركة وهي ثابتة. فالكلام هو ظاهر الأدب ولا يجوز لنا الاقتصار على التوصيف السطحي. لا بد من المتابعة للوقوف على المرجعية الأساسية للأدب حتى تستقيم الأمور، وعندها يكون للبلاغة معنى آخر يطرح عنها تلك التراكمات الأجرومية المرهقة.‏

***
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:09 pm

بعد هذا التحديد للعلاقة بين الأدب والبلاغة ننظر في عناصر الاقتصاد الأدبي: الفلز الأدبي والواقع الاجتماعي والأنماط الأولية، ثم الصياغة الفنية والحرية.‏

هذه هي أهم عناصر الاقتصاد الأدبي، ولكن قبل الخوض بها نتريث قليلاً عند هذا المصطلح لنبين أهميته ودوره في الحياة والرابطة الاجتماعية والانتاج المادي.‏

قد نظن للوهلة الأولى أن الاقتصاد الأدبي مقتصر على الأدب ولا علاقة له بالحياة والرابطة الاجتماعية والانتاج المادي، مع أنه ذو علاقة وثيقة، فهو ليس تسلية ولا تزجيه لأوقات الفراغ، بل هو وسيلة من وسائل دفاع الإنسان عن نفسه وتحفيز قواه الروحية وتحويل العمل إلى نوع من الفرح وتمكين الإنسان من النظر إلى الآخرين بروح الرضا والمغفرة وتجاوز السيئات... وفي هذا ضابط للإنتاج المادي فلا يداخله الاستغلال والاستثمار والشهوات الذئبية. واليوم إذ يعمل الاقتصاد السياسي على إفساد الناس ودفعهم إلى التنافس المميت، نرى الاقتصاد الأدبي يعمل على تجنب قوانين الاقتصاد السياسي المدمرة، ويقيم نوعاً من العلائق السليمة، التي لو توافرت لابتعد المجتمع عن فوضى الانتاج ومضاربات السوق وهدر الطاقات.‏

سلطة الاقتصاد السياسي مستمدة من الجهاز المالك/ الحاكم، أما سلطة الأدب فمستمدة من القاعدة الروحية الواسعة للمجتمع، وأقصد بالقاعدة تلك الطبقات المبعدة عن مباذل الاقتصاد السياسي. إن الاقتصاد الأدبي يفعل فعله بصمت وهدوء، وعلى المدى الطويل. ربما تمر أجيال وأجيال على الناتج الأدبي من غير أن يفعل فعله ومن غير أن نلحظ له تأثيراً، ولكن لا بد من أن يؤثر في المجتمع فيوقف على الأقل الأنهيار الذي يدفعه إليه الاقتصاد السياسي. إنه غير مدعوم بقرارات وإجراءات رسمية كالاقتصاد السياسي، بالإضافة إلى أنه يفتقد إلى القوة المادية، فانتاجه روحي وإن انعكس على النشاط المادي.‏

سلطة الأدب تكون بإشاعة جو من الرهافة بعيداً عن الجو المشحون الذي يخلقه الاقتصاد السياسي. إن الأخلاق الأدبية هي التي تدفع الناس إلى التعاون في الجائحات والأزمات وليس الاقتصاد السياسي الذي يسببها، ولولا هذه الأخلاق لما استطاعت الهيئة الاجتماعية التغلب على الصعوبات أو التخفيف منها. وكلما تقلصت الأخلاق الأدبية امتدت واتسعت وسادت أخلاق الاقتصاد السياسي القائمة على شريعة الشهوة الذئبية، التي تجعل الملكية محركاً أولياً لكل حياة البشر كأنهم لم يخلقوا إلا ليتملكوا.‏

يرمي الاقتصاد الأدبي إلى السيطرة على المادة لا السيطرة بالمادة، فهو يخاطب الروح الإنسانية لتترفع عن الصراع المادي، بغية الخلاص من الجرائم التي جرها الاقتصاد السياسي. إنه يدعو إلى ملكية القناعة مقابل ملكية الجشاعة التي يدعو إليها الاقتصاد السياسي. إنه يدرك أن الاضطراب في المجتمع مرده إلى الناحية المادية، ويرى أن هذا الاضطراب الشنيع لا ينتهي إلا إذا قامت الأخلاق الأدبية مقام الأخلاق المادية. قد يتحدث عن الملائكة والعالم العلوي ويصف الشياطين والعالم السفلي وقد يستخدم الجن والعفاريت, لكنه في المحصلة يرمي إلى إقامة علاقات روحية توجه وترشد العلاقات المادية. ومن دون هذا التوجيه لا يمكن الخلاص من ربقة الاقتصاد السياسي القائم على الاستغلال وإذلال الكرامة الإنسانية. وقد عرفت البشرية عصوراً ساد فيها هذا الاقتصاد فعرفت السلام والقناعة وفرح العمل، لا الحرب والجشع وحمى التنافس.‏

كل مجتمع يتطور فيه الاقتصاد الأدبي، ويزداد عدد المستهلكين، يميل إلى التوازن ويتخلص من معظم العقابيل التي يخلقها الاقتصاد السياسي ذو السطوة والسيطرة على السوق الاستهلاكية، ويتوقف هذا على نسبة الاستهلاك الأدبي. وقد لوحظ أن البلاد التي يحقق فيها الاستهلاك الأدبي بنسبة عشرين بالمئة تميل إلى التوازن. وفي بلادنا لا تتجاوز نسبة الاستهلاك الأدبي نسبة 0.045 بالمئة، فنحن مقصرون جداً في هذا المضمار. وقد لوحظ أيضاً أن الأحياء التي يزداد فيها الاستهلاك الأدبي تخلو من وطأة العلاقات الاجتماعية الشائهة. ولا علاقة لهذه الأحياء بالمستوى المادي، إذ ليس من الضروري أن تكون من الأحياء الغنية، وإن كانت الأحياء المتوسطة هي الأغلب. وعندما يمر المستهلكون الأدبيون بالأحياء الغنية يقولون جهارة انها أحياء الجرائم والمفاسد الصامتة، فهي المسؤولة عن انهيار العلاقات الاجتماعية في كل طبقات المجتمع.‏

في رأي الاقتصاد الأدبي أن السلعة المادية تبدأ بالروح قبل أن تخرجها اليد والآلة إلى السوق. وهي تحمل صفات هذه الروح معها فإن كانت روحاً طيبة فإنها سلعة مفيدة وطيبة، وإن كانت روحاً خبيثة فإنها سلعة ضارة ومفسدة. الروح هي التي تحمّل السلعة رسالتها: تنزل إلى السوق لسد حاجة وتعود بربح الكفاية، أم تنزل لتستغل الحاجة من أجل سرقة ما في الجيوب أو منافسة ما في الأسواق أو تدمير خصوم أو فرض سلطة أو استغلال ندرة أو إنشاء مملكة الثروة؟‏

وهذه الروح لا تنشأ إلا من الأخلاق الأدبية، أي من الاستهلاك الأدبي الواسع والعميق. انظر إلى أحياء المدينة: إنها تخضع لاقتصاد سياسي واحد ودستور واحد وأنظمة واحدة، ولكنها تختلف باختلاف الاستهلاك الأدبي، فالأحياء التي يدخلها الكتاب -أقصد طبعاً الكتاب الأدبي لا أي كتاب- هي الأرقى والأهدأ، هي الأرقى أخلاقاً والأهدأ اجتماعاً والأوثق علاقات. وعندما تدخل الروح الأدبية في عملية الانتاج المادي فإنها تغير من هدف هذا الانتاج بالقضاء على جرثومة الاقتصاد السياسي، وهي الشهوة الذئبية النهمة التي لا تعرف قناعة ولا تشعر بشبع، أو كما يقول انجلز " نزع روح الاستغلال من السلعة" إن السلعة المادية لا تعرف الانحياز ولا تعي هدفها. إنها حيادية ولكننا نحن الذين نحملها الرسالة ونطلقها لتكون حملاً أو ذئباً، لتكون لنا أو علينا، لتكون معمّرة أو مدمّرة. وكل محاولة خارج هذا الإطار لا معنى لها ولن تؤدي إلى نتيجة مرغوبة. وهذا هو منطلق دعوتنا إلى ضرورة توطيد ما سميناه "علم الاقتصاد الأدبي" الذي يؤدي إلى غايات إنسانية كبرى والذي يحول السلعة إلى معادلة إنسانية.‏

بعد أن بينا أهمية العلم الذي ندعو إليه في توجيه الانتاج المادي ننتقل إلى مناقشة أهم عناصره، وهي عناصر متآزرة، نفصل بينها من باب التبسيط:‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثالث موجز تاريخ الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:10 pm

الفصل الثالث موجز تاريخ الاقتصاد الأدبي

يجعل الاقتصاد السياسي تاريخ البشرية مقسماً إلى خمس تركيبات اقتصادية سياسية هي المشاعية فالعبودية فالإقطاعية فالرأسمالية فالإشتراكية. ويضع لكل تركيبة خصائصها المادية التي تستحضر أوتوماتيكياً، أو بالتدريج، البنية الفوقية الخاصة بها، ويدرس أدوات الانتاج وطريقة انتاج كل مرحلة على حدة، زاعماً أنه يضع يده على مفاتيح التطور والتقدم. ولا أعلم ما الجدوى من هذه الدراسة مادامت العلة قائمة في كل التركيبات. فما الفرق بين القمع الإشتراكي والقمع العبودي؟ ما الفرق بين التجويع الرأسمالي والتجويع الإقطاعي؟ ما الفرق بين رفيق يسرق جمهورية كاملة من جمهوريات السوفيات وملك قديم يجعل مملكته ملكية خاصة له؟ ما الفرق بين سجن شيد بالحديد وسجن شيّد بالطوب المشوي؟ ما الفرق بين العاطلين عن العمل في أكبر الدول الحديثة وأسرى الحرب المهملين في مقالع الأحجار؟ ماالفرق بين احتكار السلاح الذري اليوم واحتكار أدوات الحرب والقمع بالأمس؟‏

الاقتصاد الساسي ليس علماً وليس مذهباً إنسانياً. إنه "رقية" كهنوتية تعلمنا كيف نملك وكيف نتاجر وكيف نفرض إرادتنا على غيرنا. إنه كتاب لتعليم فن السرقة واضطهاد الآخر، إنه مذهب بلا محبة، فلابد من النضال لفضحه وإظهار مدى تهافته، وابتعاده عن القلب البشري، مرجل الانتاج الأدبي، بل مرجل التنظيم الإنساني الحقيقي، شريطة أن يكون نظيفاً من أي نزوع إلى الملكية الاستلاطية.‏

لقد أخذ الاقتصاد السياسي مقولاته التاريخية من الاقتصاد الأدبي، ولكنه أطلق عليها أسماء جديدة، وجعلها تسير بعكس مقولات الاقتصاد الأدبي. وبدلاً من أن يفضح الوسائل الجديدة والخطيرة للحيازة راح يطريها ويحللها ويعلمنا طرائقها، بل يرى في كل وسيلة جديدة خطوة تقدمية في تاريخ البشرية، فلا عجب إذا هلل لاختراع الذرة واعتبرها أعظم تقدم في تاريخ البشرية، بينما شكك الاقتصاد الأدبي فيها ورآها كما رأى غيرها وسيلة بيد الأقوياء لبسط السيطرة واحكام الهيمنة. إن شرط الاقتصاد الأدبي هو نظافة القلب البشري، فمن غير هذه النظافة فإن كل "خطوة" هي خطوة نحو الهوة. وكل إنتاج بعيد عن نظافة القلب البشري هو إنتاج ضار، فلو أنتجت الأجهزة الحديثة آلاف النسخ من المسيح المسالم لاستخدمت هذه النسخ استخداماً مضاداً لبني البشر مثلما استخدمت الكنيسة الغربية النسخة القديمة للمسيح من أجل شن الحروب الصليبية وإقامة محاكم التفتيش وفتح أميركا...‏

السؤال المحرج للاقتصاد الأدبي هو: هل يمكن الحصول على قلب نظيف حتى نبني عليه استراتيجية مختلفة عن استراتيجية الاقتصاد السياسي؟... سنحاول الإجابة في غير هذا البحث.‏

إن الاقتصاد الأدبي يرى أن تاريخ البشرية يسير من التقدم إلى التخلف على الضد مما يراه الاقتصاد السياسي، ولهذا يرى أن العصر الذهبي يقبع وراء البشرية وليس أمامها، كما يريد إيهامنا الاقتصاد السياسي. فالبشرية بعد هذا العصر انتقلت إلى العصر الفضي فالبرونزي، وهي الآن في العصر الحديدي.‏

وإذا كان لابد من أن نشير إلى تركيبات أو مراحل تاريخية للاقتصاد الأدبي، فإنها موجودة منذ القديم جداً، وردت على لسان بروميثوس، وهي العصور التي أشرنا إليها، والتي كررها بعد بروميثوس كثير من الشعراء والأدباء، من هزيود في "الأيام والأعمال" وحتى ادغار آلن بو في قصيدته "الأجراس". وهي عقيدة أدبية راسخة يؤمن بها كل المنتجين في الاقتصاد الأدبي في كل أنحاء المعمورة. وقد أخذوا هذه العقيدة عن بروميثوس، كما أخذوا نبوءاتهم من كاسندرا بريام، فالعقيدة الأدبية هي بنت الأسطورة وحدها، والنبوءات هي بنت الصدق وحده، الذي مارسته كاسندرا اقتداء ببروميثوس. والأسطورة تمثل النظرة الواقعية، واقعية الأحلام البشرية، لذا فإن النبوءات التي تصدر عنها تكون دائماً واقعية وتتحقق لأنها تقيس الواقع بمقياس المثال، فتلمس خلله، وتحكم عليه سلفاً بالفشل مادام لا يسير باتجاه المثال، فكل نبوءة كارثة.‏

العقيدة الأدبية بسيطة جداً، شرحها بروميثوس في نبوءة عجيبة وفريدة من نوعها. وقد ظهرت هذه العقيدة عندما انحاز بروميثوس إلى البشر، مع أنه من الأسرة المقدسة، فهو إله من الآلهة الأولمبية، إلا أن الآلهة ناصبوه العداء، وبالأخص زيوس كبير الآلهة الذي كان يسعى إلى تعزيز هيمنته، لكن الإنسان وقف معه، فالذي فك قيوده هو هرقل الذي كان إنساناً وإن كان نصف نسبه يرجع إلى كبير الآلهة.‏

قبل ظهور بروميثوس لا تجد تاريخاً للاقتصاد الأدبي، لأن المصالحة بين الإنسان والطبيعة كانت هي السائدة. لكن إصرار زيوس على إفناء البشر ووقوف بروميثوس إلى جانبهم هو الذي جعل الاقتصاد الأدبي يخضع للتطورات، بعد أن ولى العصر الذهبي، وتلته العصور الأخرى: الفضي والبرونزي والحديدي، في انحدار لكل القيم البروميثية.‏

نحن نحترم بروميثوس لأنه -كما هو شائع لدينا- سرق النار الالهية وقدمها للإنسان فطار صواب زيوس ودعا المجمع الأولمبي إلى الانعقاد وحكم على بروميثوس بالصلب على جبل القفقاس فكان أول فاد يبذل جسده من أجل البشر. لكن الحقيقة شيء آخر مختلف كل الاختلاف، فسرقة النار كانت ذريعة اتخذها زيوس لإدانة بروميثوس. أما السبب الحقيقي فله قصة خفية حاولت الآلهة إخفاءها عن البشر حتى لا تشد من عزائمهم، وحتى لا تتمسك بربها الفادي الذي بذل نفسه من أجلها، بل إنها حاولت تشويه سمعة الرب الذي علمنا خلاص النفس.‏

تبدأ القصة منذ أن حارب الآلهة المشرقون تلك الطياطين الشريرة التي كانت تريد القضاء على كل حي في الكون من نبات أو حيوان أو إنسان. وقد انضم بروميثوس إلى الآلهة وحارب إلى جانبهم تلك القوى الطبيعية المدمرة التي خلقتها الطبيعة مع الآلهة في آن واحد. وبعد انجلاء المعركة وتقييد تلك الملخلوقات في قاع الهوة (كوستوس) تنبأ بروميثوس بأن الصراع سوف ينشب بين أعضاء الأسرة المقدسة ذاتها. وبروميثوس كلمة تعني الفكر المتقدم، أي الذي يرى المستقبل. وبالفعل فقد اقتتلت الأسرة المقدسة إلى أن نجح زيوس في إزاحة أبيه عن العرش واعتلاء سدة الأولمب، بعد أن تزوج من هيرا التي كانت نصيراً كبيراً له ولحكمه.‏

بعد أن استتب الأمر لزيوس وصار السيد المهيمن الذي لا يستطيع أن يقف في وجهه أحد، التفت إلى حياة البهجة واندفع وراء ملذاته وقد اطمأن إلى أنه لا منافس له، فأكل الأمبروز وشرب النكتار، بل اختطف غلاماً جميلاً من بني البشر هو غانيميد ليكون ساقيه في الأولمب، لكن زيوس ظل يشعر بالرغبة في معرفة المستقبل. وهذه المعرفة لا يملكها سوى بروميثوس، الفكر المتقدم، فزاره سراً واستنطقه... ونطق بروميثوس فأطار صواب زيوس. قال له: سوف يزول حكمك في أواخر العصر الحديدي، وهو العصر الذي يأتي بعد انصرام العصور الذهبية والفضية والبرونزية. وهذه العصور هي التركيبات التاريخية أو المراحل التاريخية التي تتراجع باستمرار في عرف الاقتصاد الأدبي.‏

- من يستطيع أن يقوم بأعمالي العظيمة حتى يحل محلي؟ سأل زيوس مستنكراً.‏

- عندما يستطيع أن يقوم بأعمالك فسيحل محلك. أجاب بروميثوس.‏

- من يملك سلاحاً مثل سلاحي؟ إنني أملك الصاعقة وبضربة واحدة أستطيع أن أدمر الأرض والقمر وأن أقضي على كل الأعداء كما فعلت بالطياطين ودفعتهم إلى الهوة السحيقة في أعماق الأرض، إلى كوسيتوس.‏

- سيأتي يوم في أواخر العصر الحديدي يظهر فيه سلاح يدمر الأرض ويدمر الأولمب. إنه سلاح يعرف سر الأشياء فلا يبقى باب في وجهه مغلقاً. وبهذا السلاح سوف ينتهي حكمك.‏

- ومن سوف يحوز هذا السلاح؟‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:10 pm

هنا صمت بروميثوس ورفض أن يسمي ذاك الذي سوف يحل محل رب الأرباب زيوس. فعرف زيوس أن البشرية هي الخصم الأكبر له وأن السلاح سوف يظهر فيها، فعمد إلى إذلال البشرية لتبقى قطيعاً يركع ويصلي له ولبقية الأرباب. وكان دائماً يطرب لكل الطقوس التي تقام له ولكل الأضاحي التي تقدم للآلهة.‏

كتم زيوس أخبار ما دار بينه وبين بروميثوس عن الآلهة، فلم يرغب في إفشاء نبوءة بروميثوس حتى لا يتجرأ أحد من الآلهة على التمرد. وبذل جهده لمعرفة خليقته فلم يبح له بها بروميثوس، الذي كان يعرف أن "العلم" سوف يمتلك أسلحة جبارة تقضي على سلطة زيوس، ولكنها ستكون وبالاً على البشرية إن لم تحسن توجيهها، وإن لم تسترشد بربات الفنون، فالعلم سوف يتقدم تقدماً جارفاً في أواخر هذا العصر الحديدي المشؤوم، وسوف يكون مدمراً إن لم يرشده القلب النقي.‏

منذ ذلك التاريخ نشب الصراع بين الآلهة والبشر. فقد كان الإنسان خنوعاً يقدم الأضاحي لزيوس والأولمب من غير أن يذوقها. لكن بروميثوس علّم الإنسان ما لم يعلم، علمه كيف يقاسم الآلهة هذه الأضاحي، فجعل الضحية قسمين: قسم كلّه لحم ومغطى بجلد، وقسم كله عظام ومغطى بطبقة من الدهن. وقد اختار زيوس القسم الثاني لاعتقاده أنه القسم الذي يليق بالآلهة ولكن سرعان ما عرف الحقيقة وكشف الخديعة ودور بروميثوس فيها فكظم غيظه وحفظها لبروميثوس منتظراً الفرصة السانحة لإخضاعه وانتزاع السر من صدره.‏

جاءت الحادثة الثانية لتدل على عناد بروميثوس، فقد عزم زيوس على إغراق الأرض بالطوفان ليهلك البشرية المناوئة بحجة أنها تكفر بالنعمة الآلهية، فلا يبقى منها مخبر. لكن بروميثوس علّم ابنه ديوكاليون كيف يصنع فلكاً كبيراً ويحمل عليه زوجته وأهمّ مستلزماته، ففعل كل ذلك، وزيوس لا علم له، إذ كان يشرب الخمرة من يد غانيميد في الأولمب وهو ينظر إلى البشرية تفنى. وبعد تسعة أيام نجا ابن بروميثوس في فلكه الذي استقر على قمة البرناس، وهي القمة الوحيدة التي لا تصل إليها مياه الطوفان ولا سلطة الآلهة، وهذه أهم نقطة مشرقة في تاريخ الاقتصاد الأدبي، فلنقف عندها قليلاً لأنها تشكل صلب العقيدة البروميثية.‏

لقد رسا فلك ديوكاليون على قمة البرناس، لا على قمة أرارات ولا في أي من جبال أرمينيا أو إيران، فلماذا اختار بروميثوس قمة البرناس وليس غيرها؟‏

لقد اختار بروميثوس قمة البرناس لأنها القمة الوحيدة التي تستطيع الحفاظ على رقي البشر، وفيها الوسيلة الوحيدة لخلاصهم. فماذا فيها؟‏

فيها ربات الفنون إلى جانب آلهة الحكمة والخمرة من أمثال أبولو وأثينا وديونيسوس. وهذه هي المتلازمات الثلاث لخلاص بني البشر: الفن والحكمة والخمرة، أي مهارة اليد والعقل والقلب. أما ربات الفنون فهن تسع يمثلن الفنون التسعة التي لم تستطع البشرية أن تزيد عليها فناً جديداً ولا أن تحذف منها فناً واحداً. وكل هذه الفنون يمكن جمعها تحت كلمة "الأدب" فيكون البرناس هو القمة الأولى في العالم التي قامت بإنتاج الأدب ونقله إلى الإنسان ليحقق خلاصه، وما كان أصدق شوبنهور عندما أعلن في العصر الحديث أنه لا خلاص للإنسانية إلاّ بالفن، وبالفن وحده، وأي تقدم في أي فرع من فروع المعرفة: علم، فلسفة، اقتصاد... سيكون مدمراً خارج مظلة الفن.‏

من هنا نعرف لماذا دفع بروميثوس ابنه لبناء الفلك قريباً من جبل البرناس، فهو يريد أن يكمل له عملية الخلاص، التي لا تتم أبداً من دون الوصول إلى نبع الانتاج الأدبي.‏

نجا ديوكاليون وزوجته بيرها من الطوفان، وعرفا من قمة البرناس كيف يكون الإنتاج الأدبي، فمنذ ذلك التاريخ والإنتاج الأدبي لم ينقطع، وبسبب تعرفهما على ربات الفنون أعادا خلق البشرية من الأرض إذ ألقيا بحجارة خلفهما فنبتت الأرض البشر مرة ثانية، فالفن واقعي مهما تعددت مذاهبه لأنه سلاح الخلاص بيد الإنسان.‏

نحن من سلالة بروميثوس الذي انحاز إلى جانب الإنسان وعلمه ما لم يعلم، بل يكفيه أنه علمه الفن وسيلة للخلاص. ولكن البطن بستان كما يقولون في الأمثلة الشعبية، فلا غرابة إذا اختلفت المواهب الفنية لدى البشر، وإن كانت في تلك الأيام متقاربة.‏

نتساءل: لو أن الإنسان نجا من الطوفان ولم يرس الفلك على قمة البرناس، ولم يطلع على أصول الإنتاج الأدبي، فماذا كان يحصل له؟‏

ربما يبقى جنسه مستمراً ولكنه استمرار الوحشية مادام بعيداً عن الأدب والإنتاج الأدبي، فحتى يكون إنساناً حقاً لابد من أن يمتلك وسيلة الخلاص الخاصة بالإنسان وحده: الأدب.‏

يبدو أننا انسقنا وراء نقاش أهمية الأدب للإنسان وكيف رفعه فوق مستوى البهيمة، ونسينا تاريخ الإنتاج الأدبي الذي هو تاريخ الصراع بين الأدب والقوى الأخرى المناوئة له، القوى التي تشد الإنسان إلى الحيوانية ومنها الاقتصاد السياسي، فلنعد إلى ما كنا فيه.‏

لم يستطع زيوس بقواه الغاشمة أن يقضي على الإنسان. طاش صوابه بعد أن علم كيف حط الفلك على قمة البرناس واكتسب الإنسان وسيلة الخلاص. غيّر من خطته، فلم يعد ناوياً على تدمير البشرية، بل جعل همه يتركز في إبعادهم عن التقدم فحرمهم من النار المقدسة، فما كان من بروميثوس إلا أن سرق النار وقدمها للإنسان الذي أحرز بها تقدماً كبيراً وصار يرى الكون رؤية أوضح.‏

هنا ثارت ثائرة زيوس فجمع البانثيون الأولمبي وألقى خطبة رنانة أدان فيها بروميثوس زاعماً أنه علّم الإنسان ما لم يعلم مما جعله يتمرد على الآلهة ويستخف بها ولا ينصاع لأوامرها. أين أولئك البشر الذين كانوا يركعون وهم يرتعدون مبتهلين للآلهة أن تسعفهم؟ لقد تغير البشر وصاروا ينتجون الأدب وهو إنتاج كان خاصاً بالآلهة يوم لم يكونوا يعرفون العداء ولا الحقد... وطالب في نهاية خطبته بصلب بروميثوس على جبل القفقاس وتسليط نسر ينهش كبده نهاراً لينمو ليلاً في عذاب أبدي مرير.‏

لماذا أخضعه للعذاب فقط؟ لينزع من صدره السر فيعرف من سيحل محله. لقد أخضعه للعذاب لانتزاع المعلومات كما تفعل أجهزة المخابرات في عالم اليوم. لم يدفع به إلى الهوة "كوسيتوس" لأنه يريد أن يعرف ذاك الذي سيطيح به فيتجنب الكارثة. فسرقة النار كانت ذريعة. السر يكمن في معرفة اسم وريثه ومغتصب عرشه.‏

لكن بروميثوس ظل صامتاً إلى أن حرره الإنسان فرد جميلاً بجميل، فقد مر به البطل اليوناني هرقل واستمع لقصته فانقذه متمرداً على قوانين الآلهة. وبذلك عاد بروميثوس ليكون عوناً للإنسان.‏

أيقن زيوس أن مثل هذه الخطة لن تنجح، فتخلى عنها وعمد إلى خطة لئيمة تختلف عن الخطة السابقة القائمة على العنف. لقد لاحظ زيوس أن العنف لا يؤدي إلى نتيجة، فتخلى عنه ومال إلى طريقة جديدة هي تقديم إغراءات للإنسان الذي نجا من الطوفان مبرأ من عيوبه السابقة، وكثر نسله وساد الأرض، إذا ما اتبعها ضل طريقه ونسي تعليمات ربات الفنون، وانخرط في صراع محموم يقضي عليه وعلى نسله. وبذلك يعود إلى بيت الطاعة ويخضع للآلهة كما كان قديماً يوم لم يكن يعرف النار المقدسة.‏

جمع زيوس البانثيون الأولمبي وزعم أنه يجب أن يكافيء هذا الإنسان، لأنه مخلوق عظيم فقد أظهر بطولة فائقة أمام الصعوبات التي اعترضت مسيرة حياته، فأوعز إلى هيفستوس أن يصنع له امرأة من ماء وطين وأن يجعلها من أجمل الخلق طرا، ففعل وقدم له هذه الأنثى فسماها "باندورا" أي هدية الآلهة للإنسان. فكانت آية في الجمال والإغراء. وحمّلها صندوقاً فيه كل أنواع الأمراض القاتلة، والمغريات التي هي أشد فتكاً من الأمراض، إلا أن ابولو دسّ في هذا الصندوق شيئاً عظيماً من دون أن يعلم أبوه زيوس. هذا الشيء هو الأمل.‏

نصح زيوس باندورا إلا تفتح غطاء هذا الصندوق، وهو يعلم أن باندورا لن تقوى على ذلك، أنه يعرف طبيعتها، أليس هو الذي قدم المواصفات لهيفستوس؟‏

كان زيوس قد تصالح ظاهرياً مع بروميثوس. وعربوناً لهذه المصالحة قدم له باندورا مع صندوقها لكن بروميثوس رفضها رفضاً قاطعاً. وبما أنه يعرف أخاه أبيميثوس (الفكر المتخلف الذي لا يفكر بالمستقبل) معرفة جيدة فقد هرع إليه وسهر معه ليلة بكاملها محذراً من قبول الهدية التي عرضت عليه قبله، والتي سوف تعرض على أبيميثوس بعد ذلك. وفي تلك الليلة حدث بروميثوس أخاه طويلاً عن أساليب الآلهة في إفساد البشر عن طريق المغريات، بل قال له: إذا رفضت المرأة فارفض أيضاً صندوقها فالآلهة لا تهدي الإنسان ما يخلصه ليظل تابعاً لها.‏

- وماذا يحتوي الصندوق؟ سأل أبيميثوس أخاه.‏

- كل ما يبعد الإنسان عن البرناس، فيظل ضعيفاً جاهلاً يركع أمام القوى الغاشمة.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:11 pm

أبيميثوس الذي لا يفكر بالمستقبل ما إن رأى باندورا حتى خر شاكراً الآلهة على هذه الهدية النفيسة فقبلها وتزوجها، وما هو إلا وقت قصير حتى دب الوسواس في صدر باندورا، ففتحت الصندوق لتنطلق منه الأوبئة: فيروسات من كل نوع كالطاعون والزكام والتهاب الكبد وميكروبات مختلفة كالسل وبقية الأمراض الفتاكة من كل صنف ولون، فامتلأت الأجواء بهذه الجراثيم المخيفة التي ما إن تدخل بدناً حتى تميته أو تذيقه الموت وهو على قيد الحياة.‏

هذه هي الأمراض التي تفتك بالأبدان، أما الأمراض التي تفتك بالروح فكثيرة جداً، وكلها انطلقت من الصندوق: الغش والخداع والكذب والتزوير والجشع والغضب والكبرياء والشهوة الذئبية التي تجعل الإنسان ينقض على الإنسان، وحب الثروة والأنانية والطيش والتهور والطمع... باختصار: إن صندوق باندورا أطلق كل ما يعادي قمة البرناس وربات الفنون. سارعت وأطبقت الصندوق ولكن لم يكن قد بقي سوى الأمل، فأطلقته.‏

هنا، بعد فتح الصندوق تساوى الناس من جهة واختلفوا من جهة ثانية. تساووا أمام الأمراض التي تفتك بالبدن، لكنهم اختلفوا في أمراض الروح، إذ انخدع -وينخدع الآن- قسم منهم بهذه الأمراض النفسية وظنوها سبيلاً إلى السعادة، وهو القسم الأكبر والأغلبية العظمى، وقسم لم تخدعه هذه المغريات وظل محافظاً على العقيدة البروميثية ومتمسكاً بالتقليد البرناسي في إنتاج الأدب والفن. لقد انقسم الناس إلى بروميثيين وزيوسيين.‏

بعد هبوط باندورا كانت الأغلبية لصالح البرناسيين، وقد استمرت هذه الأغلبية حتى القرن الثالث بعد الميلاد. وقد سعت هذه الأغلبية للتخلص من هيمنة زيوس الوحدانية فاندفعت إلى الإنتاج الأدبي والفني بغزارة وبلغت الأوج في القرن الثالث قبل الميلاد، ففي عصر بركليس مثلاً، قرر مجلس الشيوخ زيادة المبلغ الذي يدفع لكل من يحضر المسرح، وقد شجع هذا الإجراء الفلاحين الذين كانوا يهبطون من قراهم لمشاهدة المسرحيات والمباريات الأولمبية إينما أقيمت، فكانت التربية الجمالية أساساً للمواطنة حتى أن العبد كان عندما يصبح منتجاً أدبياً يمنح وثيقة الحرية من مجلس الشيوخ، ولكنه لو قدم من الإنتاج المادي ما يعادل عشرة أضعاف الثور لما حصل على وثيقة الحرية. كانوا ينظرون إلى العبد كما ننظر اليوم إلى الآلة، والانتقال من الآلية إلى الإنسانية لا يكون بالإنتاج المادي، بل بالإنتاج الأدبي والفني، أي بالانتساب إلى البروميثية. وقد ازداد الاستهلاك الأدبي ازدياداً كبيراً في تلك الفترة، فمن النادر أن تقابل يونانيا لا يعرف التراث البرناسي.‏

لقد كانوا واعين أن الاقتصاد الأدبي يجب أن يكون القائد والموجه لكل النشاطات الأخرى، فلم تكن الأعياد والمباريات الرياضية تبدأ إلا بعد تقديم العروض المسرحية والمنافسات الأدبية، وتعليلهم أن المرء لا يستطيع استيعاب الجمال في الطبيعة والمجتمع إلا إذا كان بروميثياً يرفض الهبات الزيوسية المغرية التي تبدو عظيمة في ظاهرها، بينما هي لئيمة في حقيقتها، فالزيوسيون لا يقدرون دور الأدب والفن ولا يفهمونهما، وإن كانوا يستغلونهما لصالحهم، سواء كانوا من الحكام أو من المواطنين. ولذلك نجد أن الحكام كلهم أو معظمهم، وإلى جانبهم الأغنياء يتمسكون دائماً بالهبات الزيوسية سراً بينما يعلنون الهبات البرناسية لاستغلالها تمتيناً لوضعهم.‏

في تلك الفترة كان الاقتصاد الأدبي مقياساً للمواطنة وموجهاً للنشاطات فعلاً، بل يمكن القول إنه كان يحظى بهالة من الاحترام وبشيء من القدسية. والحادثة التي وقعت لبركليس تدل على ذلك فقد كان بركليس يشاهد إحدى المسرحيات، فأراد أحد الأغنياء، وهو طبعاً من الزيوسيين، أن يهينه لأنه يقف أمام مشاريعه الاقتصادية، وكان صاحب صناعة جلدية متطورة، فداس على ثوبه وشتمه لما أصدره من قوانين تحد من مصالحه.‏

لم يرفع بركليس عليه دعوى طيلة وجوده في السلطة، لأنه كان يعتبر نفسه حاكماً، عليه أن يتحمل إساءة الآخرين. ولكن بعد أن ترك السلطة أقام عليه دعوى بتهمة الإساءة للفن والجماهير لأنه لم يحترم المسرح الذي كان فيه، كما لم يحترم الجمهور الكبير من المشاهدين، فهي دعوى باسم الحق العام وليست دعوى شخصية. وقد انقسم المواطنون قسمين، فالبروميثيون وقفوا إلى جانب بركليس، والزيوسيون من بعض المسؤولين والأغنياء وقفوا إلى جانب الدباغ الغني. ونظراً لأن البروميثيين كانوا الأكثرية وكان الجو العام مؤيداً لهم فقد ربح بركليس الدعوى.‏

أعظم آيات الأدب والفن ظهرت في تلك الفترة، لكن الصراع بين الزيوسيين والبروميثيين كان عنيفاً وإن كان صراعاً خفياً لم يظهر على السطح بسبب غزارة الإنتاج الأدبي. وقد استخدم الزيوسيون كل "المواهب" التي كانت في صندوق باندورا من جشع وطمع واستغلال... كأسلحة فعالة في تغيير المجتمع واعتمدوا على الثروة في إفساد النفوس وتأليب الناس ضد البرناس.‏

كان الزيوسيون يسعون إلى فرض هيمنة الإله الواحد وإقامة حكومة زيوسية واحدة تفسح المجال أمام القوى المادية لتنطلق وتتطور، وقد برز سقراط كممثل للزيوسيين في السلك الفلسفي، فنشر عقيدة الإله الواحد التي كانت أمنية زيوس لتعزيز سلطته، وأيد الحكومة الدكتاتورية ورفض الديمقراطية التي كانت شعاراً لبركليس وكل البروميثيين، وطالب بإبعاد المنتجين الأدبيين عن الحكم. وقد تجلى فكر سقراط في مؤلفات تلميذه أفلاطون وبخاصة في "الجمهورية" حيث أبعد الأدباء والفنانين عن هذه الجمهورية. وقد جاء كتاب الجمهورية مشرعاً للاقتصاد السياسي والإنتاج المادي، فكل طبقات الشعب في الجمهورية هي طبقات منتجة مادياً تقف على رأسها مجموعة من الفلاسفة يقودها رئيس لهم. إنه الهرم الزيوسي: إله واحد، كتاب واحد، شعب واحد، على النقيض من البروميثيين تماماً، إذ أن البروميثيين، كما لاحظنا، أكدوا على الإنتاج الأدبي كمرشد وكمقياس وكشرط للمواطنة. وقد سمى أفلاطون هذا الإله "الديمرجوس" وأسبغ عليه الصفات التي ستبرز في الديانة الوحدانية المسيحية. ولهذا نعتبر كتاب الجمهورية أول كتاب في الاقتصاد السياسي وقف في وجه الاقتصاد الأدبي.‏

الدعوى التي أقيمت على سقراط تذكرنا بدعوى بركليس على صاحب صناعة الجلود، فهي دعوى "الحق العام" ليس فيها أي اتهام شخصي، فالرجل كان يدعو إلى إله واحد، رافضاً بقية الآلهة، زاعماً أن الكون الواحد يفسد إن كان فيه أكثر من إله واحد، وهذه أكبر جريمة في نظر البروميثيين، لأن هذا الزعم يقود إلى الدكتاتورية. وبالفعل فقد أخذ على سقراط أنه من أشد أنصار الدكتاتورية بل إن الدكتاتوريين الذين استلموا زمام الأمور لفترة كانوا من تلاميذه.‏

تشكلت هيئة المحلفين، على جاري العادة، وزادت على خمسمئة عضو. وقد انقسم الأعضاء إلى قسمين، فالزيوسيون صوتوا إلى جانب سقراط، والبروميثيون صوتوا ضده وفازوا بالأغلبية وأدين سقراط وخير بين الموت أو ترك أثينا، المدينة التي كانت قدوة في تلك الأيام. وقد اختار سقراط شراب الموت "الشوكران" على مغادرة المدينة، وبيده تجرع كأس الموت.‏

كان الاقتصاد الأدبي أساساً لبنية المجتمع، وقد بدا واضحاً في الدستور الأثيني، فمثلاً لا يحق للمواطن أن يرشح نفسه لمجلس الشيوخ أو أن ينتخب غيره إذا لم تتوافر فيه الصفات الأدبية، فهذا الحق يفقده كل من إساء لزوجته وأولاده إساءة أدبية كالشتم والإهانة، وكل من أساء للآداب والفنون وكل من أهمل حراثة حقله بحجة أنه غني ولا يحتاج إلى منتوج الحقل، وكل من تلاعب بقوت الشعب الروحي والمادي، وكل من فر من معركة وكل من اغتصب امرأة، وكل من اتخذ زوجة ثانية إلى جانب زوجته، فلم يكن يحق للرجل سوى زوجة واحدة فإن لم تنجب رفع كتاباً إلى مجلس الشيوخ الذي يحاول إقناع الزوجة باختيار أمة لزوجها، بغرض الإنجاب، لأن حب الأولاد غريزة إنسانية، وكل من أساء لغيره إساءة معنوية فحسب، أما الإساءة المادية فتحلها المحاكم المختصة، وكل من استخدم ثروته لتضليل المواطنين أو لاستغلالهم استغلالاً قبيحاً، وكل من رشا مهما كانت ضآلة الرشوة، وكل من تخلف عن مشاهدة المباريات الأدبية والمباريات الرياضية، وكل من اتخذ لنفسه حرساً شخصياً...‏

وحتى لا يكون للاقتصاد السياسي دور في الانتخابات اخترعوا حيلة ظريفة ولكنها عادلة، وهي اللجوء إلى القرعة بعد الانتخابات، لأن عدد الناجحين يجب أن يكون ضعف عدد أعضاء المجلس المطلوبين وبذلك قطعوا الطريق على الاقتصاد السياسي، إذ أن من بذل المال والرشوة للفوز بالانتخابات سيواجه دواليب الحظ، ويخضع للقرعة، فما كان أحد يغامر بأمواله ليمثل أخيراً أمام مجموعة من الصبية يديرون دواليب الحظ، فربما لا يكون رقمه من الأرقام الفائزة.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:11 pm

كل القوانين الأثينية كانت ترمي إلى الحد من "المواهب" الزيوسية ولجم الاقتصاد السياسي من التفشي ونشر الفساد، إلا أن فيليب المقدوني قضى على كل هذه القوانين ومهد الطريق أمام الرومان للانتقال إلى الاقتصاد السياسي، فقد شح الإنتاج الأدبي في أيامهم، بل تحولت المسارح والملاعب إلى ساحات المجالدة تتفرج عليها الطبقة الارستقراطية في منصة كبرى، يحيط بها جمهور من الغوغاء يصوتون على القتل برفع الأصابع أو بتنكيسها، فينظر راعي المجالدة إلى أصابع هؤلاء الغوغاء، ولكن ليس من الضروري أن يوافقهم فقد يرفع أصبعه إذا نكسوا أصابعهم، وقد ينكسها إذا رفعوها... ومع ذلك يهلل الغوغاء لقراره الحكيم... كانت فكرة الإله الواحد قد راجت...‏

ألغيت المبالغ التي كانت تدفع لمن يشاهد المسرحية. صار الدخول مجاناً فقط، لكن الاهتمام بالمسرح والأدب تضاءل إلى درجة أن المشاهدين كانوا لا يشغلون إلا قسماً ضئيلاً من المدرجات. ومع الأيام هجر المسرح وأهمل الأدب. وكان هذا ضربة أليمة للاقتصاد الأدبي. لقد صارت المادة أو هبات زيوس ومواهبه هي السائدة.‏

إلا أن الضربة الأشد فتكاً بالاقتصاد الأدبي جاءت على يد المسيحيين الذين نصبوا زيوسهم محل زيوس القديم، وأعادوا الاعتبار إلى سقراط وتلميذه أفلاطون حجة بيدهم على ضلال "الوثنيين" فعندما تحدث أفلاطون بلسان معلمه عن الديمر جوس أكدوا أنه كان يتحدث عن إلههم الواحد الأوحد الذي يهيمن بجبروته ورحمته، بعقابه وجزائه، بحبه وكراهيته على كل شيء. وطبقوا آراء أفلاطون في الحكومة ورأوا أنها يجب أن تكون بيد النخبة المفكرة تحت رئاسة واحدة، فكانت النخبة رجال الكهنوت وكانت الرئاسة بيد البابوية التي تمثل الإرادة الإلهية.‏

كل شيء تغير في العهد المسيحي، فقد تلاشى الاقتصاد الأدبي أو كاد،وحطمت تماثيل وأقيمت مكانها تماثيل، فتمثال مارس مثلاً في مدينة فلورنسا استبدل بتمثال يوحنا المعمدان... وهكذا. وقد قضي على المسرح ولم يعد الانتاج الأدبي يظهر، وألغيت الألعاب الأولمبية وما كان يرافقها أو يتقدمها من نشاط أدبي، ومعها كل الألعاب الأخرى وحظرت المسرحيات من دون أي استثناء ولم يعد مطلوباً من المواطن سوى أن يتلقى أوامر زيوس الجديد بلسان ممثله الجديد وكهنته الجدد، فحلت الوحدانية محل التعددية في كل شيء وقد استمر الوضع على هذه الشاكلة أكثر من ألف سنة (من 500 إلى 1500).‏

محقون أولئك الذين يطلقون على هذه الفترة لقب "العصور المظلمة" فهو لقب جدير بها ولائق لها. وأعظم إنتاج أدبي في تلك الفترة جاء على يد دانتي وهو "الكوميديا الإلهية" فقد حاول التصدي لهذه الوحدانية الزيوسية الجديدة، وسعى إلى إعادة دور الاقتصاد الأدبي بقيمه الروحية في حياة البشر، بل جعله الوحيد القادر على إنقاذ البشرية. إن "الكوميديا الإلهية" هي أعظم صيحة بروميثية في عالم الإنسان، فلم يشهد التاريخ حتى اليوم كتاباً نضالياً كهذا الكتاب. إن المرء يخال أن بروميثوس هو الذي كتبه، ولم لا؟ إن دانتي يعترف بأنه استلهم أبولو وربات الفنون البرناسية:‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:12 pm

فيا أبولو الطيب، هذه آخر مهماتي‏

ابتهل إليك أن تجعلني وعاء لقدراتك‏

طالما تعتقد أني أهل لأن أتوج بالغار.‏

كادت قمة واحدة من البرناس تكفي‏

حاجتي، لكني الآن بحاجة إلى قمتين‏

حتى أدخل حلبة المنافسة مرة أخرى.‏

(الفردوس 1: 13-18)‏



إن تضاؤل الإنتاج الأدبي في العهد الجديد لزيوس الذي كان ينطق بلسان نوابه وكهانه جعل الناس أقرب إلى الحيوانات البشرية، وقد فضل دانتي أن يخاطبهم بأسمهم الحقيقي وهو يحذرهم من الخدعة الزيوسية:‏



أيتها الحيوانات الأرضية، أيتها العقول المتخشبة‏

إن الإرادة الإلهية خيرة بذاتها لذاتها‏

وترضي ذاتها بالخير الذي لذاتها فقط.‏

(الفردوس 19: 85-87)‏



ومع أننا قطعنا شوطاً بعيداً عن زمن دانتي، فإننا مانزال في زمن الوحدانيات: زيوس واحد وشعار واحد وتعليم واحد واقتصاد عالمي واحد... ويظل أفضل كتاب للاقتصاد الأدبي في العصر الحديث هو كتاب "الكوميديا الإلهية" الذي يجب -لو كان بالإمكان- أن يوزع مجاناً للوقوف على هذا الأسلوب الحديث الذي وضعه دانتي في كتابه، الذي عرض فيه بجدارة أهم قوانين الاقتصاد الأدبي التي يجب أن تسود. والذي نراه أن "الكوميديا" هي أعظم صيحة في تاريخ البشرية على الإطلاق، إنها الصيحة البروميثية الحقيقية.‏

صيحات كثيرة أعقبت الكوميديا، وصيحات كثيرة صاحبتها، لكنها تظل الصيحة الأشد تأثيراً من غيرها فهي أنضج إنتاج أدبي على مر العصور، وهي الأساس الذي اعتمد عليه الإنتاج الأدبي في عصر النهضة.‏

إننا نحتاج إلى مجلدات كثيرة لشرح هذا السفر النفيس، هذا الانجيل البروميثي المتوهج الذي أعاد العقيدة البروميثية إلى العمل، والذي فضح كل المغريات الزيوسية، وكشف سر الكنيسة الغربية الوسطوية في السيطرة على عقول الناس وإبعادهم عن ينابيع البرناس.‏

فإذا كان شرح انجيل دانتي يستدعي كل هذه المجلدات، فكم يستدعي رصد الإنتاج الأدبي في عصر النهضة، وفي العصور التالية؟ كم مجلداً نحتاج لرصد إنتاج شعراء التروبادور وشعراء الغزل الألمان، وروايات الحب الفرنسية وأعمال شكسبير؟ بل إن اراسموس وحده يحتاج إلى مجلدات، أو تلميذه المخلص رابليه، الذي قدم سفراً إلهياً ضخماً هو "غارغانتوا وبنتاغرويل" أو سرفانتس الذي كان فاتحة النبوءة الجديدة للاقتصاد الأدبي الحديث. فماذا نفعل الآن في عرضنا الموجز لتاريخ الاقتصاد الأدبي وكل محطة من محطاته تقتضي كتاباً خاصاً؟ نتمنى أن يسهم غيرنا في شرح الاقتصاد الأدبي عن طريق التخصص، في الأعلام أو المراحل، فيكون كتابنا هذا أشبه بمخطط سريع ليس غير...‏

ومع ذلك فلابد أن نقف عند دانتي قليلاً قبل استئناف الرحلة الخاطفة في تاريخ الاقتصاد الأدبي الحديث، لا لنشرح انجيله المقدس الذي يحمل قيم الرب الإله بروميثوس، فادي البشرية ومرشدها إلى طريق الخلاص، فهذا شيء كرسنا له جهداً استمر أعواماً لتقديم ترجمة أدق لانجيله، بمقدمة ضافية، وإنما لنشرح سوء فهم هذا الإنجيل من قبل المتعاملين معه.‏

إن سوء فهم هذا الإنجيل البروميثي يرجع إلى انسياق بعض الدارسين وراء القيم الزيوسية، فهذا يزعم أنه متأثر بالمعراج أو بالمعرى، وهذا يدعي أنه متأثر برؤيا يوحنا، وهذا يؤكد أنه متأثر برؤيا ألبريغو ورسالة بابل الجهنمية التي كتبها جياكو مينودا فيرونا، وهذا يرجح أن يكون متأثراً برحلة سان براندانو. كثير من التهم وجهت إلى هذا الإنجيل الفذ، كاتهمامه بالإستفادة من رؤيا بطرس أو رؤيا بولس... أشياء وأشياء لا مجال لمناقشتها، بل إن مناقشتها غير مجدية لأنها لن تؤدي إلا إلى مزيد من التشويش، إلا أن من الضروري المرور ببعض النقاط لإظهار فرادة هذا السفر العظيم.‏

يستخدم دانتي دائماً الأسماء الرومانية بدلاً من اليونانية: أريس هو مارس وافروديت هي فينوس وهيرا هي جونو، وبالتالي فإن زيوس هو جوبتر الإله الذي يريد أن يتفرد بالكون والحياة. وبما أن دانتي من سلالة بروميثوس فإنه يقف دائماً في وجه جوبتر بأسلوب متلاعب خبيث هرباً من طغيان الكنيسة. فهو في الجحيم يعجب بكابانيوس الذي رفع قبضته في وجه جوبتر، وهو دائم السخرية منه، فلما حلّ جوبتر الجديد محل جوبتر القديم، فعل الشيء ذاته ورأى في دستوره انحرافاً عن العدالة:‏

جوبتر، أيها الفائق، يا من صلبت من أجل‏

البشرية، سأسألك إن كنت تسمح بالسؤال:‏

ألا ترى أن عين عدالتك انحرفت بعيداً؟‏



أمْ أنَّ ما تفعله هو مخطط وضعتْهُ‏

حكمتك التي لا حد لها من أجل الخير،‏

وهذا لا يمكن أن يدركه الإنسان الفاني؟‏

إنه ينطلق من العقيدة البروميثية في محاسبة جوبتر الساعي إلى بسط نفوذه والتفرد بالسلطة بوحدانية متشددة. إن المعركة هي دائماً بين الاقتصاد السياسي الذي أرسله زيوس في صندوق باندورا، وبين الاقتصاد الأدبي الذي وضع أسسه بروميثوس في تعليماته لابنه ديوكاليون والذي اكتمل في قمة البرناس.‏

هذه هي النواة الحقيقية للكوميديا الإلهية، انجيل التربية الجمالية. وهي ميزة فريدة لا نجدها في أي سفر آخر، لا في رسالة الغفران ولا في غيرها. إن انجيل دانتي يحافظ فقط على شيء واحد من أوله حتى آخره وهو العقيدة البروميثية في التربية الجمالية.‏

من هنا نعجب كل العجب من أولئك الذين يرون دانتي متأثراً بغيره. فحتى فرجيل لم يكن له عليه تأثير، وإن سار في صحبته. لقد كان فرجيل جواز مرور للدخول إلى قلعة زيوس الجديد وتفجيرها، فالمسيحيون يعتبرون فرجيل مبشراً بزيوس الجديد بسبب بيت من الشعر. وقد أحسن دانتي في اصطحاب فرجيل، إذ جعله جواز سفر إلى الممالك الزيوسية. أما ما سوى ذلك فلا تأثير له في هذا الانجيل، السفر الذي يبرز الصراع بين الثقافتين: البروميثية والزيوسية. وكل من فاته إدراك هذا الخط المستمر في الكوميديا، أخطأ في تأويلها. وما على القاريء إلا أن يطلع على مقارنته تلك التي أجراها بين الفضائل الطبيعية وبين الفضائل الدينية من إيمان ورجاء ومحبة، أو يطلع على الاختبارات التي أجريت له في إيمانه ورجائه ومحبته في الفردوس حتى يعرف أين يقف دانتي، وعم يدافع. إنه يدافع عن التربية الجمالية ضد الهبات التي وضعها زيوس في الصندوق لتفسد البشرية.‏

أما المعري فما أبعده عن هذه الأجواء. إنه لم يلامسها ولم يتنشق نسمة واحدة منها، فقد كان الرجل متشائماً عازفاً عن الحياة. صحيح أنه يناقش زيوس، بيد أن نقاشه يصب بعيداً عن التربية الجمالية ومفهومها البروميثي. إن رسالة الغفران مزيج من الفذلكة اللغوية الثقافية والسخرية المعرية من الموزاييك الديني. لكنها ليست أكثر من ذلك، فهي لم تقارب الثقافة البروميثية أبداً، وهي أبعد ما تكون عن التربية الجمالية، وسيلة الخلاص البرناسية التي تشكل صلب العقيدة البروميثية. أما الإطار المشترك من جحيم ومطهر وجنة فهو إسكاتالوجيا مشتركة بين كل الشعوب، ويمكن لأي منتج أدبي أن يستخدم هذا الإطار من دون أن يطلع على الكوميديا أو رسالة الغفران أو سواهما.‏

أيضاً وأيضاً نعجب من أولئك الذين يسبغون حلة الإيمان الزيوسي على دانتي. إنه مؤمن حقاً ولكن بالقيم الجمالية البروميثية التي دافع عنها فكان فاتحة الاقتصاد الأدبي الحديث.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الرابع الاقتصاد الأدبي الحديث   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:13 pm

الفصل الرابع الاقتصاد الأدبي الحديث

دانتي في انجيله الأدبي "الكوميديا الإلهية" كان فاتحة الإنتاج الأدبي الحديث بعد أن عانى هذا الإنتاج ما عانى من قمع كنسي في العصور الوسطى التي ظهر دانتي في منتصفها تقريباً. أو ظهر في الثلث الثاني منها. فمنذ القرن الخامس الميلادي تراجع الإنتاج الأدبي تراجعاً لا مثيل له واستمر الأمر طيلة ثمانية قرون وأكثر. إن ظهور انجيل دانتي كان حدثاً فريداً من نوعه أعلن استئناف الإنتاج ووضع الأسس العامة للاقتصاد الأدبي، وكل إنتاج بعد دانتي حتى القرن العشرين جرى وفقاً لهذه الأسس، ولكن بتفريعات وتفصيلات موسعة فرضت سيطرتها في القرون التالية.‏

كان دانتي رسولاً بروميثياً مخلصاً وضع في انجيله "الكوميديا" العقيدة البروميثية الأدبية. وبعد أن أنهى هذا الإنجيل الكبير بعدة أسابيع توفي في منفاه، كأنما أخلد للراحة بعد أن أدى واجبه الرسولي.‏

في هذا الإنجيل يتابع دانتي التقليد النبوئي البروميثي، فقد تنبأ بروميثوس بخطورة هدية الآلهة لباندورا، فمن صندوقها انطلق الجشع والطمع والفتن والصراع، وهي الأسس التي قام عليها الاقتصاد السياسي، وتنبأ بالعصر الحديدي الذي نحن فيه الآن وكيف أن هذا العصر سوف يقضي على سلطة زيوس ويقيم سلطته المدمرة أيضاً في جو من التنافس والاقتتال والحروب المستمرة وتدمير تلك المؤسسات البشرية التي تنشأ لتخوض فيما بينها صراعاً مريراً.‏

وتابعت كاسندرا بريام هذا التقليد فتنبأت بالحرب الطروادية وحذرت منها، وعندما شاهدت حصان الأغريق رأت فيه تكراراً لصندوق باندورا ونبهت الطرواديين إلى أن هذه الهدية تشبه هدية زيوس ليس فيها إلا الدمار، وتنبأت بمصير اغاممنون وبمصيرها أيضاً ، لكن أحداً لم يصدقها فتمت كل هذه النبوءات، وعندها فقط صدق الناس، ولكن بعد أن جرى ما جرى وانهار ما انهار.‏

في الإنجيل الجديد يسير دانتي على التقليد البروميثي ذاته فيتنبأ بإفلاس الاقتصاد السياسي وانهيار مؤسساته، التي تنشأ قوية وسرعان ما تتحطم وتندثر، ثم يظهر غيرها ويلاقي مصيرها، أما ما يبقى فإنه الانتاج الأدبي الذي يلغي الزمن خلفاً وأماماً، ويظل يتمتع بالحداثة والنضارة. قال في كوميدياه، في النشيد السادس عشر من الفردوس:‏

76 ... لما صعب عليك أن تفهم، أو كان‏

غريباً عليك أن تسمع ان العائلات تنهار‏

بل حتى المدن سوف تسعى إلى نهايتها.‏

79 ... كل مؤسسات البشرية، من أي نوع كانت،‏

سوف تموت، مهما طال بقاؤها،‏

لكن ذلك يخفى عليكم لقصر حياتكم‏

85 ... لذلك ليس من الغريب أبداً أن‏

تسمعني أتحدث عن الفلورنسيين الطيبين‏

الذين لا يطال التغير شهرتهم.‏

وبهذا وضع قانونا أساسياً للاقتصاد الأدبي: إن المنتجين الاقتصاديين زائلون، أما المنتجون الأدبيون فخالدون لا يطال التغير شهرتهم.‏

لم يختر دانتي الممالك الأخروية الثلاث عن عبث. لقد ترك المملكة الأرضية وراح يطوف تلك الممالك لأنه يريد أن يكشف سر جوبتر، ويفضح الممارسات الشائنة لأنصاره. لقد عرف أن السبب الأساسي لفوضى الحياة على الأرض يرجع إلى القوانين الجوبترية، التي سببتها الأمراض الروحية التي انطلقت من صندوق باندورا، من طمع وجشع واستلاط وحسد... أي كل ما يقبع وراء الملكية الآثمة. وقد أكد لنا أن جوبتر، كعقيدة طبعاً، يبسط سيطرته الشاملة ليس على الممالك الأخروية وحدها بل على المملكة الأرضية أيضاً، فكما في السماء كذلك على الأرض، إذ أن كل شيء يجري بأمره، وينفذه جهاز من رجال الاقتصاد السياسي، رجال الملكية الجشعة. إنهم جهاز تنفيذي يفعلون كل ما يريدون تحت غطاء تبريري من العقيدة الجوبترية المقدسة التي لا يسمح لأحد أن يطالها، لأنه بعمله هذا طالهم هم بالذات. ولهذا فإن أنصار جوبتر يجعلون العقيدة باسطة ظلها على كل شيء، من أكبر الممالك حتى الفكر الشخصي، أو حتى التأملات التي تنطلق عندما يخلو المرء بنفسه. وحتى الجحيم نفسه الذي نظن أنه مملكة لوسيفر إنما يخضع لأوامر جوبتر، ففي النشيد التاسع من الجحيم يرفض الشياطين السماح لدانتي بعبور البوابة مع فرجيل. وخاف دانتي من أن يتركه وحده، فطمأنه فرجيل وطلب منه أن ينتظر قليلاً. وبالفعل يظهر رسول جوبتر بعد قليل ويفتح البوابة بعنف بعد أن يهدد الشياطين بعقوبات أشد إذا عادوا إلى مثل هذا التمرد.‏

رأى دانتي أن سبب كل ما يجري في الأرض مرجعه إلى العقيدة الجوبترية فسافر في ممالكها ووصل إلى عقر دارها في الإمبريوم، وكشف كل أسرارها وكل مقولاتها من إيمان ورجاء ومحبة وجزاء وعقاب، وأظهر أنه في ظل هذه العقيدة المتسلطة لا يمكن الخلاص من الفساد الأرضي، بل لا يمكن حتى مساعدة الإنسان للوقوف في وجه الأمراض الروحية التي انطلقت من صندوق باندورا. فالعقيدة الأحادية المهيمنة هي دمار للإنسان البروميثي بأي شكل تجلت وبأي ممارسة ظهرت، فيكفي أنها تدمر نزوعات الإنسان الجمالية، وتقيد نشاطاته في منحى واحد حتى تكون هدفاً للنضال البروميثي من أجل إسقاطها وإطلاق حرية الإنسان، الحرية التي تتجلى في الفن والأدب. فوضع الروح في المسار البروميثي الحر هو بداية حقيقية لصالح الإنسان، فمن العبث الحديث عن أي إنجاز إنساني فعلي من دون الروح البروميثي القائمة على احترام النزوعات المتعددة للنفس البشرية التي تجد تعبيرها في النشاط الأدبي قبل سواه. وحيازة الروح الأدبية هي بداية كل تنظيم، لأنه بذلك سيكون تنظيماً يحترم حرية الروح ونزوعاتها، وإلا فإنه تنظيم قمعي كما هو الأمر في الاقتصاد السياسي، حيث صارت السلعة وثنا متحكماً مسيطراً وليس الفن والأدب، وسيكون ماركس من أعظم الذين أدانوا وثنية السلعة وتحطيمها لإنسانية الإنسان في القرن التاسع عشر.‏

إن الكوميديا هي أعظم انجيل بروميثي ظهر في كل تاريخ الإنتاج الأدبي، ودانتي هو أعظم رسول بروميثي بين الرسل.‏

إذا كان دانتي قد اختار الممالك الأخروية وكشف أسرارها، فإن سرفانتس طاف المملكة الأرضية وقدم لوحة بما يجري عليها من دمار وتخريب للروح البروميثية، في أنجيله المتشائم الذي يذكرنا بنبوءات كاسندرا بريام، التي عرفت مصيرها ولم تهرب منه.‏

عندما طاف سرفانتس المملكة الأرضية في عصره أطلعنا على شيء جديد كل الجدة. وهذا الجديد ليس شخصية دون كيشوت بل شخصية سانشوبانزا، فهو الذي يمثل المملكة الأرضية وليس دون كيشوت الذي يجسد المثل البروميثية من شهامة وصدق وقلب أبيض خال من الغش والجشع والطمع والنميمة والحقد والحسد والكراهية... أي كان بريئاً من كل الهبات الزيوسية التي حملتها باندورا في صندوقها.‏

دون كيشوت هو الابن الشرعي للتراث الأدبي، وبالمقابل فإنه الابن غير الشرعي لعصره، وهذا شأن كل بطل أدبي، إذ سيكون مرفوضاً ومنبوذاً من أبناء عصره، ولكن ليس من كل أبناء عصره، وإنما من الزيوسيين أنصار البراغماتية والاقتصاد السياسي، أما القلة القليلة من البروميثيين الذين يتضاءل عددهم كلما استلط الاقتصاد السياسي على الحياة البشرية، فإنها ترى في دون كيشوت بطلاً بروميثياً عظيماً جداً... ولا أدل على ذلك من أن المنتجين الأدبيين بعثوه من جديد كبطل رائع. هكذا تجلى لنا في كتاب أونومونو الإسباني وفي كتاب غراهام غرين الإنكليزي في القرن العشرين، الأول قدمه في أوائل هذا القرن والثاني قدمه بعد منتصف هذا القرن، تأكيداً للصفات البطولية البروميثية التي قدمتها ريشة سيرفانتس.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:13 pm

لكن سانشوبانزا يظهر إلى جانب دون كيشوت كنقيض له وفي الوقت نفسه كمحب مخلص. وفي هذا الشيء الكثير من المغالطة الظاهرية التي سوف نفسرها على النحو التالي:‏

خرج دون كيشوت من بطون الكتب، فالكتاب هو الرحم الذي احتضنه حتى إذا حان المخاض ظهر لنا هذا الوليد مشبعاً بكل أجواء الرحم الذي جاء منه. إنه يحمل كل المثل والقيم الأدبية. سلالة دون كيشوت البشرية غير معروفة ولا يمكن لأحد أن يؤكدها. كل ما نستطيع قوله هو أنه ابن الخيال الأدبي البروميثي، وهو يصرح بذلك لتابعه مؤكداً أنه قد يكون من أسرة نبيلة ريعها السنوي خمسمئة سويلدو، وهو مبلغ تافه جداً يكاد لا يسد الحاجات الضرورية، ولكنه بالتأكيد ليس من سلالة الملوك، وبهذه الطريقة أعلن البطل انتماءه الحقيقي... أنه من الرسل البروميثيين الشجعان.‏

حياته المادية بؤس في بؤس، كأنه مثال للمنتج الأدبي، فقد كان ينفق ثلثا دخله على لحم البقر في بعض الأيام وعلى العدس في معظم الأيام، فلم يكن يأكل اللحم إلا قليلاً، فالعدس أرخص ويمكن لدخله أن يؤمنه له. الثلث الباقي كان يشتري به لباسه: سترة بسيطة وبنطلوناً رخيصاً من الشعر. هذه هي ملكية بطلنا العظيم، وهذا ما يفسر لنا إحجامه عن الثروة والمجد الزائف واندفاعه لتخليص المظلومين ولو كلفه ذلك حياته.‏

حياته المادية فقيرة جداً يقابلها غنى روحي لا حد له. أما سانشو بانزا فمن أين خرج؟ من عفن الحياة في ذلك العصر، فوالداه معروفان وأسرته معروفة، وهو مثال حقيقي لعالم ذلك العصر، فهو براغماتي شديد البراغماتية، وانتهازي شديد الانتهازية، ووصولي شديد الوصولية، يهفو إلى الثروة بجوانحه ويتمنى السلطة بشغاف قلبه، لكنه لم يكن مالكاً الوسائل التي تمكنه من ذلك... طبعاً فعصره لم يكن يخوله القيام بكامل دوره. وبمقدورك أن تعرف صفاته من الحوارات التي كان يجريها مع معلمه، فهو دائماً يدلي برأي مناقض لرأي سيده، ودائماً يكون رأيه الرأي الناجح في هذا العالم الذي يسوده الاقتصاد السياسي، ولكنه إذا قيس بالرأي الكيشوتي فإنه رأي مرفوض، فموقف كيشوت هو الموقف المثالي، الموقف الأدبي الصادر عن نقاء القلب، أما موقف تابعه فإنه موقف العارف بأسرار عالم الاقتصاد السياسي وما فيه من طمع وشهوات ذئبية، ولهذا فإن سانشوبانزا يمثل الموقف الصحيح في نظر الاقتصاد السياسي والموقف المرفوض في نظر الاقتصاد الأدبي. فأدبياً لا يستطيع كيشوت أن يتخذ الحيلة أو الخديعة أو الغش أو الطمع وسيلة لتحقيق مأربه، وإن كان يعرف سر الأشياء كلها. وفي هذه المواقف لا ينجح إلا البراغماتي، إلا سانشوبانزا الذي صار رجل أعمال في أميركا ومسؤولاً في الدول التي يطلق عليها اسم "العالم الثالث" بل حتى الموظف الصغير في هذه الدول تخلق بأخلاق سانشوبانزا البراغماتية.‏

ومع ذلك كان سانشوبانزا يحب سيده، وفي الفصل الثاني عشر من الجزء الثاني يفصح عن سبب حبه عندما يتحادث مع تابع آخر فيقول بأنه يحب سيده لأن في مقدور أي إنسان أن يقنعه أنه في منتصف النهار عندما يكون في منتصف الليل، وإنه في منتصف الليل والشمس في رائعة الظهيرة. إنه مثل الطفل يتصور أن الآخرين دائماً يقولون الصدق. وهذه أهم ميزة من الخصائل البروميثية.‏

ويعلق أونامونو على هذا الفصل مخاطباً سانشو: نسأل الله يا صديقي سانشو أن يحمينا ويبقينا دائماً أطفالاً.‏

رجل الأعمال أو المسؤول الثالثي لم يعد في هذا العصر يحب دون كيشوت كما كان يحبه سانشو. لقد تطورت الأمور وصرنا أقرب إلى الأغناروك السكندنافي، أي المعركة الفاصلة، فلا مجال للمساومة.‏

في الفصل الرابع من الجزء الأول يدور حوار بين التجار وكيشوت، فيسخر التجار من دولسينا حبيبة بطلنا التي لا وجود لها ولكنها تمثل كل ما هو رائع وجميل، تمثل الحق والخير والجمال، تمثل القيم البروميثية. ويحتج التجار بأنهم لا يستطيعون الإيمان بدولسينا لأنهم لم يروها. فيرد كيشوت على الفور بأنه لا فضل لهم أن آمنوا بها بعد أن يروها، يجب أن يؤمنوا بها من غير أن يروها. ليس هذا وحسب، بل طالبهم بالدفاع عنها والنضال من أجل سلامتها.‏

في هذا الفصل يقدم لنا سرفانتس صورة رائعة ودقيقة للواقع المتشائم الذي تفاقم في أيامنا كثيراً. فالناس لا يؤمنون إلا بكل ما هو ملموس، وبما أن القيم البروميثية غير موجودة في هذا العالم، فكيف بها يؤمنون؟ والحق معهم، بل كل الحق معهم لأنهم حالما يؤمنون بدولسينا تنهار مصالحهم وتتبخر ثرواتهم غير المشروعة. ولم يكن اختيار سرفانتس للتجار كمحاورين لكيشوت مجرد مصادفة. كان يعرف كيف يضع طرفي الحوار ليقدم الدلالة البالغة لأفكاره. فالحق والخير والجمال نؤمن بها ولا نراها، والتجار -أسياد هذا العالم- لا يتعاملون إلا مع ما يرون.‏

وباختيار طرفي الحوار استطاع سرفانتس أن يقدم لنا حصة كل طرف في الحياة، فالحظ دائماً إلى جانب الفريق الأول من الاقتصاديين السياسيين، والشجاعة دائماً إلى جانب الفريق الثاني من الاقتصاديين الأدبيين. والحظ والشجاعة لم يلتقيا في يوم من الأيام. التجار في حالة خوف دائم على ما يملكون بين أيديهم قبل الخوف على ما يملكون بين صدورهم، والبارون كيشوت في حالة مستنفرة من الشجاعة، فالرجل لا يملك ما يخاف عليه، لذلك يهفو بشجاعة إلى دولسينا الحق والخير والجمال، فلا وجود للخوف والشجاعة معاً، ولا وجود لتاجر وأديب في شخص واحد. والإيمان الوطيد بدولسينا هو الذي وجّه أعمال دون كيشوت النبيلة دائماً كما أنه هو الذي منحه شجاعة القول بثقة ان الأجيال القادمة.ستروي أعماله المجيدة . وهذا شأن كل مناضل أدبي . إنه لايُعرف تماماً إلاّ في الأجيال القادمة أما التاجر أو من شابهه، فابن يومه يموت بموته، وهو نفسه لا يفكر بالأجيال القادمة ولا يهمه إذا ذكرته أو أنكرته. همه شبيه بهم الحيوان بالعلف، لا يرى غيره ولا يفكر في أي شيء آخر من القيم التي لا يمكن وضعها بالمعلف والمذود.‏

الفشل الذي كان يمنى به كيشوت يقابله النجاح المستمر لسانشو الذي أبدى مهارة كبيرة في إدارة الأمور عندما صار حاكماً على إحدى الجزر. لقد عرضت عليه مشكلات شائكة لا يستطيع كيشوت حتى أن تخطر على باله، فحلها حلاً عملياً أدهش المختصين، فأثبت أن البراغماتي ليس بحاجة إلى ذكاء ولا إلى حساسية حتى يحل المشكلات القائمة، إنه بحاجة إلى حس خنزيري فقط، فهل هناك من عجب إذا ارتبط الفشل بالاقتصاد الأدبي، وارتبط النجاح بالاقتصاد السياسي؟ وكثيراً ما نسمع من الأوساط الشعبية قولهم: ما أذكاه، أميّ وجمع ثروة طائلة. ولو توخوا الدقة لعرفوا أنه لو كان ذكياً حقاً لما كان صاحب ثروة. الثروة لا تحتاج للثقافة، إنها تحتاج فقط لحس خنزيري. والكتب التي منها ظهر كيشوت هي التي حددت مصيره. هي التي جعلته مناضلاً فاشلاً، فابسط الأمور المادية كانت تدحره، إلا أنه كان شامخاً في إيمانه بدولسينا.‏

من هنا نعتقد أن خاتمة دون كيشوت جاءت منطقية تماماً، مثلما أن خاتمة سانشو جاءت هي الأخرى منطقية، فالأول مات وظل حياً، والثاني ظل حياً ولكنها حياة مطفأة مثل حياة الاقتصاديين السياسيين في كل العصور، لا يمدحهم أحد في حياتهم ولا يذكرهم أحد بعد وفاتهم. لقد صدق كاراسكو عندما نقش على ضريحه:‏

هنا يرقد النبيل الجبار الذي فاق حدود الشجاعة‏

حتى أن الموت لم ينتصر على حياته بالموت‏

لقد وطىء الموت بالموت فانبعث بيننا بطلاً بهياً، شأن كل بطل أدبي يبعث بعد موته في ذاكرة البشرية الأدبية.‏

لقد استشرف سرفانتس آفاق المستقبل فقدم هاتين الشخصيتين: كيشوت الهائم بالقيم البروميثية الذي مات وانبعث، وسانشو الذي ورثه كل المتهافتين على الثروة والمادة الذين لا يتركون بعد رحيلهم أي أثر يذكر. لقد مات كيشوت كما مات كثيرون غيره، لكنه وحده الذي قام من بين الأموات الذين يؤلمهم النسيان. وبعد قيامته عاش بطلاً مشرقاً في أذهاننا، بينما جعله الاقتصاديون السياسيون مثالاً سيئاً ومثاراً للسخرية، فهو المهزوم دائماً أمام المادة، ويا له من وسام عظيم، يقدمونه له وهم لا يعلمون.‏

وعندما يظهر مفكر إنساني في ميدان الاقتصاد السياسي، سرعان ما يتهمونه بالدون كيشوتية، ساخرين منه. هكذا فعلوا مع فورييه وكرون وكريج وأمثالهم ممن أكدوا أن الملكية الجشعة هي السرقة بذاتها. وصفوهم بالمثاليين بينما هم واقعيون حقيقيون، وهل هناك واقعية أكثر من إدانة السرقة؟ فالواقعية هي المذهب الإنساني المنفتح على الواقع لا لقبوله بل لرفضه. إن كيشوت واقعي كل الواقعية برفضه الأخلاق الخسيسة من جشع وطمع وحقد واستغلال واستثمار. وقد تقولون: صحيح ولكنه لم يكن يملك وسائل وطرائق لتغيير هذا الواقع ، ونحن نقول انظروا إلى كل الذين كانت في أيديهم وسائل وطرائق لتغيير الواقع المادي، ألم ينقلبوا إلى اقتصاديين سياسيين وتخلوا عن كل القيم البروميثية؟ ثم من قال ان كيشوت ليس عملياً؟ إنه العملي الوحيد الصادق، ولكن قولوا ان قوى زيوس قوية وتتعاظم بتقدم الوقت أكثر فأكثر.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:13 pm

إنهم يسخرون من فشل كيشوت العملي. ولكنهم لا يستطيعون أن يقدموا لنا اقتصادياً سياسياً واحداً يمكن اعتباره ناجحاً، لا في دنيا الرأسمالية ولا في دنيا الاشتراكية. كلهم فشلوا، وتدل على فشلهم البطالة الدائمة، سواء كانت ظاهرة أو مقنعة. إن نجاح الاقتصادي السياسي يعني تماماً تشليح الناس من ثروتهم وممتلكاتهم، واحتكار الحاجات الضرورية بغية التحكم بهم، وهذا هو الفشل في عرف الاقتصاد الأدبي. لذلك نقول أن دون كيشوت عرف السر الحقيقي، ووقف في وجوههم شامخاً.‏

إن سرفانتس يؤكد مقولة دانتي بأن كل هؤلاء الاقتصاديين مع مؤسساتهم هم أشبه بالحباحب، يلتمعون ثم ينطفئون، أما المشهورون فهم في صفوف الاقتصاديين الأدبيين الذين لا ينال الزمن منهم مهما تقادم. وقد تحول كيشوت من مستهلك أدبي ولد من بطون الكتب إلى منتج أدبي يقف وراء الكثير من المؤلفات العالمية والأفكار الإنسانية الصافية. ونحن مثل دون كيشوت: نفشل كثيراً في الأمور المادية، ولكننا لا نخطىء ولا نسقط عندما نتمسك بالقيم البروميثية.‏

قلنا ان سرفانتس قد استشرف المستقبل. وبالفعل فإن كل الإنتاج الأدبي الذي أعقب الثورة الصناعية يدور حول قطبين: كيشوت وسانشو. والمأساة دائماً من حظ الكيشوتيين، والثروة دائماً من حظ السانشيين. كل ما كتبه أعلام الكلاسية الجديدة والرومانسية والواقعية والطبيعية يدور حول هذين القطبين، رغم اختلاف التسميات. البروميثي البريء المتمسك بمناقب المحبة والتضحية والحق والعدالة والمنادي بالإخوة والعطاء، لا بالحقد والاستلاب، مهزوم دائماً، مثل دون كيشوت. والزيوسي الذي يبسط سيطرته لجمع ثروته، ويجمع ثروته لبسط سيطرته، وعلى حساب الآخرين يقيم مملكته، هو الذي لا يهزم من أمثال سانشوبانزا. وإذا نظرنا في تاريخ الاقتصاد الأدبي منذ بروميثوس وحتى اليوم لم نجد بريئاً نجح ولا خبيثاً فشل إلا في الملهاة التي تعتبر الوجه الإعلامي المباشر للقيم البروميثية.‏

قلنا من قبل ان انجيل سرفانتس كان متشائماً لأنه أبقى على سانشو ودفن كيشوت، وإن كانت ذكراه حية. وهذه النظرة تغيرت في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد صار الدمار شاملاً في المذهب التعبيري، الذي لا نجد فيه بارقة أمل، فهو لا يحمل في يده وردة بل بطاقة نعي. وكل المذاهب التالية سارت في هذا المنحى، فقد صارت ترثي الإنسان نظراً لمصيره المحتوم الذي لا مفر منه، وصارت تهزأ بما يسمى "المجد" و"الخلود" وما شابه ذلك مما كنا نجد منه بصيصاً عند دانتي وسرفانتس.‏

وتفسير ذلك واضح جداً، فقد ظهرت الثورة الصناعية الأولى ثم تلتها الثورة التقنية الثانية ونحن في بداية الثورة الثالثة. وهذا يعني أنه كلما حقق الاقتصاد السياسي انتصاراً لنفسه دمر غيره وأشاع البؤس والتشاؤم والقلق النفسي والتشوهات الروحية، فالاقتصاد السياسي لا ينجح بتحقيق التوازن بل بكسره لتكون كل القوى تحت سيطرته. لقد خرق التوازن في الحياة والمجتمع والطبيعة، فأفسد كل شيء من أصغر مخلوق على الأرض حتى أجواء الفضاء، ففي كل صباح يأتي نسر زيوس لينهش كبد بروميثوس الذي صار الأدباء يعتقدون أنه لن يصمد طويلاً، فكثرت الملاحم الراثية للبشرية والكون وانتشرت النبوءات بقرب الأغناروك، المعركة التي سيخسر فيهاأودن، وأنصاره المحبون للإنسان معركتهم مع أبالسة الجحيم وأرباب الشر. إن الميثولوجيا السكندنافية التي كنا نظن أنها متشائمة لا تصلح أن تكون برنامجاً بروميثياً، انبعثت من جديد حيث ترى أن الذي يزول ليس زيوس وحده في نهاية العصر الحديدي، بل الإنسان أيضاً الذي بدأ الاقتصاد الأدبي الحديث لا يرى فيه إلا مخلوقاً لا يستحق الحياة، لما فيه من خبث ونهم وشراهة وجشع، فشل طيلة تاريخه المخزي في إقامة العلائق الأدبية اللائقة بالوجود البروميثي والتي تسهل قيام اقتصاد أدبي حقيقي.‏

لكن هذا النقد للإنسان في الأدب الحديث إنما هو من باب التأنيب لتقاعسه في دفاعه عن حريته التي من أجلها صلب بروميثوس، فهو نقد لا ينطلق مما ينطلق منه الاقتصاد السياسي الذي يرى أن وجود الإنسان يتلاشى في سبيل أقل كمية من الربح، أو أقل كمية من الثروة، فالنقد في الاقتصاد الأدبي نابع من خيبة الأمل بالإنسان، بينما مثل هذه الخيبة لا يمكن أن نجدها في الاقتصاد السياسي الذي لا يجد ملجأ له سوى الإنسان الذي لولا استغلاله واستثماره وإخضاعه لصنوف كثيرة من الغش والخداع... لما وجد أي مبرر لوجوده وأي تسويغ لاستمراره، فهو لا يعيش إلا في المياه الكدرة. الاقتصاد الأدبي يرى العلة في الرضوخ، أما الاقتصاد السياسي فيرى العلة في تمرد الإنسان على قوانين السوق.‏

عندما أعلن نيتشه بلسان نبيه زارادشت أن الإله قد مات، كان كمن يشهد بصدق نبوة بروميثوس بأن زيوس سوف يزول في العصر الحديدي. والإله الذي حل محله هو العلم والتطور المادي السريع والعاصف.‏

وعندما أعلن ميشيل فوكوه في الربع الثالث من هذا القرن عن موت الإنسان، كان كمن يوقع على وثيقة موت دون كيشوت بعد الاندحارات المتتالية التي مني بها في حياته المأساوية، فهو يشهد بصدق نبوءة سرفانتس ويسلم باندحار الإنسان ذي القيم النبيلة، بعد هذه التطورات الصاعقة التي كلما تعملقت بدا الإنسان أمامها هزيلاً حتى وصل إلى درجة الصفر وتلاشى. لقد انقلبت الآية، فما زعم الاقتصاد السياسي أنه ينتج لمصحلة الإنسان إلا زعم وأهم، فقد تبين أن الإنسان هو الذي يُضَحَّى به لمصلحة الاقتصاد السياسي. فحتى صاحب المؤسسة تتلاشى شخصيته أمام شخصية مؤسسته ويصبح وجوده المعنوي مرتبطاً بالمكانة التي تحتلها مؤسسته, فكأننا نعيش في زمن تمحي فيه الشخصية الإنسانية وتبرز فيه شخصية الاقتصاد السياسي.‏

في مسرحية ألمر رايس "الآلة الحاسبة" يبرز أمامنا بطلها "المستر صفر" كضحية للاقتصاد السياسي. وأمام الآلة الحاسبة تتلاشى كل الشخصيات وليس المستر صفر وحده. إن المستر صفر هو الإنسان، والآلة الحاسبة هي الاقتصاد السياسي الذي يؤمن أن كل شخصية إنسانية يمكن محوها بوضع رقم مقابلها: الحسناء الممنّعة لها رقم، ورجل الدولة له رقم، والفقير له رقم والأمير له رقم... أمام الأرقام تتهاوى الشخصيات، وبالأرقام تستطيع أن تغير الأشياء والبشر. والأرقام من ابتكار الاقتصاد السياسي, الذي حصر القيمة بها وروّج لها حتى دخلت الأمثال الشعبية كالمثل القائل معك قرش، تسوى قرشاً...‏

كتب رايس مسرحيته في الربع الأول من القرن العشرين، مما يدل أن الأدب لم يكن غافلاً عن جرائم الاقتصاد السياسي، لكن صياغة فوكوه لموت الإنسان كانت صياغة فلسفية لاقت رواجاً.‏

لنتأمل قليلاً في هذين الإعلانين، إعلان نيتشه بموت زيوس، وإعلان فوكوه بموت الإنسان، نجد أنهما لم يظهرا إلا في الزمن الذي استشرى فيه الاقتصاد السياسي، فإعلان نيتشه ظهر في أعقاب الثورة الصناعية الأولى، بعد أن رأى ثورة البخار والصناعة وما جرت من ويلات، فقد بات الناس مرتبطين بظروف الانتاج الجديدة، فلا وقت لديهم لذكر زيوس وإقامة الصلاة له، فقد حلت الصناعة أو الأرقام محله بل إن الأعياد التي كانت كثيرة قد تقلّصت حتى كادت تختفي، فلم يبق سوى يوم واحد هو عطلة نهاية الأسبوع يمكن أن يتنفس فيه الإنسان إن استطاع.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:14 pm

وإعلان فوكوه جاء بعد الثورة الصناعية الثانية ، نورة الكهرباء وعجائبها، ثورة الترانزستور التي جعلت من الإنسان صفراً، فجعلت وجوده ووجود الأشياء الأخرى شيئاً واحداً، لا فرق. وإذا استمر الاقتصاد السياسي في بسط سيطرته من دون أن يتأثر بالمنتجين الأدبيين، فإن الثورة الثالثة التي نحن في مطلعها سوف تتعامل مع "الأصفار" حقاً.‏

قلنا من قبل، في بحث سابق، ان السؤال المحرج للاقتصاد الأدبي هو: هل يمكن الحصول على قلب نظيف حتى نبني عليه استراتيجية مختلفة عن استراتيجية الاقتصاد السياسي؟ وقد أرجأنا الجواب إلى هذا المكان من البحث، أي أواخر القرن العشرين، بعد أن طغى الاقتصاد السياسي وصار الشغل الشاغل للبشرية، وغدا الأداة الأقوى والأصلب والأوثق لتركيع الآخرين.‏

والجواب -نظن- معروف، إذ أن الاقتصاد السياسي أخضع كل شيء لهيمنته وجعل القرار الحاسم بيده، فقد انتزع من الأدب أهم فروعه وأخضعها لقوانينه، كالموسيقى والرسم والغناء والنحت والرياضة، وسوف أكتفي بمثال بسيط من الرياضة فقط للتدليل على ذلك، فهو من الأمثلة الواضحة والشعبية.‏

حظيت الألعاب الرياضية بسمعة طيبة قديماً، فهي ترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد في اليونان، التي استفادت من الألعاب الشرقية كثيراً. ولكن لم يكن مسموحاً أن تبدأ الألعاب قبل المباريات الأدبية التي يتوج فيها الفائزون كأبطال عظماء. وقد ألغت المسيحية هذه الألعاب في أواخر القرن الرابع الميلادي، ثم أعيدت بعد نضال بيير دي كوبرنان 1896 ولكن بطريقة أخرى، إذ لم تعد تقتضي إجراء مباريات أدبية قبل بدايتها. ومع الأيام تطورت كل صنوف الرياضة واتسعت، فانتبه لها الاقتصاد السياسي وأسرع لبسط سيطرته واستغلالها مثلما يستغل أي سلعة، بتحويلها إلى أرقام، فقد صار اللاعب يباع ويشرى وفقاً لمهارته، فكأنه آلة حديثة تقدم إنتاجاً أوفر للاقتصاد السياسي. وظهرت مؤسسات مختصة تتعهد المباريات الرياضية، بل إن دولة عظمى هي الولايات المتحدة أدخلت لعبة كرة القدم لما تدر من أرباح، وكانت لعبة مهجورة لا يتعاطاها أحد في تلك البلاد، فانتشرت النوادي وكثر المتعهدون بعد المونديال الكروي في عام 1994 الذي درّ أرباحاً أطارت صواب رجال الأعمال وكل الاقتصاديين السياسيين.‏

هذا مثال واضح أن الاقتصاد السياسي قد حسم المعركة لصالحه، بل مد يده إلى السلعة الأدبية ليحولها إلى سلعة اقتصادية، فأي كتاب يحظى بأبسط جائزة يدفع الاقتصاد السياسي لصاحبه مبلغاً كبيراً ليجني من ورائه أرباحاً هائلة. وقد ظهر اليوم ما يسمى "البست سلو". نعم هكذا صار يقدر الكتاب، بالأرقام، كسلعة اقتصادية محضة، فتصدر منه نسخة فخمة ونسخة متوسطة ونسخة شعبية، مثل بقية السلع، إلى جانب الكثير من الأحابيل التي يلجأ إليها الاقتصاد السياسي، ومنها استخدامه للأدب في وسائل الإعلام للدعايات التجارية، التي سرعان ما يتلقفها الأطفال الذين صاروا حفظة حقيقيين لأغاني الدعايات بدلاً من الشعر الأدبي الراقي. ووسائل الإعلام هي جزء من الاقتصاد السياسي، بل هي اليوم الجزء الأهم. وهي تريد جرّ الأدب إلى عجلة هذا الاقتصاد، فالمسلسلات التلفزيونية هي الوجه الجديد لمنحى الأدب الروائي. وقاعدة "البست سلو" هي القاعدة المعتمدة في هذا الأدب الجديد. إن كل ما يجري يقع في قبضة رجل الأعمال الجديد سانشو بانزا الذي فقد براءته وبساطته وعفويته، وصار "رجل أرقام"، فحتى السلطة التي لا يرغب في إدارتها، أو لا يجيد إدارتها، يستطيع أن يرفع إليها رجل السياسة، وما الاقتصاد السياسي سوى اجتماع هذين الرجلين، رجل الاقتصاد ورجل السياسة. أما رجل الأدب فما أشبهه بدون كيشوت الذي أكرمه الدوق، وعندما دخل مخدعه المخصص له في القلعة، خلع نعليه ونظر إلى جوربيه فرآهما متآكلين. يحزن كثيراً، ومع ذلك يرفض أي مبلغ يقدمه الدوق له. يرهن حوائجه بمبلغ زهيد ليتابع رسالته. إن رجل الأدب في هذه الأيام لا يتوانى عن رهن مصاغ زوجته أو أمه أو أخته ليطبع ديواناً يحمل رسالته الكيشوتية إلى العالم الذي -وقد هيمن عليه الاقتصاد السياسي- لن يرى في هذه الرسالة إلا ما رآه الدوق واتباعه في رسالة دون كيشوت... رسالة هواء في هواء، لا تنتج ولا تثمر، وأنّى لها ذلك وهي لا تتعامل بالأرقام... و...‏

هذه الرسالة صارت تقسو على الإنسان في هذه الأيام وتبين، ليس عيوبه فقط، وإنما أيضاً عدم جدارته بالوجود. فهو متطفل باقتصاده السياسي على كل شيء، ومنذ صندوق باندورا وحتى هذه الأيام لم يفلح في إقامة النظام الذي يستريح فيه، النظام الذي يخلق شيئاً من التوازن بينه وبين نفسه، وبينه وبين الطبيعة. إن الأدب الحديث يفضح باستمرار غرور الإنسيان وتوهّمه إنه مركز الكون، وإن كل شيء سوف يزول بزواله، مع أن زواله لن يغير شيئاً لا في نظام الكون ولا في نظام الطبيعة، بل إن الطبيعة سوف تفرح وتبتهج إذا تخلصت من هذا المخلوق المدمر الذي يلوث كل ما تطاله يده، فمخلوقات الأرض انقرضت أو في سبيل الانقراض بسببه، والجو الذي كان صافياً يمنح الحياة للمخلوقات صار دخاناً خانقاً.‏

إن الأدب الحديث صار أقرب إلى نعوة سوداء تعلن موت هذا المخلوق الذي لم يدفن بعد. ونجد ذلك واضحاً في أدب جويس وبيكيت وكامو ويونسكو وادوارد ألبي وديرنمات وجورج شحادة وأداموف... وكثير غيرهم، فقد غدت النعوة تياراً أدبياً في هذا القرن.‏

إن الإنسان هو الوحيد الذي لا يحتاج لمن يحفر له قبره، إنه بيديه يحفر هذا القبر وحين ينتهي منه سوف يدفن، ولكن من دون مراسم ومن دون رفع صلوات توبة ولا ابتهالات رحمة، لأنه لن يجد من يقوم بذلك، بل ربما كان هناك من يزغرد لمغادرة هذا الأحمق إلى... العالم الآخر... لن يكون هناك من يبكي عليه أو يحزن لموته.‏

مهما كان الأمر في هذه النعوة فقد ظل الأدب الحديث محافظاً على التقاليد الأدبية فلم يقبل بمفرزات الاقتصاد السياسي. ظلت أبطاله الينابيع والأشجار والجبال والوديان وعاشق ومعشوقة.. لم يجعل الصاروخ أو الدبابة أو الطائرة أو البندقية أو المشغل أو المصنع أو المؤسسة...أبطالاً له بل جعلهم هدف تصويب ورماية، ومثار سخرية مريرة. وما انتشر في الأرض مما كان في صندوق باندورا كان ومايزال مرفوضاً من الأدب.‏

ومع كل هذه الإدانة للإنسان، يظل الاقتصاد الأدبي الطريق الوحيد للخلاص. فبهذا الاقتصاد وحده ينهض القلب البشري ويتمسك بالقيم البروميثية ويوقف الموت البطيء الذي بات سريعاً هذه الأيام، بفضل الاقتصاد السياسي الحديث، بل يعيد للإنسان نضارته ويخلصه مما على جسده من دروع وما حوله من كتل الحديد، ويقيم علاقات سليمة بإعادة كل ما انطلق من صندوق باندورا إلى عتمة هذا الصندوق.‏

الاقتصاد الأدبي هو ابن الحب والمودة والصدق والمسامحة والتعاون، والاقتصاد السياسي هو ابن الملكية التي لا تعرف قناعة ولا تقف عند حد، إنه ابن الحقد والشراهة والذكاء الشيطاني.‏

وحتى ينهض الاقتصاد الأدبي يحتاج إلى حركة نقدية متينة تضع أمامها استراتيجية إنقاذ الإنسان وتخليصه من حماقته ووقف اندفاعه نحو الهوة المظلمة، وهي الاقتصاد السياسي.‏

مايزال النقد للأسف يبحث عن تركيب جملة ورهافة كلمة وإشراقة ديباجة في ثرثرة لا تنتهي.‏

على النقد أن يضع برنامجاً استراتيجياً لانقاذ هذا المخلوق الأحمق الذي بالاقتصاد السياسي يحفر مقبرة للأحياء.‏

وبما أن الكبار قد أفسدهم الاقتصاد السياسي فعلى النقد أن يوجه الاقتصاد الأدبي لخدمة الصغار والأطفال... فعلّ وعسى.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:14 pm

الفصل الخامس هذا المخلوق الجميل

أجمل مخلوق أبدعته البشرية هو الأدب. وهو جميل بإجماع لا بأكثرية أو أغلبية. إنه الوحيد الذي يحظى بهذا الإجماع، من بين جميع الإبداعات البشرية. إن العلم نفسه لا يحظى بهذا الإجماع، بل إنه حتى الآن لم يستطع الإستحواذ على الأكثرية، فما أكثر الذين يهاجمونه ويرون فيه غولاً مفترساً أظفاره لم تقلّم، يلتهمك بادأته السلام أم لم تبادئه. إن غيلان ألف ليلة وليلة أرحم منه. ألق عليهم السلام تسلمْ وقلّم لهم أظفارهم تكسب خدماتهم وتحقق سعادتك وتنل مبتغاك... إن العلم أفسد حتى الهواء الذي نتنفس.‏

وهذا المخلوق الجميل نعرفه ونشعر به، إلا أننا عندما نحاول تحديده بالضبط ينفر مثل غزلان البوادي أو عصم الجبال. ومع ذلك فإننا مضطرون في هذا الموضوع أن نقاربه بأشد ما تكون المقاربة من إحاطة والتصاق.‏

وحتى لا نجاري غيرنا في التحذلق على القاريء فنلجأ إلى التعريفات التي وضعها المفكرون من عرب وأجانب، ثم نناقشها بإسهاب ممل، فإننا سنعمد إلى اختيار تعريف فضفاض يتفق عليه الشرق والغرب والشمال والجنوب، وهو أن الأدب عبارة عن الكتابة الفنية في الشعر والنثر.‏

ولو استبدلنا الكتابة بالقول لكان أفضل، لأن المصطلح الثاني يدل على الأدب الملفوظ والمكتوب معاً. وما كان ملفوظاً لا يقل روعة عما هو مكتوب. فالأدب الفولكلوري الضارب في القدم مايزال يسحرنا بروعته، وبساطته الفنية وإن لم يكن مكتوباً. وبما أننا في عصر الكتابة فقد ارتبط الأدب في ذهننا بكل ما هو مكتوب. ففي الغرب تطلق كلمة أدب حتى على النشرة المرفقة مع الدواء، والتي ترشد الشاري إلى طريقة الاستعمال المثلى. وهذا يشبه ما شاع عندنا عن الأدب وهو الأخذ من كل علم بطرف.‏

لو أخذنا بهذا التعريف: الكتابة الفنية في الشعر والنثر، لرأينا أنفسنا نقرّ للفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا... بأنها تدخل تحت مظلة الأدب. وهذا بالضبط ما نريد أن نهرب منه أو نعترض عليه. ولكن قبل ذلك لنلق نظرة على ما نسميه "الكتابة الفنية" فنلاحظ أن هذا التعريف هو تعريف براني تماماً. الفنية هنا هي تلك القشرة الخارجية التي تبدو على الكتابة، إن أخذنا بها أبعدنا قسماً كبيراً من الأدب عن الساحة. فماذا نقول مثلاً عن أدب البانتومايم أو التمثيل بالإشارة؟‏

في بعض الأحيان تجد المسرحيات الإيمائية إقبالاً أكثر من غيرها المكتوبة فتثبت تفوقها عليها. فما الذي جعل مسرحية لا علاقة لها بالنطق تتفوق على مسرحية مكتوبة بإتقان وبفنية لغوية مقتدرة؟ هل نقول ان هواة الصمت والإشارة هم الذين يفضلون الإيماء والإيحاء على النطق والخطابة؟ لا أظن ذلك فروّاد المسرح هم أنفسهم الذين يرتادون النوعين.‏

الإيماء على حد قول بافلوف هو النظام الإشاري الأول للغة، ربما كان الإيماء هو اللغة الوحيدة التي كنا نستخدمها يوم كانت حبالنا الصوتية لا تسعفنا إلا في إصدار.أصوات غريبة لا نستطيع أن نتكلم بها. لقد بدأ الأدب منذ تلك الفترة تماماً، وإلا فما الذي يجعلنا اليوم وبعد كل هذا التطور نعجب بالبانتومايم إن لم يكن فيه هذا المخلوق الجميل الذي نسميه الأدب؟‏

في عام 1967 ظهرت مسرحية "الشعر" فحققت شهرة عالمية وماتزال تحقق حتى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية. وهي مسرحية إيمائية تقتصر على بعض الأناشيد والموسيقى. ولكن لا الموسيقى ولا الأناشيد ولا التمثيل المبتكر هو ما حقق لها الشهرة. إن "الأدب" الموجود فيها هو ما حقق لها الشهرة. ولو ارتبطت شهرتها بالأغاني والموسيقى لتهافتت المسرحية بعد عدّة أشهر، لأن إنتاج الموسيقى والأغاني هو إنتاج يومي تقريباً، وكل فوج جديد من هذا الإنتاج ينسخ سلفه ويحل محله وهكذا.‏

هذا الأدب الذي يصلنا من مسرحية "الشعر" هو أدب غير مكتوب ومع ذلك فإنه يؤثر فينا. وأنا أعتقد أن هذا التأثير في النفس هو الأدب الحقيقي وليس الكتابة الفنية التي قد يقتصر تأثيرها على الأذن فقط فنعجب بها من غير أن تصل إلى نفوسنا. إن للأدب لغة خاصة جداً أوسع من الملفوظ.‏

صار لدينا الآن عنصران للأدب يمكن اعتمادهما: الكتابة الفنية والتأثير في النفس. ولكن اعتمادهما يحتاج إلى مزيد من التحديد. فمن حيث الكتابة الفنية هناك كتابات فنية راقية جداً ومع ذلك لا يجوز إقرارها كأدب. فقد قيل إن كتابات الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط تعتبر من أرقى الكتابات الفنية ، على النقيض من كتابات هيغل السريعة والمتدفقة. كان كانط يهتم بإسلوبه اهتماماً كبيراً على ذمة عبد الرحمن بدوي الذي خصه بأربعة كتب ألفها عنه.‏

ومن جهة أخرى فإن تأثير كانط في القراءة كان تأثيراً كبيراً جداً وقد ذهب عبد الرحمن بدوي إلى أنه أحدث ثورة لا تقل عن ثورة أرسطو. لكن لا عبد الرحمن بدوي ولا غيره يبيح لنفسه أن يعتبر كانط أديباً. فالأدب الفلسفي -إذن- يجب ألا يدخل تحت مظلة الأدب إلا ما كان منسجماً مع الأدب الذي نعرفه ونحسه. إن كتاب نيتشه "هكذا تكلم زارادشت" يدخل في باب الأدب، لأنه تغلغل إلى النفوس مثلما يتغلغل أي نص أدبي، وبقي تأثيره مستمراً، فهو لم يكن تأثيراً موجيّا ينتهي بانتهاء الموجة.‏

وربما كانت الماركسية أوضح مثال نسوقه في هذا الصدد. فبعد فشل بيرسترويكا غورباتشوف تعاورت الإنهيارات على الماركسية، وتدنى على الفور ثمن الكتب الماركسية، حتى صارت أقرب إلى المجان ولا من مشتر. وقد كثرت هذه الكتب على أرفف المعارض وسطوح العربات في الشارع، لكنها لم تلق رواجاً على الرغم من كل ذلك. لكن كتب إيلوار وأراغون ونيرودا وناظم حكمت ظلت في مكانتها المرموقة لم تتدن لا ثمناً ولا اعتباراً. الآداب الأخرى التي تقوم على الدعاية من أمثال الحرس الفتي والأوبكوم السري وبقية كتب الحرب شالت كفّتها وتحوّل سوقها إلى مقبرة لها أما "صمت البحر" لفيركور فظل شامخاً، لأن فيه أدباً حقيقياً.‏

هذا المثال، وغيره من الأمثلة يقدم لنا الفارق الكبير بين ما هو أدب وما هو خارج الأدب. فالأدب ليس المكتوب كتابة فنية وحسب، بل إن هذه الكتابة الفنية سرعان ما تنهار إن خلت من الأدب، ومهما كان مستواها الفني رفيعاً. والتأثير وحده لا يكفي. يجب أن يكون تأثيراً مستمراً. كل تأثير يشبه الموضة الدارجة لا ينتج أدباً. الأدب هو الأسطورة التي تعلو على الزمن وتمسك بالنفس في كل حين، الأدب هو ما يخلد فقط، وعندما نقول عن أدب ما إنه أدب الماضي الذي ولى زمانه، فإن علينا أن نعيد النظر في مفهومنا للأدب، لأن مثل هذا الأدب يفتقر إلى "الأدب" الذي نحاول تحديده ليكون ملموساً وبارزاً.‏

وكما بقي من الماركسية أدبها الحقيقي، كذلك نلاحظ أن الأديان لم يبق منها سوى أدبها الحقيقي. لقد انتهت الأديان الإغريقية والأديان الرومانية وأديان القبائل الجرمانية، وأديان البلاد السكندنافية... ولكن أدبها مازال باقياً فزيوس وجوبيتر وأودن، والسيرينات والأيرينات والفالكيرات تحولت إلى رموز أدبية، ماتزال تعيش بيننا. ولو لم تكن ذات دلالات أدبية لانتهت بانتهاء أديانها. إننا اليوم نتعامل معها من دون أن نقول انها "دقة قديمة" بل على النقيض من ذلك إذ نشعر أنها طازجة دائماً. والكتابة التي تظل طازجة دائماً هي الأدب. ونقول الكتابة ونقصد الأدب كتابة أو فولكلوراً. وحتى نوضح ماهية الأدب سوف نقدم هذا المثال الضارب في القدم آلاف السنين والذي يرجع إلى الديانة الإغريقية القديمة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:15 pm

كان ما كان في قديم الزمان، ربة تختص بالقمح والإنبات أسمها ديمتر. هي التي تنبت سنابل القمح وبراعم الشجر وزهور النباتات. كان لها ابنة تسمى برسيفوني. وكان لها مربية أو مرضعة تسمى باوبو. كانت برسيفوني جميلة كأمها فأحبها بلوتو رب الجحيم فاختطفها من حديقة الأزهار عندما كانت تقطف سوسنة جميلة.‏

طار صواب ديمتر وشكت أمرها إلى الأولمب. لكن اللعين بلوتو كان قد قدم حبات الرمان لبرسيفوني فنسيت عالمها الأرضي: عالم القمح والأزهار. وأضربت ديمتر عن العمل رغم توسلات مربيتها باوبو. وإضرابها عن العمل يعني فناء البشرية. وقد ضج الناس واشتكوا للأولمب. الأرض أمحلت والكروم أقعلت ولم تبق إلا مياه الينابيع والأنهار، والإنسان لا يستطيع أن يعيش على الماء وحده. أقاموا المعابد لديمتر وألفوا الأناشيد والأغاني ومارسوا طقوساً تعبدية عسى أن ترضى. وقد لاحظ الأولمبيّون إن القضاء على البشرية يعني القضاء عليهم، فأمروا بلوتو أن يسمح لبرسيفوني أن تمضي نصف العام عند أمها، فعادت وعاد القمح والزهر ونما العشب، فشبعت الدابة وملأ الناس أهراءهم...‏

من الأناشيد والأغاني التي أداها الناس لترقيق قلب ديمتر هذه المقطوعة:‏

هيا يا ديمتر، لقد عادت ابنتك‏

إليك، فمرّي على الحقول لتزهر‏

وتعود إليها العصافير المهاجرة‏

ويرجع الربيع بأبهى الحلل.‏

فيا مليكة غليوس‏

يا واهبة الأرض أطيب الغلال‏

اسبغي علي نعمتك.‏



وبعد آلاف السنين نسمع أغنية من تأليف وتلحين وإعداد دبكة وإيقاع زكي ناصيف. تقول:‏

هلا يا هلا منلّك هالحلا‏

يا تكون الحلوة متلك يما بلا‏

...‏

مري بأرض البور تخضر العشبات‏

ويزهر منتور وتفتح وردات‏

أسمك عم يدور بعمري غنيات‏

رددها العصفور وصار يرتلا‏

هلا يا هلا‏



كيف خطر لزكي ناصيف أن يقول إن هذه الحلوة إذا مرت بالأرض البور أحالتها إلى خضرة وعطاء؟.... الأدب؟... إذن إنه الثابت الذي نستلمه قديماً ونستخدمه طازجاً.‏

والدين الإغريقي دين حديث إذا قيس بالدين المصري. لننظر في هذا الدين قبل عشرات الآلاف من السنين، ثم لننظر الآن في الآداب التي بين أيدينا نلاحظ أن ما بقي من هذا القديم جداً هو الأدب. فالمزامير التي تنسب لداود هي في الأصل من الدين المصري، وهي التي بقيت منه، مثلها مثل كل ما هو أدبي. إن الأدب هو ذلك الجزء الإنساني الذي ينخلع عن زمنه ويبقى خالداً مهما كان مصدره.‏

والدين المسيحي يتحولُ، أو تحولَ إلى رموز أدبية. الصليب بات رمزاً يستخدمه الأدباء من جميع الأديان. المذود والمغارة وطريق الجلجلة انخلعت عن الدين وصارت رمزاً للتواضع والتسامح والألم والتضحية. بل إن المسيح نفسه بات رمزاً للفادي الذي يقدم نفسه ذبيحة من أجل البشرية. إنه مثل بروميثوس، الذي تخلى عن عنصره الديني واحتفظ بعنصره الأدبي. إن ما انتهى من الأدب المسيحي هو العنصر غير الأدبي.‏

ولنقترب من عصرنا الحديث أكثر فأكثر. لقد حقق عزرا باوند شهرة كبيرة في عالم الأدب الحديث. ولا أظن أن أحداً منا ينكر فضله في الشعر والنقد والأدب. لكن هذا الرجل كان من أشد أنصار موسوليني حماسة. إنه يشبه دانتزيو الإيطالي، إن لم يفقْهُ اندفاعاً. سجن وعذب وظل مخلصاً للدوتشي، ويرى فيه مسيحياً مقاتلاً سوف ينقذ البشرية. ومات عزرا باوند من دون أن يتزعزع إيمانه بالدوتشي، الذي كان قد سبقه إلى العالم الآخر. مات عزرا في 1972، أي بعد ربع قرن من موت الدوتشي. وظل طيلة هذه المدة مخلصاً لمباديء الدوتشي. واليوم نحن نتهافت على عزرا باوند ونتقزز من سيرة الدوتشي ومبادئه. ولولا الأدب لكنا أنموذجاً للسخرية: نكره الدوتشي ونعجب بنصيره المخلص.‏

إن هذا النصير المتحمس مارس الأدب الحقيقي بكل جدارة. ولو أنه جعل أدبه صدى لخطابات الدوتشي لسقط سقوطه. كانت خطابات الدوتشي "كتابة فنية" حقاً ألهبت المشاعر. ومع ذلك لا يجرؤ أحد أن يقول أن خطابات الدوتشي تشبه كتابات عزرا لا من قريب ولا من بعيد. ولكن لو أخذنا بظاهر تعريف الأدب "كتابة فنية" لاضطررنا إلى جعل خطابات هتلر وموسوليني ومن شابههما أدباً حقيقياً. فالأدب ليس ذلك النقش المزخرف للكلمات الذي يعجبنا لوقت، بل هو ذلك الراسب النفسي الذي يؤثر فينا دائماً وفي كل وقت. لقد ثبت أن الطلاء البراني، مهما بدا ناصعاً، لا يمكن أن يكون قاعدة نقيس بها الأدب. قد يكون قيمة إضافية، يمكن أن يعمق التذوق إذا كان طلاء ناجحاً. لكنه ليس مقياساً قائماً بذاته، مع احترامنا لكل آراء البنيوية وفروعها وأغصانها الكثيرة وبراعمها الجديدة.‏

حتى نعرف الأدب على حقيقته فلنقم بترجمته إلى لغة أخرى. بعملنا هذا نكون قد نزعنا ذلك الطلاء الخارجي، فإن بقي مؤثراً، وإن وجد أنصاراً وحماسة، وإن استمر تأثيره خارج الزمن، فإنه أدب حقيقي، وإلا فإنه طلاء براني لا يمس حقيقة الأدب. فالأدب ليس بذلك الذي يرتفع عن ظروف الزمان فحسب، بل إنه أيضاً ذلك الذي يرتفع عن ظروف العرق والبيئة والدين والعصبية. ولذا نرى أن من الخطأ الحكم على أدب طبقاً لعرق أو بيئة أو دين أو عصبية. يجب أن نتريث حتى يصفي الزمن هذا النتاج، فما كان أدباً ارتفع عن الزمن وعن الأشياء الأخرى. وما كان طلاء سقط وانتهى. إن الترجمة -في رأينا- هي إحدى الطرق التي نلجأ إليها لنعرف فيما إذا كان ما نقدمه أدباً أو غير أدب.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:15 pm

وعلى هذا فإن الأدب "إنساني" لا يختص بزمان ولا بمكان ولا بعرق. إنه إنساني, بمعنى عالمي، فإذا قبل هذا الأدب هنا ورفض هناك، فإنه ليس أدباً، وإن كان مكتوباً كتابة فنية.‏

أين اليوم الآداب العنصرية؟ من يتعاطاها أو يأتي على ذكرها؟ ألم تكن هذه الآداب مكتوبة كتابة فنية؟ بلى، بل إن الفنية المتوافرة فيها تفوق فنية الآداب الأخرى. وأنا أرى أن الأدب عندما يكون أجوف من الداخل يكون مزخرفاً من الخارج مثل طبل كليلة ودمنة. لكن هذا من باب آخر لا يعني أبداً ترك الحبل على الغارب، والدعوة إلى الكتابة العشوائية، على غرار ما دعت إليه السيريالية، بل إن الوعي الجمالي يجب أن يكون هادياً للكاتب لأنه هو الذي يستلم الفلز من اللاوعي ويقوْلبه بطريقته ليصبح مقبولاً من الناس، وإلا ظلّ في حالة فوضى وتشويش.‏

بيد أن الوعي الجمالي ليس وعياً بالكلمة والجملة والتركيب فحسب، وإلا كان سيبويه أعظم أدباء العربية. إن الوعي الجمالي هو ذلك الحس العميق الذي ينتقي من الفلز الأدبي اللاواعي مادته القابلة للتشكيل. والوعي الجمالي ليس طريقة ولا منهجاً. إنه استيعاب للتقاليد الأدبية من أيام باوبو وحتى كنزا بورو أو الحائز على نوبل 1994.‏

وأنت تميز الأدب بهذا الحس، حس التقاليد الأدبية. قد تحلله بعقلك وتبحث عن عشرات الأسباب التي تجعل من هذا الأثر أثراً أدبياً. لكن مهما فعلت تظل هناك أمور تشعر بها ولا تستطيع التعبير عنها. لقد حورب دستويفسكي حرباً شعواء وكيلت له التهم من كل نوع فهو داعية الإنحلال والهروب والعدمية والتقوقع... إلى آخر ما هناك من صفات أفرزها المعجم الجدانوفي. وقد انجرّ الشبان وراء هذه الدعاية وانكبوا -بناء على نصيحة لينينية- في قراءة البروليتوكولت. ولكن لم يمر أكثر من بضعة عقود على الحجر الجدانوفي حتى انتصر دستويفسكي واحتل مكانته في نفوس القراء في روسيا وفي بقية بلدان العالم إلى جانب ليرمنتوف وبوشكين وغوغول..والأدب الحقيقي، الأدب الذي يلتقطه حس التقاليد الأدبية، هو الأدب المستقل الحر. مستقل حتى عن مؤلفه، وحر حتى لو كان في العصر العبودي. سأذكركم بكاتب روسي عاش من أواخر العقد الثاني للقرن التاسع عشر وحتى نهايته من 1819-1893 هو بافل مالنكوف الذي كتب باسم مستعار هو بشرسكي. كان هذا الرجل موظفاً عليه أن يؤدي واجب وظيفته. وقد كلفته الحكومة بملاحقة أولئك الوثنيين الذين يشكلون جماعات مستقلة عن الحكومة وعن الكنيسة في آن. يقومون بطقوسهم وشعائرهم من دون ان يزعجوا أحداً حتى النمال التي تدب على أرضهم ما كانت تنزعج منهم. طاردهم مالنكوف مطاردة شديدة ونفذ مهمته كموظف بإخلاص فقد شتت شملهم تماماً وقضى على القسم الأعظم منهم. وكان هؤلاء المساكين يهربون بجلدهم من مكان إلى مكان لا يبغون قتالاً ولا مجابهة.‏

هذا ما فعله مالنكوف الموظف. أما بشرسكي الأديب فقد قدم لنا أروع الآثار الأدبية التي تصف هؤلاء الطقوسيين الوثنيين فوصف عاداتهم وتقاليدهم وعواطفهم الإنسانية وصفاً يثير الشجن ويهصر النفس ولو كانت من حجر. ولهذا عاشت رواية بشرسكي "في الغابات" واحترم كاتبها احتراماً كبيراً بينما صبت اللعنات على مالنكوف الذي قضى على هذه المجموعات المسالمة.‏

إقرأ الآن ما كتبه بشرسكي تجد نفسك أمام "أدب" حقيقي يتجاوز كل شيء. يتجاوز الطلاء البراني والإطار الزماني ويصل إلى فؤادك الجواني. إنها تجربة غير آنية... يعني أنها تجربة أدبية.‏

قارن بين بشرسكي الذي كتب ومالنكوف الذي طارد وعذب وقتل تجد بونا شاسعاً. وقد فعل مالنكوف خيراً إذ كتب تحت اسم مستعار، وإلا من يصدق أن التمساح يبكي ضحيته؟.‏

كل ما ارتبط بمكان أو زمان أو عرق أو دين، كل ما فشل في تجاوز العرضي لا يسمى أدباً مهما أطلقوا عليه من ألقاب وأطنبوا في مدحه. الأدب هو الذي نقرأ القديم منه فنظنه جديداً ونقرأ الجديد منه فنظنه يرجع إلى أعماق التاريخ البشري. الكلمات التي تدل على المكان والزمان والشخصيات في النص الأدبي لا تقدم ولا تؤخر لأنها لا ترتبط بالأدب أو بالأصح لا تربط الأدب بها. تستطيع إن رغبت أن تطلق عليها أسماء جديدة فلا شيء يتغير.‏

الآن سوف أضع أمامك أيها القاريء نصاً شعرياً هو التالي، مرجئين الحديث عنه إلى ما بعد قراءته:‏

أيتها الشمس أيتها الشمس‏

لقد حضر الموت، وحلت النهاية‏

والشجرة سقطت وماتت‏

أيتها الشمس، أيتها الشمس‏

لقد ولد الطفل في بطن أمه‏

فالموت يحيا والإنسان يحيا‏

أيتها الشمس أيتها الشمس.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:16 pm

إني أسألك: لمن هذا الشعر؟ وإلى أي زمن ينتمي؟ وهل يخص شعباً يختلف عن شعبنا، أو عن شعوبنا الحديثة؟‏

لا شك سوف تجيب بأن هذا الشعر هو لشاعر حديث، قد تجعله سورياً أو عربياً أو أجنبياً... ولكنه في كل الأحوال شاعر حديث. أما الزمن الذي ينتمي إليه هذا الشعر فهو الزمن الحديث الذي تلوثت فيه البيئة فأماتت كل شيء حتى الأشجار. ومادام الموت يحيا فإن كل شيء سوف ينهار. وربما شط بك الخيال فرحت تقول إن مؤلف هذه الأبيات هو شاعر حديث من حزب الخضر الذين ينتشرون في الأصقاع الأوروبية، والذين جعلوا همهم الأول وقف هذا التلوث المريع الذي يتم بحجة التقدم (؟).‏

وأنت محق فيما تذهب إليه. ولكن الشعر إذا ربطناه بواقعته، فإن هذه الواقعة تشير إلى أن الشعر هو من إنتاج أحد أقزام الغابون في إفريقيا السوداء، ويرجع إلى آلاف السنين، فهو شعر بلا عنوان وبلا مؤلف. فقد عفا الزمن على ذلك ولكنه احتفظ بهذ الأدب الرفيع.‏

وحتى تكون على بينة من الأمر نقول لك أن هذا الشعر يقال عادة في عيد الشمس ويؤدى بطيئاً ترافقه رقصة هادئة متمايلة تدل على الضراعة والتوسل، كصلاة الاستسقاء عندنا. إنهم وثنيون يطلبون من الشمس، مصدر الحياة أن تظل رؤوفة بهم تحفظ لهم الإنسان والشجر... تحفظ لهم الحياة.‏

وعلى هذا يكون كل عمل فني مؤثر في النفس يرتفع فوق الوثنية والوحدانية والعرقية والإقليمية والعصبية... ويجتاز الزمن خلفاً أو أماماً بحيث يلغيه إلغاء إنما هو عمل أدبي دون ريب.‏

ومع أن التاريخ والجغرافية والسياسة والفلسفة وعلم النفس والفيزياء والكيمياء وحتى الرياضيات كلها نابعة من الأدب، إلا أنها ليست أدباً أو على الأقل في اعتبارنا الآن، لأن إدخال مثل هذه الفروع سيجعل مناقشة أي قضية أمراً متعذراً أو مستحيلاً.‏

حتى الفروع القريبة من الأدب والتي تكمله، كالموسيقى والنحت والرسم والإيقاع ليست أدباً أو لن نعتبرها أدباً حتى لا نقع في إشكالات نحن في غنى عنها، مع أن مثل هذه الفنون هي فروع متممة للأدب وعلى الأخص الموسيقى والإيقاع.‏

لنقترب أكثر لتحديد هذا المخلوق الجميل فنقول ان الشعر هو الأدب. الوجود الإنساني هو وجود شعري، ودهشته هي دهشة شعرية انبرت الفلسفة للإجابة عنها إجابات غير انفعالية فابتعدت عن الأدب. وعندما نقول الشعر فإننا نعني ما خرج منه فيما بعد: الملحمة والمسرحية والخطابة... والقصيدة بأنواعها والقصة والرواية والنكتة والحزورة واللغز والفولكلور... إلى آخر ما هناك من فروع وأنواع.‏

الغناء والموسيقى والرقص وسيناريو السينما والفيديو من متممات الأدب إلا أننا في مدخلنا سوف نتجنبها وندعها بعيداً على أهميتها.‏

وبما أن هذا الطفل جميل، أو يجب أن يكون جميلاً، فلا بد من أن ننبذ كل ما هو قبيح أو كل ما لا تتوافر فيه الصفات التي تحدثنا عنها. وسنقدم مثالاً نرجو أن يكون واضحاً وهو ملحمة "المسيح" لكلوبشتوك وهو شاعر من القرن الثامن عشر، أنفق دهراً في تدبيج هذه الملحمة الطويلة جداً، التي يروى فيها بلغة تمجيدية حياة وآلام المسيح من غير أن يأتي بأي شيء جديد.‏

في ذلك الوقت تهافت الناس عليها تهافتاً شديداً، وحققت شهرة واسعة ولكن فيما بعد تبين للناس أنه لا يوجد فيها ما يستحث على قراءتها، فمعلوماتها هي معلومات الأناجيل، لم يرتفع بها الشاعر إلى المستوى الأدبي، بل ظل في حدود الدعاية الدينية بروح تعصبية. يضاف إلى ذلك أنه أرهقها بالتطويل والإسهاب والإلحاف على النقاط التي أوردتها الأناجيل.‏

اليوم لم يعد لها أي تأثيرلا في الشعر ولا في النقد ولا في الأدب، ومن النادر أن يأتي أحد على ذكرها مع أنها ملحمة ضخمة سلخ ثلاثين عاماً من حياته لانجازها. من حيث الشعر قدم لنا شعراً دقيقاً من العروض الثماني. ومن حيث اللغة يقال انه كان متقناً جداً للغته الألمانية، وماتزال بعض أناشيده تقدم على أنها نموذج للغة الراقية... باختصار ان كل المقومات الشكلية متوافرة في هذه الملحمة، ومع ذلك لا يمكن أن ندخلها في حيز الأدب لأنها لم ترتفع إلى المستوى المطلوب الذي تقتضيه التقاليد الأدبية. الشاعر غير الواعظ والأديب غير المتعصب. ولو أن أيليوت جاءنا بشعر على غرار عقيدته الكاثوليكية لكان مصير شعره كمصير ملحمة كلوبشتوك.‏

أما ملحمة الكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي قبل كلوبشتوك بأربعة قرون فإنها تعتبر قمة من قمم الأدب لأنها ارتفعت عن الكهوف الضيقة للنظرة الوحدانية التي كانت تفرضها الكنيسة الغربية. كانت صرخة حقيقية في وجه الاستلاب الجسدي والروحي. إنها من الأدب الحي الذي لا يموت. وقديماً قيل: ليس كل ما يلمع ذهباً. إن شرط الأدب هو القبول الدائم من الناس جميعاً، بمعنى أن الأدب يتجاوز الزمان ويخترق حواجز الدين والعرق والبيئة.. وكل ما تحدثنا عنه. أن يوربيدس الوثني جداً يقرأه المسيحي جداً والمسلم جداً بلا غضاضة... وبهذا المفهوم نتمنى أن ندخل ميدان الإنتاج الأدبي حتى لا نحاسب سقراط كما نحاسب بودلير، أو نحاسب باغانيني كما نحاسب أدغار ألن بو، أو نضع ملحمة هومر وملحمة كلوبشتوك في خانة واحدة.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:17 pm

الفصل السادس : القانون الأساسي للاقتصاد الأدبي

لا شك أن الماركسية ثورة في التفكير. وثورة اكتوبر لا تمثل الماركسية بالإجماع ولا بالأكثرية، فمنذ قيامها حذّر بليخانوف من أنها طفل خديج، ومن بعده كتب كاوتسكي مؤلفاً خاصاً عن الثورة تحدث فيه عن مستقبل هذه الثورة التي لا تمثل الماركسية في رأيه. والغريب أن هذا الكاتب، الذي وصفه لينين بالمرتد، رسم معالم انحراف الثورة منذ بدايتها وحدّد بدقة غريبة معالم انهيارها، وتحققت نبوءته بعد ربع قرن من وفاته تقريباً. إلا أن الماركسية كثورة فكرية ماتزال فعّالة في الأوساط الثقافية العالمية. ومن أبرز ما قدمته الماركسية وكان له تأثير في الدراسات النفسية والأدبية واللغوية قولها ان المجتمع يتألف من بنيتين: أساسية وثانوية أو تحتية وفوقية أو مادية ومعنوية. وقد استفاد المفكرون والباحثون من هذه الأطروحة كثيراً، وبالأخص المفكرون الفرنسيون. إن دراسات لوسيان غولدمان، الذي أنتج كتبه في فرانسا، تقوم كلها على هذه الأطروحة. ودراسته لأدب القرن السابع عشر، أدب البورتروياليين هي تطبيق دقيق لهذه المقولة، إذْ درس البنية التحتية وأبرز قانونها الأساسي ثم انتقل إلى أن هذه البنية هي التي أنتجت أدب البورتروياليين الذين شعروا أنهم أقصوا عن الفعالية الإنتاجية.

إذن كل بنية فوقية تتبع البنية التحتية وتتفاعل معها تأثراً وتأثيراً. والتغيير الذي يحدث في البنية التحتية لابد أن يجري التعبير عنه في البنية الفوقية من حقوق وآداب وتشريع وسياسة. وقد وضع ماركس وانجلز في البيان الشيوعي المعالم الأولى للتشكيلات الاقتصادية التاريخية التي توسع في دراستها الماركسيون في النصف الثاني من القرن العشرين. وحتى لا نطيل على القاريء بمعلومات باتت معروفة نوجز فنقول ان التاريخ عرف خمس تشكيلات اقتصادية، كل تشكيلة في وقتها تشكل البنية التحتية التي تستوجب قيام بنية فوقية خاصة بها. وهذه التشكيلات هي المشاعية فالعبودية فالإقطاعية فالرأسمالية فالإشتراكية.

كل تشكيلة من هذه التشكيلات لها قوانينها الخاصة. لكن هذه القوانين كلها تنبثق من قانون اقتصادي واحد يقال له القانون الأساسي. فالقانون الأساسي للمشاعية هو جني الثمار وما يترتب عليه من قوانين المبادلة وغيرها. والعبودية قائمة على قانون امتلاك أكبر ما يمكن من العبيد لأنهم يشكلون الثروة الأساسية في تلك الأيام. أما القانون الأساسي للإقطاعية فهو استثمار الأرض بحيث يكون العائد بيد الإقطاعيين الذين يمثلون النسبة الضئيلة من مجموع المواطنين أو السكان. والقانون الأساسي للرأسمالية هو تحقيق أقصى درجة من الربح بينما القانون الاقتصادي الأساسي للاشتراكية هو تأمين أقصى درجة من الرفاهية المادية والثقافية، أي تلبية حاجات الجماهير الواسعة، المادية والمعنوية.

عندما يتغير القانون الأساسي للتشكيلة التارخية فإن البنية الفوقية تتغير. وحتى لا نذكر كل عناصر البنية الفوقية فإننا نكتفي بالأدب، الذي من المحتم أن يتغير، إذا اعتبرناه بنية فوقية تابعة للبنية التحتية، وعنصراً مرتبطاً بالقانون الاقتصادي الأساسي للتشكيلة التاريخية. إلا أن الماركسية أشارت، ببراعة ودقة إلى أن البنية الفوقية لا تنزاح آلياً بانزياح البنية التحتية, فقد تمارس تأثيرها فترة من الزمن وهذه الظاهرة أطلقوا عليها اسم "الانخلاع". والانخلاع لا يكون إلا في البنية الفوقية. فإذا وجدنا أدباً إقطاعياً في التشكيلة الرأسمالية فإن ذلك يعني أن الأدب الإقطاعي انخلع عن ظروفه واستمر في التشكيلة الجديدة، إلا أن استمراره ليس أبدياً، بل سرعان ما يفقد تأثيره في الناس ويأخذ بالتلاشي.

يعتبر الفصل الثالث من البيان الشيوعي فاتحة الدراسات الأدبية التي ظلت تنظر إلى الأدب على أنه بنية فوقية تابعة، من ماركس وأنجلز وحتى لوسيان غولدمان. فالأدب في هذه النظرة يعامل كما يعامل التشريع والحقوق والدساتير التي لا يمكن أن تسبق التطورات الاقتصادية والعلمية. فنحن لا يمكن أن نضع قانون سير للأوتوموبيل في العصر الذي لا نستخدم فيه إلا عربات الجر والنقل. وهذه النظرة قائمة على التقدم المطرد مهما كانت الانتكاسات. بمعنى أن كل تشكيلة اقتصادية جديدة هي أفضل من التشكيلة القديمة. وقانونها الأساسي أفضل من القوانين السابقة عليه. ليس هذا وحسب، بل إن أي تشكيلة اقتصادية إنما هي تشكيلة تاريخية، بمعنى أنها ضرورية للتشكيلة التي تليها والتي تكون بذورها مزروعة في قلب التشكيلة السابقة. وهذا ما أطلقوا عليه اسم "الحتمية التاريخية" أو المادية التاريخية. أي أن الانتاج المادي هو إنتاج تاريخي يخرج عن الإرادة البشرية ويصبح ذا خط تطوري خاص. إن الراسمالي ينتج، ولكنه لا يعرف أن هذا الإنتاج سوف يؤدي إلى مرحلة جديدة.

هذه المعلومات المعروفة عرضناها بإيجاز كتمهيد للانتقال إلى البحث عن القانون الأساسي الذي يرتبط به الأدب، أو القانون الأساسي للاقتصاد الأدبي،وفق نظرة جديدة ووقائع تارخية جديدة.

ظلت الماركسية تنظر إلى الأدب كما تنظر إلى الحقوق والسياسة والدين والفلسفة... كأنه تشريع من التشريعات أو فلسفة من الفلسفات، مع أنه لا من هنا ولا من هناك. وفي المناقشة الواسعة التي دارت عام 1950 في الاتحاد السوفياتي رفضت النظرة التي تجعل اللغة بناء فوقياً وقد حسم ستالين هذه المسألة في كتابه "الماركسية ومسائل علم اللغة" وقد ترجمنا الكتاب كاملاً. وإذا كانت اللغة ليست بناء فوقياً، فإن الأدب بناء فوقي تابع للبناء التحتي ويزول بزواله... كما أكدت المناقشة. يمكن الحديث عن لهجة أو أسلوب طبقي في اللغة ولكن لا يمكن القول أن اللغة طبقية، أو يمكن أن تكون ثمة لغة طبقية. اللغة تراث مشترك تسهم فيه جميع الطبقات. أما الأدب فهو دائماً طبقي. ولا يمكن أن يتصوروا أدباً خارج إطار الطبقة. فالأدب ليس مشتركاً، إذ لكل طبقة أدبها وأدباؤها، تماماً مثلما أن لكل تشكيلة اقتصادية أدبها. بل إن الأدب كالسياسة يعبر ليس فقط عن الطبقة، بل عن تضاريسها الفئوية أيضاً. وبما أننا نرى الأدب رؤية خاصة تنأى به عن التبعية لأي تشكيلة اقتصادية تاريخية، وبالتالي لأي طبقة، فلا بد من شرح هذه الرؤية عن طريق بسط النقاط المفصلية الأساسية التالية:

1- لا نظن أن الأدب يسير وفق هذه التبعية للبناء التحتي. إنه لا يختلف عن اللغة في هذه الناحية. إن كلمات من أمثال: القنبلة النووية والصاروخ الموجه والنفاثة والدبابة وحرب الفضاء.. هي كلمات حديثة جداً لا نطمع أن نجدها في أي تشكيلة اقتصادية سابقة. فمن المحال أن ينطق بأي كلمة من هذه الكلمات شخص يعيش في أي تشكيلة من التشكيلات السابقة على الرأسمالية. وهناك مفردات لغوية بعضها انتهى وبعضها على وشك الانتهاء وصلتنا من التشكيلات الاقتصادية السابقة مثل المجرفة والمعول والمحراث... بل حتى كلمة الحصان بدأت تخف من التداول اللغوي. وعندنا اليوم من النادر أن تقرأ كلمة "جمل" في نص حديث. إن اللغة تتلون بألوان التشكيلة الاقتصادية التاريخية. هذا أمر ظاهر ومؤكد. لكن ذلك لا يعني أبداً أن اللغة بناء فوقي تابع لبناء تحتي، وللا يجرؤ أحد أن يؤكد ذلك أو أن يثبته ولو توافرت له عشرات البراهين بأن مفردات الرأسمالية تختلف عن الإقطاعية، ومفردات الإقطاعية تختلف عن العبودية... وهكذا إن مثل هذه التلاوين لا تعني أن اللغة فقدت استقلالها عن البناء التحتي.

ونحن نرى أن الأدب في هذه الناحية يشبه اللغة، فهو لا بد من أن يتأثر بالبيئة الاجتماعية الطارئة أو السابقة، ولابد من أن تدخل عليه مفردات جديدة من التشكيلة الجديدة. لكن ذلك لم ولن يؤثر على وظيفته، على قانونه الخاص كما سوف نرى. ومثل هذه المفردات هي التي خدعت بعض الباحثين فجعلوا الأدب تابعاً للبناء التحتي. لا شك أن مفردات العصر الجاهلي، حيث اللات والعزى والانتقال عن الديار التي تحولت إلى آثار دوارس، تبرز في نصوصه الأدبية. فالشاعر الذي يقول:



ودار لها بالرقمتين كأنها


مراجع وشم في نواشر معصم


بها العين والأرام يمشين خلفة


وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم


وقفت بها من بعد عشرين حجة


فلأيا عرفت الدار بعد توهمِ


أثافي سعفاً في معرس مرجل


ونؤيا كخذم الحوض لم يتثلم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:17 pm

هو شاعر لا يمتّ إلى تشكيلتنا ومفرداتها بصلة. ولا شك أن مفرداتنا لم تكن تخطر على بال ابن أبي سلمى ولا على بال غيره. ومع ذلك لا نستطيع الزعم أن الأدب بناء فوقي تابع لبناء تحتي، إلا بمقدار ما نستطيع الزعم أن اللغة بناء فوقي يخضع لتغيرات التشكيلة الاقتصادية التاريخية، لأنه يخضع لقانونه الخاص الذي لم يتغير منذ ظهوره وحتى اليوم، والذي نظن أنه لن يتغير.

2- لو كان الأدب بناء فوقياً لكان لكل تشكيلة أدبها. وما وصلنا من أدب يرجع إلى آلاف السنين قبل الميلاد. ومن الآثار الأدبية التي وصلتنا كاملة تقريباً ملحمة كلكاميش وقصة سنوحي وألواح أوغاريت التي دوّنت عليها قصائد ومقطوعات شعرية ونوتات موسيقية. ولو سرنا بالتسلسل حتى هذه الأيام لصرنا أمام كمية هائلة من الأدب المنشور فهل نستطيع تصنيف هذه "الأبنية الفوقية" وفقاً للتشكيلات الخمس؟ ترى ما الفرق بين قصائد أوغاريت وغزل نزار القباني؟ ولو استمعنا إلى الموسيقى الأوغاريتية التي باتت معروفة وفي متناول اليد، من دون أن نعرف إلى أي زمن ترجع، ولا نعرف اسم المدينة التي أنتجتها، فهل نستطيع إرجاعها إلى التشكيلة الاقتصادية التي أفرزتها أو أوحت بها؟

بالطبع لا نقصد أن التشكيلة لا تترك بصماتها في الأثر الأدبي. فقد سبق أن أشرنا إلى أن اللغة ذاتها، والتي تعتبر مستقلة عن البناء التحتي تتأثر بالتشكيلات الاقتصادية التاريخية. وكل ما نستطيع قوله هو أن الأدب يظل واحداً من حيث عمومية التجربة الإنسانية، لكنه يتأثر بالمرحلة أو الظرف أو البيئة من حيث أدوات التعبير فقط. فعندما يكون السيف رمزاً للسلطة فإنه لا يختلف عن الصاروخ من الناحية الأدبية. وقبل السيف والصاروخ كانت العصا التي استخدمها أصحاب السلطة من الشامان إلى الحكيم إلى الخطيب إلى الراعي إلى الملك. ولا يزال بعض الملوك اليوم يمسكون بالصولجان رمزاً للسلطة والسيادة، بل إن بعض قادة الجيش في هذا العصر عندما ينالون مرتبة رفيعة في السلك العسكري يتأبطون صولجاناً من نوع خاص للتدليل على مكانتهم السلطوية.

وعلى هذا فإن في مقدورنا القول ان عمومية التجربة الإنسانية هي التي تبقى في الأدب، بمعنى أن الهدف النهائي للأدب لا يتغير. إنه هو ذاته منذ أقدم العصور وحتى اليوم. بيد أن المهمات الآنية هي وحدها التي تتغير. اليوم لا ينتج الأدب ذلك الشعر المرتبط بالعمل. قديماً كانت هناك أناشيد لصيادي البر وراكبي البحر. كانت هناك أغاني الكروم التي كانت تننشد يوم كان أهالي القرية، ولعهد قريب، يذهبون جماعات جماعات إلى الكرم فيبدأ أحدهم أو إحداهن بلازمة الأغنية ثم يكون الترداد الجماعي والتناوب الافرادي حتى ينتهي قطاف الكرم، فينتقلون إلى الكرم المجاور... ومثل ذلك يحدث في الحصاد والدراسة وعصر العنب وفرط حبات الذرة، وفي معاصر الزيتون التي كانت مقامة بعيداً عن القرية... فشعر العمل انتهى على أثر التطورات الحديثة. وكل أدب مرتبط بظاهرة من الظاهرات الخاصة بهذه التشكيلة أو تلك يذهب بذهابها، ولا نعود ننظر إليه إلا نظرة حنين، نحبه ولا نستطيع إنتاجه.

ولكن رغم كل ذلك فإن من الصعب أن نجعل ثمة تشكيلات أدبية فوقية تتطابق مع التشكيلات الاقتصادية التحتية. إن هذا ممكن في البنى الفوقية الأخرى مثل السياسة والحقوق والتشريع... أما الأدب فإن له مساراً خاصاً وإن كان لا يستطيع تجاهل البنية التحتية، بل إنه مصطر للتعامل معها ولكن ضمن قانونه الخاص.

3- ومع ذلك لابد من الاعتراف بأن ثمة أدباً يسير في ركاب السلطة القديمة أو الحديثة. أي يسير مع البنية الفوقية السياسية التي أفرزتها التشكيلة الاقتصادية. في هذا الأدب نجد صورة صادقة -أو مزيفة- للمرحلة التي تم فيها إنتاج الأدب. فهو لا يعكس المعالم الكبرى للتشكيلة الاقتصادية وحسب، بل إنه يعكس أيضاً بعض السيرورة الذاتية للسلطة القائمة. ومثل هذا الأدب يصفيه الزمن، فلا يبقى منه إلا ما اتصل بعمومية التجربة الإنسانية فقط. بل نذهب أبعد من هذا ونزعم أنه حتى الشعر الذاتي يسقط إن لم يراع المشترك الإنساني.

ولكن كما نجد أدباً يرتبط بالبناء السياسي الفوقي ويغدو له بوقاً، نجد أدباً رافضاً لهذا البناء وبالتالي يعلن غضبه وقلقه من الظروف التي يجد نفسه فيها. فأي الأدبين يجب أن نعتمد، وهما أدبان يقفان على طرفي نقيض؟

هنا يأتي دور القانون الخاص بالأدب... الهدف الرئيسي الذي يجب أن يتجه إليه الأدب. فإذا اتفقنا على هذا القانون، أو الهدف الأكبر، أو المهمة الأسمى، بات من السهل معرفة الصدق في هذا الفن الذي نسميه الأدب، إذ في كل مرحلة وفي كل ظرف... باختصار في كل حين كان هناك أدب متذمر، عميق وله مأرب ينأى به عن الذاتية أو عن التبعية للسلطة السياسية. وحتى في الحكم السوفياتي نشأ أدب معارض، من تامزدات وسامزدات، بعضه نافل وبعضه يستهدف المهمة الكبرى للأدب فعلاً. ولو كان الأدب صقل عبارة وتوفير جرس وتوزيع إيقاع وغير ذلك من الطلاء الخارجي لكان هذا مثل ذاك. وعندما نمسك بالقانون الخاص بالأدب، يغدو في مقدورنا تحديد موقع كل من الأدبين: أيهما الأساسي وأيهما السطحي العابر. أيهما الذي تجاوز الزمن واخترق خصوصية التجربة وايهما الذي سار كالأعمى لا تهديه إلا عصاه. ومن دون هذا التفريق من الصعب الوصول إلى توصيف صحيح أو تشخيص دقيق للأدب. وعندما يتبين لنا هذا، يمكن أن نقرر فيما إذا كان الأدب متاثراً فقط ببعض مفرزات التشكيلة أم إنه لصيق بها تماماً كالسلطة السياسية سواء بسواء.

ويكفي أن نقدم مثالاً لإيضاح ما نعنيه، بعيداً عن السياسة وكل البناء الفوقي. هذا المثال من أبي فراس الحمداني ويشمل قصيدتين: الأولى أرجوزته في الطرد، والثانية من رومياته. قال في الأولى:



دعوت بالصقّار ذات يومِ


عند انتباهي من نومي


قلت له اختر سبعة كبارا


كل نجيب يرد الغبارا


واجعل كلاب الصيد نوبتين


ترسل فيها اثنين بعد اثنين


ولا تؤخر أكلب العراض


فهن حتف للظباء العراض
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:18 pm

أما الثانية فليخترها القاريء من رومياته. وهو لا يحتاج إلى الاختيار لأن أي قصيدة من الروميات تفي بالغرض:



أراك عصي الدمع شيمتك الصبر


أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟




فلا يعقل أن ندخل الأولى في باب الأدب ونعتمدها نموذجاً. عندئذ لا يكون للثانية أي مكانة. إن الأمور لا تستقيم إلا إذا طرحنا ذلك الركام الهائل المرهق الذي قد يعتبره بعضهم أدباً. وما لم نقم بتحديد الماهية الأدبية فإننا أعجز من أن نجري حواراً أو مساجلة أو بحثاً حول الأدب. فإذا اعتمدنا "أراك عصي الدمع" أدباً سقطت الطردية، وأمكننا القول ان علاقة الأدب بالبنية التحتية هي علاقة الكل بالجزء. الكل هو الأدب والجزء هو البنية التحتية. إن هذه البنية قد تقدم بعض أدوات التعبير ليس إلا. ومثل هذه الأدوات قد تختلف من زمن إلى زمن أما عمومية التجربة فلا علاقة لها بالبنية التحتية.

4- من باب آخر لا نستطيع أن نوفـّـق بين المذاهب الأدبية وبين البنية التحتية من تشكيلات اقتصادية متتالية تاريخياً. لقد أطلقنا على الأدب اليوناني لقب الأدب الكلاسي، وقلنا انه نتاج المجتمع العبودي... لابأس ولكن لم تقم مدرسة أدبية قبل القرن السابع عشر حيث قامت مدرسة الكلاسية الجديدة، وهي في حقيقتها عودة إلى اليونان. وبعد ذلك أيضاً لا وجود لمدرسة أدبية قبل نشوب الثورة الفرنسية. تشكيلات تاريخية تمتد مئات السنين، ومع ذلك لا وجود لأي مدرسة أدبية إلا في العصر الحديث. نحن الذين حاولنا أن نجعل الأدب اليوناني مدرسة بالإكراه، وكذلك الكلاسية الجديدة في القرن السابع عشر، لكن الحقيقة أنه لا وجود لمدارس أدبية قبل الهزّة المريعة التي أحدثتها الثورة الفرنسية، فبعدها انطلقت الرومانسية والطبيعية والواقعية والتعبيرية والانطباعية والدادائية والسيريالية والمستقبلية والرمزية... دفعة واحدة تقريباً. إنها جميعاً من إنتاج القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. إن هذا يدعو إلى التساؤل حقاً. إن كل التشكيلات التاريخية السابقة لم تنتج مدرسة متماسكة. فجأة ظهرت كل المدارس، وفجأة انتهت كل المدارس. ففي هذه الأيام لا نستطيع القول أن هناك مدرسة متميزة في الأدب، لا عندنا ولا عند غيرنا.

هل نزعم أن التجمع البشري في التشكيلات القديمة كان واهياً نظراً لضعف وسائل الإعلام، لذلك عجز عن تقديم مدرسة أو مدارس أدبية؟ ولكن من يجرؤ أن يزعم ذلك؟.. إذن يصطدم بسؤال أخطر وهو كيف نفسر أنه في عصر وسائل الإعلام الضخمة لا وجود لمدارس متميزة؟

لم يبق سوى مخرج واحد أمامنا وهو مسألة الكمية، أي يجب أن تكون وسائل الإعلام شبيهة بما كانت عليه في القرن التاسع عشر: صحيفة، مقهى كتاب منتدى صالون، معرض... فإن نقصت عن ذلك أو زادت على ذلك لم يعد من الممكن الحصول على مدرسة متميزة.

يا لها من حجة مضحكة. إذن للحصول على مدارس أدبية.،وعلى تفعيل الاقتصاد الأدبي علينا تصنيع ظروف أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد يقتضي الأمر إحداث ثورات كثورات 1848 أو إشعال حرب عالمية شبيهة بالحرب العالمية الأولى حتى نحصل على اقتصاد أدبي فعال.

بعد المدارس التي أتينا على ذكرها لم يظهر سوى مذهب واحد هو الوجودية. إنه المذهب الذي قدم إنتاجاً أدبياً متماسكاً وذا شخصية بارزة. أما المذاهب الأخرى من بنيوية ولسانية ونفسانية... فإنها مذاهب نقدية فقط. إنها مذاهب ممهورة بالنزعة التحليلية التي جاء بها القرن العشرون. همها تحليل الظاهرة والغوص حتى أدق أجزائها. أما من حيث الإنتاج الأدبي فمن المتعذر العثور على مذهب ادبي واضح.

على أن التسليم بفرضية حشر الأدب في البنية الفوقية وجعله تابعاً للبنية التحتية يجب أن يقدم دليله من الأدب الفولكلوري الحقيقي. إن أي شعر أو طقس فولكلوري لا يمكن أن نربطه بهذه التشكيلة أو تلك. إن الأشعار ذاتها تتكرر في كل التشكيلات، بل إن الدبكات والرقصات هي هي كما كانت قبل آلاف السنين. وإن كل ما فعلناه في العصر الحديث أننا "طورنا" هذا الفولكلور. وتطويرنا مقتصر على إضافة بعض الحركات الجسدية على الإيقاعات الفولكلورية فقط. بعض الرقصات التي دخلت بلاطات القرن التاسع عشر معدلة عن رقصات فولكلورية قديمة جداً. أما الأشعار الفولكلورية فظلت كما هي، سوى أننا رحنا نؤلف كلمات جديدة على الألحان القديمة، وفي كثير من الأحيان نسرق من الفولكلور من دون أن ندع أحداً يرانا.

فالأوْلى بالتشكيلة الاقتصادية أن تؤثر بالفولكلور، من أن تؤثر في الأدب الرسمي. ونحن لا نجد شيئاً من هذا التأثير إلا القليل الذي أشرنا إليه. وهو لا يكاد يذكر أمام التيار العام للأدب.

5- قلنا من قبل ان لكل تشكيلة اقتصادية قانونها الخاص ففي المشاعية كان القانون هو "الاعتماد على وفرة النتاج الذي تقدمه الطبيعة" وفي العبودية تصدرت الحرب، فكانت المصدر الأكبر للثروة. وكان غنى الأشخاص يقاس بما يملكون من عبيد. وفي الإقطاعية يبرز قانون الريع العقاري العائد لبعض الأسر. وفي الرأسمالية يبرز قانون السوق وتحقيق الربح الأكبر في الزمن الأقصر. أما الإشتراكية فقد تركنا قانونها جانباً لأن القائمين عليها هم أنفسهم القائمون على الأنظمة الحالية مما يدل أن هذا القانون لم يعرف النور، ولو... لكان الأمر مختلفاً.

ما علاقة الأدب بهذه القوانين؟ لا شيء. إن الأدب الذي قدمته المشاعية يقوم، افتراضاً، على تقديس الطبيعة... لابأس. ولكن حتى اليوم لم يغير الأدب ديدنه. فهل نقول اننا اليوم نكتب أدباً تابعاً لبناء تحتي مشاعي؟

لسنا بصدد مساجلة لإثبات استقلالية الأدب. يكفي أن نثبت أن للأدب قانوناً خاصاً حتى نبلغ مرامنا. ويمكن اختصار القانون الاقتصادي للأدب على النحو التالي: خلق التوازن لتمكين الإنسان من الاستمرارية في الكون والحياة. هذا هو القانون الذي يتحكم بالاقتصاد الأدبي. إنه قانون لا يتغير. ولذلك وفقاً لهذا القانون وقف الأدب ضد الحروب والتسلط الإقطاعي والاستغلال الرأسمالي. إن الاقتصاد الأدبي مستقل عن أي تشكيلة كل الاستقلال. إنه ليس نتاجها، بل نقيضها بحكمقانونه الذي لم يتغير. فالدعوة إلى التحرر وإطلاق الطاقات وتوفير الظروف للإبداع البشري هي الدعوة الحالية للأدب، تماماً مثلما كانت الدعوة القديمة للأدب منذ آلاف السنين.. من كلكاميش وحتى آخر قصيدة في عصر حرب النجوم. قانون واحد لم ولن يتغير. إنه القانون الأساسي للأدب. ثابت وطيد لأنه ليس ناجماً عن تشكيلة اقتصادية عابرة، مهما عمّرت. إن السكندنافي الذي يقال إنه يتمتع اليوم بالحرية أكثر من أي مخلوق بشري، ينشد الحرية بحماسة لا تقل عن حماسة سبارتاكوس عندما وقع في الأسر وهو يقاتل في تراقيا. ومن هنا شددنا ونشدد على إنسانية الأدب واستقلاليته.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:18 pm

يؤكد فرويد في كل كتبه تقريباً أن صدمة الولادة ليست الصدمة الأولى للإنسان وحسب، بل إنها الصدمة الكبرى أيضاً. إن الإنسان يحيا في الرحم حياة الحرية والطمأنينة بعيداً عن الشقاء والبؤس المنتظر خارج الرحم. فالإنسان يحمل حنيناً بيولوجياً لحياة الرحم، ويشعر بنفور شديد من الحياة خارج الرحم لا تؤثر فيه ولا تغير من موقفه المتمسك بتلك الحياة التي حرم منها. إنه لا ينسى قانونه. ولن ينساه ما لم يصبح الخارج رحماً أو شبيهاً بالرحم. عندئذ فقط ينسى الإنسان قانونه، وكذلك الأدب الذي لن يتخلى عن قانونه إلا بإقامة الحياة الرحمية. إن كل أدب هو دعوة لاستعادة هذه الحياة المفقودة، والتي يبدو أنها لن تعود... ولن يتغير قانون الأدب.

من هذه الناحية، أو من مطلب استعادة الحياة المفقودة، فإن كل إنسان شاعر وأديب بالفطرة. فمن توافرت له أدوات التعبير الأدبي تجسدت فطرته شعراً أو نثراً، لكنها من حيث المطلب واحدة. أما من جرفته السلطة،سلطة الملك أو الملكية وقف في الطرف المقابل. ولذلك نعتقد أن هذين الطرفين موجودان دائماً في الحياة البشرية سواء كانت التشكيلة عبودية أو إقطاعية أو رأسمالية أو اشتراكية. ولقد تبين في أعقاب انهيار النظام الاشتراكي أن أصغر مسؤول كان يملك أكثر مما كان يملكه آخر القياصرة بأضعاف المرات. والنظام الاشتراكي انهار ليس بمؤامرة خارجية، بل برغبة من المسؤولين أنفسهم لتوفير نظام يسمح لثرواتهم أن تتحرك وتنتج... وهذا ما يفسر لنا قيام أدب معارض منذ قيام الثورة التي وعدت بحياة رحمية فما قدمت سوى حياة رَجميّة. والناس واحد من اثنين: شاعر أو قاتل... وأقصد بالقاتل المالك. والشعر ضد الملكية، سواء كانت ملكية عبودية أو إقطاعية أو رأسمالية أو اشتراكية. إنه يريد حياة رحمية ليس فيها دولة ولا فيها ملكية. إنه يكره حرفة القتل.

هذا القانون المستقل استقلالاً حقيقياً لا يعني أن الأدب لا يتفاعل ولا يتعامل مع الواقع، أي مع التشكيلة الاقتصادية التاريخية. بل بالعكس من هذا الزعم، فهو مضطر اضطراراً أن يتعامل مع هذا الواقع. لكن هذا التعامل لا يعني أبداً التبعية بقدر ما يعني المساجلة. لا يعني الموافقة بقدر ما يعني الرفض. إن هذا القانون الذي يسير عليه الأدب هو قانون ثابت. ولكن بما أنه قانون فلا بد من تطبيقه. وتطبيقه يعني التفاعل مع التشكيلة الاقتصادية التاريخية القائمة ليس هذا وحسب، بل أيضاً يتفاعل مع البناء الفوقي من سياسة وأخلاق وقوانين وتشريعات وغير ذلك.

إن الأدب يتعامل ويتفاعل مع الواقع التحتي والفوقي. هذا التعامل وذاك التفاعل ليسا عشوائيين بل يسيران وفق القانون الخاص بالأدب، وهو قانون: خلق التوازن لتمكين الإنسان من استمرارية الحياة بالشكل الممكن والأفضل. إنه قانون تحصين النفس من أجل خلق ظروف رحمية أفضل، خلق ظروف الفردوس الأرضي.

مثل هذا القانون ينظر في التشكيلة الاقتصادية التاريخية ببنائها التحتي وبنائها الفوقي فيوافق على ما ينسجم معه ويرفض ما لا ينسجم معه.. أي يقبل ما يتقدم بالبشرية نحو الفردوس الأرضي أو الرحم المتخيل، ويرفض ما يحول بينها وبين هذا الفردوس أو هذا الرحم، من غير أن تكون ثمة محاباة أو مراعاة لهذه التشكيلة أو تلك، أو هذه النظرية أو تلك، أو هذا الدين أو ذاك. إن الأدب يوافق على كل ما يناسبه، ويرفض كل ما لا يناسبه. إنه مستقل عن التشكيلات والنظريات والأديان والفرق والمذاهب والنحل ... ولكنه تعامل معها كلها، كما تتعامل النحلة مع الأزهار التي لا حصر لها. أما الأدب الذي ينحاز لهذه التشكيلة أو النظرية أو الدين أو الفرقة أو المذهب أو النحلة... فإنه يسقط من دون شك. وأنا أقصد الأدب وليس الأديب. فبلزاك كاثوليكي متعصب ولكن أدبه لا علاقة له بتعصبه. وغراهام غرين اعتنق الكاثوليكية عن وعي وتصميم، ولكن اقرأ رواياته الدينية تجد أنه يدفع الكاثوليكية في معمعان الحياة ليختبرها لا ليمجدها، وليجعلها تجابه أموراً أعجز من أن تحل. والأرثوذكسية التي نادى بها دستويفسكي تعني تماماً: تجاوز السيئات عن طريق التسامح وليس العقاب... بذلك يكون قد قدم نظرية للخلاص.

وتفيدنا في هذا المجال شخصية "ليليث" التي كتبنا عنها بحثاً ضافياً بينا فيه التحولات التي خضعت لها في الأدب والفن، كدليل على تفاعل الأدب مع الواقع الحي، نلخصه بإيجاز شديد كمايلي:

آ- قدم الأدب الأكادي ليليث كربّة المهد وحاضنة الأطفال ليلاً. مهمتها الهدهدة للطفل في الليل حتى ينام نوماً هادئاً. تمتاز بشعرها الطويل الذي يمسك به الطفل وهو يصغي لأغنية المهد تشدو بها ليليث. ومنها سمى العرب ليلى وسمت الشعوب المحيطة بهذه المنطقة الليل ليلاً باسمها. وكانت مثالاً للوداعة والسلم والطمأنينة، ولذلك اختارها الأدب اليهودي لتكون زوجة آدم الأولى، فهي أفضل أنثى تستحق أن تكون أماً للبشرية.

ب- عندما تحول المجتمع إلى مجتمع مقاتل للوقوف في وجه غارات القبائل الشمالية الزاحفة حَوَّل الأدب ليليث إلى شيطانة ليلية تخنق الأطفال، بمعنى أن تربيتها السلمية لم تعد تتفق والمجتمع الباحث عن مقاتلين حرصاً على وجوده. وعندما سمع اليهود بما آلت إليه ليليث، أسرعوا وطلّقوها من آدم ثم زوّجوه من حواء حرصاً على النسل البشري. وقد اختفت ليليث بعد ذلك من الأدب العبري.

جـ- قدم أدب العصور الوسطى ليليث باعتبارها شيطانة ليلية ولكنها لم تعد تقتل الأطفال وحدهم بل غدت قاتلة للرجال أيضاً كما يشير غوته في مسرحيته فاوست.

د- احتفظ أدب شمال أوروبا لليليث بوظيفتها السلمية القديمة ولذلك ألفت المقطوعات الشعرية والموسيقية المسماة ليليباي "Lulaby" أي ترنيمة المهد. وحتى اليوم تقوم الأم التي تدلل ابنها بما كانت تقوم به ليليث قديماً، فتقتله بحبها وتخنثه بحنانها، فتجرم من حيث تريد أن تحسن. إن حياة ليليث أشبه بانتقال من داخل الرحم، الهدوء، إلى الخارج، الصخب والعنف.

هذه السيرورة التي شوهها الإيجاز تذكرنا، على إيجازها، برأي فرويد في أن الوليد عندما يطل على هذه الدنيا يظل متذكراً حياة الجنة التي كان فيها، حياة الرحم الآمنة. ولكنه على الرغم منه يرد باستجابات مختلفة على الظروف المختلفة لا يهديه إلا هاد واحد هو استعادة الرحم الذي جاء منه أو الفردوس الأرضي...

... وكذلك الأدب، وهذا هو القانون الأدبي الوحيد الذي لا يمكن أن يتغير مهما تغيرت الأبنية التحتية أو الفوقية، ومهما أوغل في التعامل معها. والحقيقة أنه لا يتعامل معها بقدر ما يستخدمها لـ"العودة إلى الرحم"، أو لتأمين الفردوس الأرضي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:19 pm

الفصل السابع : أبرز معالم قانون الاقتصاد الأدبي

القانون الأدبي هو باختصار قانون العودة إلى الحياة الرحمية، الحياة قبل الخروج إلى هذا العالم الذي لم يغادره أحد قبل أن يذمه. فما عليك إلا أن تتصور الحياة في الرحم وكيف تخلو من الحقد والضغينة والصراع والقتال والحسد والكبرياء... وغير ذلك من المثالب التي يجدها المرء أينما وجّه طرفه في هذا العالم الخارجي. فما عليك إلا أن تتخيل حياة إنسانية متوازنة تتكيف مع البيئة وتنزع إلى مزيد من الحرية والتسامي، حتى تستطيع أن تتلمس كل مواد القانون الأساسي للانتاج الأدبي.مع ذلك نود أن نتريث قليلاً عند أهم معالم هذا القانون، وهي:

1- شريعة بلا مشرع.

2- بنية تحتية.

3- مؤسسة واحدة ولغة واحدة.

4- تعديل لا تبديل.

1- شريعة بلا مشرع:

قد نظن أن النقاد هم الذين وضعوا القانون الاقتصادي للإنتاج الأدبي. ولو قلنا انهم شراح القانون لكان أفضل، لأن هذا القانون لم يضعه أحد. وقد توهم كثير من الباحثين أن أرسطو هو أول من وضع للأدب قانونه في كتابه الذي اشتهر باسم "الشعر" مع أنه "كيف يُصنع الشعر" إذا عدنا إلى اشتقاق كلمة البوطيقا. ومن القوانين التي ارتبطت باسم ارسطو قانون التراجيديا" إثارة الخوف والشفقة". وقد أدى هذا إلى اتهام النقاد التالين لأرسطو بالعقم لأنهم لم يستطيعوا أن يغيروا هذا القانون، بل أنهم لم يتمكنوا من تعديل هذا القانون.

وفي رأينا أن هناك مغالطة كبيرة كامنة في قلب هذا الطرح. فأرسطو لم يضع أي قانون، وإنما رصد قانوناً كان الأدباء يمارسونه من دون صياغة نظرية. إن النصوص التي اعتمد عليها أرسطو في صياغته لهذا القانون تعود إلى هوميروس واسخيلوس وسفوكليس ويوربيدس في التراجيديا، وأرسطو فان في الكوميديا. هؤلاء الكتاب كانوا يمارسون القانون بعفوية ومن دون شروح أو تنظير. ولا نشكك في أن كل نص يختلف عن الآخر. ولكنه اختلاف في الشكل وطرائق الأداء والنظرة إلاّ أنّ النتيجة واحدة لا تكاد تنزاح عن القانون الأساسي شعرة واحدة. وهؤلاء الكتاب لم يعقدوا "مؤتمراً" كما نفعل اليوم لاتخاذ القرارات الناظمة للإنتاج الأدبي. بل إن هؤلاء الكتاب لم يلتقوا لا في مأدبة ولا في أكاديمية ولا في منتدى... كيف يكون ذلك وهم من الأوائل الذين انتجوا الأدب من دون أن يكون هناك آباء لهم. من علم أسخيلوس؟ من درب سوفوكليس؟ على يد من رُبّي يوربيدس؟

إن كل ما فعله أرسطو هو أنه تحدث عما يجري. وبسبب نزعته الفلسفية، فقد أتقن صياغة ذلك, فكل فيلسوف يحاول أن تكون صياغته من العمومية بحيث تغدو قانوناً معتمداً. إن الفيلسوف، كما هو معروف، يتحدث دائماً بالعموميات. ولكن هذا التعميم لا يكون إلا بعد استقراء الإنتاج الأدبي بكل جزئياته. ولو لم يكن أرسطو فيلسوفاً لما جاءت صياغته بهذه الدقة وهذا الشمول.

لو كان أرسطو سابقاً على عصر هؤلاء الكتاب، لصعب علينا إقناع القاريء أن قانون الإنتاج الأدبي ليس من ابتكار أرسطو. إلا أن تأخر أرسطو في الزمن يعتبر حجة بين أيدينا لنؤكد أن جميع الذين كتبوا قبل أرسطو إنما كانوا يمارسون هذا القانون من دون حاجة إلى أي توجيه.

نحن الآن نتحدث من قلب الأدب الإغريقي، باعتباره الأبرز والأكمل بين الآداب القديمة. ولكن لنعد خلفاً في الزمن إلى الأدب المصري أو إلى الأدب الفراتي أو إلى الأدب الهندي، لنرى أن هذه الآداب تختلف من وجوه كثيرة عن الأدب الإغريقي. فهم، على سبيل المثال، لم يقدموا الشكل المسرحي الناضج وإن كانت المواكب الدينية تشبه مواكب اليونان. إن المسرح لم ينضج إلا في اليونان. ولكن لو نحينا هذه الاختلافات أو الفروق جانباً، لوجدنا أن هذه الآداب لا تختلف عن الأدب اليوناني من حيث قانون الإقتصاد الأدبي. فكل نص من نصوص الأدب المصري (أو غيره) ينتهي إلى ما انتهى إليه نص يوناني مماثل. وإذا كان النص تراجيديا انتهى إلى ما انتهى إليه النص اليوناني المماثل.

لم يتح لهذه الآداب أرسطو. ومع ذلك سارت على القانون ذاته الذي سار عليه الإغريق والذي صاغه أرسطو خير صياغة. لننظر إلى أي أدب آخر في أي بقعة في العالم. لننظر في ملاحم المكسيك أو الأرمن أو الشركس وآدابهم نجد أن القانون واحد في هذه الآداب على الرغم من عدم وجود أرسطو عندهم. كنا نظن أن الأدب القديم مقتصر على آداب مصر والفرات والإغريق. ولكن بعد الأبحاث الانتروبولوجية الحديثة تبين أنه لا يمكن تصور شعب بلا أدب. وكنا نظن أن أدب مصر والفرات والإغريق يتشابه لأنه يقع في دائرة ثقافية واحدة هي دائرة البحر الأبيض المتوسط، ولكن الدراسات الحديثة للانتروبولوجيا قد بينت على نحو عجيب مدى تقارب هذه الآداب مع بعضها على الرغم من تباعد القارات التي تفصلها مساحات شاسعة من البر أو البحر.

لنقترب أكثر من العلاقة بين الشريعة والمشرع. لقد ذهب أرسطو إلى أن أي تراجيديا لابد أن تنبع من "هامارتيا" أي من خلل أو نقص أو نقطة ضعف، من كعب آخيل. واعتقدنا أنه بذلك يضع قانوناً مع أنه وصف وصفاً ولم يشرع تشريعاً، إذ أن من المستحيل تصور تراجيديا من دون هامارتيا، حتى لو كانت هذه التراجيديا في مقطوعة شعرية لا تتعدى خمسة أبيات. وإذا قلنا ان الأغريق وعوا هذه الهامارتيا، فماذا نقول في الهامارتيات الأخرى في كل آداب العالم من دون أي استثناء؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:19 pm

لا شك أن الكتاب يختلفون جداً في استيلاد هذه الهامارتيا، سواء كانوا يونانيين أو مصريين أو جبليين أو ساحليين أو في المكسيك أو في مجاهل إفريقيا أو في قلب صقيع الأسكيمو... سواء كانوا يقطنون قرب الأنهار أو بين الرمال... فهذا يجعل الهامارتيا في الإنفعال المندفع، في الرعونة وذاك يجعل الهامارتيا في الشغف الجنسي, وآخر يجعلها في العلاقات الاجتماعية، وغيره يجعل الهامارتيا في الأذى الموجه ضد الذات أو ضد الآخرين... باختصار أن كل بطل تراجيدي لابد أن يكون له كعب آخيل. ومن الهامارتيا تنبع المأساة وتتم الكارثة. وجميع الكتاب في العالم ملتزمون بربط التراجيديا بالهامارتيا، من غير أن يكون لهم معلم أو منظر أو مشرع.

إن القانون الأدبي هو تقليد يعرفه الأديب بالتدريب لا بالتعلم لأنه شريعة بلا مشرع. وعدم وجود مشرع يدل أن هذه الشريعة هي طبيعية، أي نابعة من طبيعة الإنسان الأدبية، وإن شئت فقل أن هذا القانون يمثل شريعة الفطرة الحقيقية.

2- بنية تحتية:

المعروف أن البنية التحتية وطيدة وهي طويلة العمر تمتد أحقاباً وأحقاباً. فأحياناً تظل أداة من أدوات الإنتاج، وهي من جملة تركيبة البنية التحتية، عشرات القرون بل مئات القرون، كالمحراث الزراعي الذي يرجع تاريخه إلى آلاف السنين. وعندما تتلاشى البنية التحتية فإنها تحدث هزة في البنية الفوقية، تماماً كما يحدث البركان تغييراً في الجو عندما يثور.

وأنا أرى أن الأصح أن نقول عن الإنتاج الأدبي بأنه بنية تحتية خاصة قائمة بذاتها، من أن نقول إنه بنية فوقية. وما يجعل بعضهم يستكبر هذا القول هو أن الانتاج الأدبي لا يملك تأثيراً مباشراً. إنه شتلة زيتون عليك أن تنتظر عشر سنوات وليس حبة حنطة تزرعها في الخريف وتحصدها في أوائل الصيف. إنه "القانون الصامت" إن صح التعبير.

إن أي أداة إنتاج تعطي مردودها فوراً أو بعد مدة قصيرة إلا الأدب. إنه يحتاج إلى مدة طويلة جداً. هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإنه يخضع للقمع في كثير من الأحيان، فيُعطَّل العمل بالقانون الأدبي وتُفرض قوانين أخرى. ولو لم يكن الأدب بنية تحتية لما عاد إلى سيرورته كما كان تماماً.

لا شك أن أعظم أدب توهج في مرحلة ما قبل الميلاد هو الأدب اليوناني الذي يتراءى لبعضهم أن كل قوانين الأدب مستنتجة منه باعتباره المجسّد الأكمل للأشكال الأدبية. ولكنه لم يكن أبداً نهاية لأدب سابق ولا بداية لأدب لاحق. إنه حلقة ذهبية في تاريخ الأدب، وكما سعى الأدب اليوناني إلى الشكل الأكمل يسعى كل أدب في هذه الأيام إلى الشكل الأكمل. لقد سعت الكنيسة في الغرب إلى وقف مسيرة الأدب منذ القرن الخامس. وفي القرن السادس تراءى لنا أن الأدب بمفهومه القديم انتهى إلى الأبد وان الآداب المسيحية المقتصرة على التسابيح الربانية ومدائح رؤساء الدين هي التي تسود أو سوف تسود. وبالفعل فقد توقف النشاط المسرحي توقفاً كاملاً ثم استؤنف بمسرحيات "حياة المسيح وآلامه" ولم نعد نسمع قصائد الغزل والحب، ولا الأدب المعبر عن نزوع الفرد والبشر إلى عالم أفضل.. العالم الأفضل موجود ومؤكد، وهو الجنة بعد أن يقرع ناقوس يوم القيامة، والطريق إليه معروف... الصلاة والصوم... إلخ. ولكن منذ القرن الثالث عشر، ازدهرت قصائد الحب والغزل وأبدى الشعراء موقفهم الصريح الواضح، فكانوا أول نواة ثورية دكت مؤسسات العصر الوسيط وفجرتها تفجيراً. أنا لا أشك أن الكوميديا الإلهية لدانتي في القرن الرابع عشر كانت أعظم وأقوى وأشد وأعنف قنبلة ضد العصور الوسطى، لكن شعراء الحب قبله، وعلى الأخص في ألمانيا وفرانسا، اسهموا إسهاماً كبيراً في تفعيل القانون الأدبي. ففي النصف الأول من القرن الثالث عشر ظهر لمؤلف مجهول في فرانسا رواية غرامية امتزج فيها الشعر بالنثر أحدثت ضجة عظيمة وشهرة كبيرة في وقتها، فكان حتى الغلمان يناضلون نضالاً حقيقياً للوصول إليها أو الحصول إليها تهريباً، لخوفهم من آبائهم "المؤمنين". لقد كانت هذه الرواية، وهي بعنوان "أوكسان ونيكوليت" عودة إلى قانون الأدب وإعادة له. إنها تذكرنا بأناشيد الحب والزواج التي نظمتها الشاعرة اليونانية القديمة سافو.

أوكسان في الرواية هو ابن الكونت أما نيكوليت فهي لقيطة يتبناها الفيكونت. ويطير صواب الكونت: كيف يحب ابنه مثل هذه الفتاة ويدع باحتقار الفتاة التي يرغب أبوه في خطبتها له. إنها سليلة أسرة إقطاعية كبيرة ودوطتها وحدها تبلغ رقماً لا يحلم به خاطب. ويذهب الكونت إلى الفيكونت ويطلب منه أن ينصح له ابنه ليبعده عن الفتاة المبّناة، حفاظاً على الصداقة بينهما. وكان الفيكونت اصلاً لا يريد مثل هذه الزيجة. وبالفعل ينصحه الفيكونت. لكنه أثناء حديثه يلاحظ ابتسامة خفيفة على شفتيه، فيختم حديثه بقوله إن أصر أوكسان على موقفه فلن يدخل الجنة. وهنا انفجر أوكسان وقال: مالي وللجنة التي لا يدخلها إلا القساوسة الدجالون والشيوخ المقعدون والمرضى الذين يسعلون ليلاً نهاراً وهم يصلون أمام المذبح، وأنا أريد الجحيم حيث العلماء والظرفاء والفرسان الأوفياء والنساء الجميلات اللواتي لكل واحدة منهن عشيقان أو ثلاثة إلى جانب زوجها.

وتكون النتيجة أن يحبس الفيكونت ابنته في العليّة ويحبس الكونت ابنه في القبو. ويتغنى العاشق بشعر ينظمه في نيكوليت وينشده بصوت عال، فيعزو لها من العجائبية ما لا يستطيعه إلا المسيح نفسه:

يا نيكوليت، يا زهرة الزنبق البيضاء

يا أحلى من الكرمة في الكأس

حدث لك يوماً ما ان جاء

من ليموزين حاج متعب خائف

مكتئب يتقلب على فراشه وهو

قاب قوسين أو أدنى من الموت

فدخلت يا ذات الطهر والنقاء

ومشيت بخفة حتى أبصرك العليل

ثم رفعت ذيل ثوبك والجلباب الموشي بالفراء

ورفعت الشعار وكشفت له بخفة

عن أجمل عضو فيك

فحدثت الأعجوبة إذ ذهب سليماً معافى

وأمسك صليبه وغادر فراشه

واتجه مرة أخرى إلى بلاده العزيزة

يا زهرة الزنبق

إن كل الناس مولعون بك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:20 pm

وتسمع نيكوليت فتصنع حبلاً من أغطية فراشها تهبط عليه وتصل أمام القبو فترفع ثوبها بكلتا يديها، ثم تهرب خوفاً إلى الغابة. ويظن الكونت أن الأمور استتبت فيطلق سراح ابنه فيهرب هو الآخر إلى الغابة حيث نيكوليت التي ترفع ثوبها فتصنع العجائب...

إن الأدب هو الذي أنقذ البشرية من غياهب العصور الوسطى وهو الذي دك البنية التحتية (الإقطاعية) والبنية الفوقية (المسيحية الغربية) فعاد إلى القانون الأدبي وأعاده إلى العمل والإنتاج بعد كل هذه الحقبة من الأحكام العرفية التي عطلت القانون. وبعمل القانون وبالانتاج الأدبي انهارت أطول بنية تحتية (الإقطاعية) وأقوى بنية فوقية (المسيحية) فالأدب أعظم من أن يدرج في بنية تحتية أو بنية فوقية. إنه بنية تحتية قائمة بذاتها.، لا يمكن القضاء عليها. يمكن تعطيلها ولكن لا يمكن التخلص منها. في العصور الوسطى عطل قانون الأدب طيلة عشرة قرون. ولكن النصر في النهاية كان لهذا الأدب الذي أسقط المؤسسات الإقطاعية والمؤسسات الأحادية المسيحية، لأنه ضد كل خضوع وضد كل أحادية مسيحية كانت أو غير مسيحية. إن الأدب هو منقذ البشرية الوحيد. إنه نيكوليت التي تكشف عن أجمل أعضائها فتشفي البرص والمجدورين والمقعدين والمشلولين... بل تحيي العظام وهي رميم.

ونقول انه بنية تحتية قائمة بذاتها لنجعله مستقلاً عن أي بنية أخرى تحتية كانت أو فوقية. إن كل بنية أخرى يمكن تفجيرها. إنها سوف تضعف وتزول وتتلاشى وهذا ما لا يحدث مع الأدب. إنه بنية تحتية أقوى من الزمن، بل إنه على الضدّ من ذلك يتقوى كلما مرت الأزمان، وهو البنية الوحيدة من بين كل البنى الفوقية والتحتية معاً، التي لا يمكن القضاء عليها.

والأدب، مثل نيكوليت، ما إن يكشف عن جماله حتى يدك أعتى الحصون. إن كل مؤسسات العصور الوسطى، الاقتصادية والدينية بدأت تنهار لدى ظهور الشعراء الفرسان والشعراء العشاق، والعشاق الجوالين... إن قليلاً من العشق الشاعري دك حصون العصور الوسطى. إن الأدب ساحر، ولكنه ساحر حقيقي وليس مشعوذاً. والمعجزات التي يقوم بها هي معجزات حقيقية. إنه المنقذ الوحيد لبني البشر في أيام محنتهم.



3- مؤسسة واحدة ولغة واحدة:

في هذه الأيام يكثر الحديث عن العالمية. فالمواصلات باتت عالمية والإتصالات صارت كونية ومخاطبة النجوم القريبة أو البعيدة صارت ممكنة، والسياسة صارت عالمية وكذلك الاقتصاد والثقافة... وكل شيء حتى الأمم المتحدة -تصوروا- منظمة عالمية... وهكذا. لكن العالمية الحقيقية قائمة في الأدب قبل غيره وبأجلى مظاهرها. والسبب في ذلك بسيط جداً وهو أن الأدب فطرة ليس فيه أي شيء مصنّع، فهو لا يتكون عن طريق العلم والدراسة. فالشعراء من خارج الجامعة أكثر بكثير من الشعراء الذين ظهروا من الجامعات. والأدب هو الوحيد الذي كان قبل التعليم والذي استمر بعده، وهو الوحيد الذي لم يؤثر فيه التعليم. ففي المدرسة يمكن أن تعلم الطالب افضل الأساليب لكتابة الرواية، لكنك في النتيجة لن تحصل على عدد من الروائيين أكثر من عددهم أنفسهم لو كانوا خارج الدراسة. لكن ذلك لا يعني أن يكونوا أميين كأدباء العصور القديمة، فنحن اليوم نعيش في العصر الذي يقوم فيه الأدب على الكتابة، بعد أن تفكّكّت الروابط الاجتماعية، ولم يعد للناس مناسبات احتفالية أدبية تجمعهم كما كان في الأيام الخوالي.

قد تتمكن من تصنيع عالم أو حرفي نجار أو حداد أو نقاش... ولكن لا تستطيع تصنيع أديب. والأدباء المصنعون، على مدارتاريخ البشرية، هم أولئك الذين لا إسم لهم في سجل الأدب. قد يسجلهم التاريخ لأنه يتحدث عن أسيادهم الذين صنعوهم. ولكن لا أكثر من ذلك أبداً. والأدباء الذين من هذا النوع هم ملحقون إلحاقاً بالنظام السياسي، يصعدون بصعوده وينهارون بانهياره. أما في سجل الأدب الحقيقي فلن يكون لهم مكان.

لننتقل الآن إلى ما نقصده بالمؤسسة العالمية الحقيقية. إن الأدب قبل ثورة المواصلات والاتصالات يشكل مؤسسة عالمية واحدة. والدليل على ذلك أن أي شاعر في أقصى آسيا ينظم قصيدة غزل لا تختلف عن قصيدة حب ينظمها شاعر في قلب القارة الإفريقية. وأقدم شاعر في أرمينيا التي يقال أن شعلة الحضارة في العالم القديم انطلقت منها، لن يختلف عن أحدث شاعر انتجته أحدث قارة في العالم وهي أوقيانوسيا. إنها مؤسسة عفوية ووحدة بلا تصنيع.

وبمناسبة ذكر القارة الجديدة لابد أن نشير إلى مدى عمق القانون الأساسي للاقتصاد الأدبي. ان استراليا هي أحدث دولة، أو قل أحدث أمة في التاريخ. دخل الإنكليز باديء ذي بدء في أواخر القرن الثامن عشر: وفي القرن التاسع عشر وفد إليها الكثير والكثير جداً ولكنهم كلهم من المحكومين الخطرين أو من المغامرين أو من البحارة الذين يريدون الاستقرار والتملك. بعض المغامرين من الجغرافيين وعلماء الحشرات أو علماء الحيوان والنبات سمعوا بهذا العالم الجديد فذهبوا مستكشفين فقط، ثم استقروا.هؤلاء هم سكان استراليا بالاضافة إلى مجموعات من العسكر المغضوب عليهم ومن المغامرين الآخرين من الأقطار الأخرى. لم يهاجر أديب واحد إلى هذه البلاد الجديدة. إذن من المتوقع أن يظهر أمامنا أدب جديد، بقانون جديد يختلف كل الاختلاف عما هو في انكلترا (أو في أي بلد فالأمر سيان) إن الأدب الإسترالي الجديد جداً والحديث جداً سار على القانون الأساسي للإنتاج الأدبي. إن ما كتب من روايات "البحث عن الذهب" إنما يسير وفق القانون الأساسي للإنتاج الأدبي. هذا القانون موجود منذ القديم وليس مرتبطاً بظهور الذهب أو اكتشاف استراليا. إن بعضهم يظن أن روايات البحث عن الذهب الأميركية كانت فتحاً جديداً. إن هذا النمط من روايات المغامرة يرجع إلى أقدم العصور، إلى رواية البحث عن الجزة الذهبية، تلك المغامرة الأسطورية التي قام بها بحارة الأرغو، بقيادة أكبر مغامر في التاريخ جاسون العظيم الذي اعتمد على ميديا للوصول إلى هدفه.

إن الأدب الاسترالي لم يخرج عن قانون الأدب الإنكليزي ولا عن قانون أي أدب عالمي، فالقانون واحد وقد نشأ منصاعاً لهذا القانون. إن قصائد أشهر شاعر في القرن التاسع عشر "آدم لنفسي غوردون" لم تخرج عن التقليد الأدبي العالمي، ولم تخرق أي ناحية من هذا التقليد.

طبعاً لا نقصد أن البيئة الجديدة لم تؤثر في الأدب. ولكن هذا التأثير هو ضمن مجرى القانون الأساسي العام، فلو نظرنا في أعماق مجرى الأدب متجاوزين السطوح الصاخبة المتغيرة لوقفنا على لغة واحدة ثابتة في كل أصقاع المعمورة. فالعشيقة لابد أن تكون جميلة بهية رائعة خفيفة الدم ذات سحر عجائبي، مثل نيكوليت تماماً. إنها لغة واحدة، فإينما نقبت في أي أدب من آداب العالم وقفت على هذه اللغة الواحدة. إن أوكسان يتبع القانون العام للأدب. إنه يرى في نيكوليت العشيقة الفائقة البركات التي يكفي أن ترفع ثوبها عن أجمل أعضائها حتى تشفي المرضى وتفسد رحلة الحجيج فتعيد إليهم الوعي الحقيقي ، ولا ينقصها إلا أن ترفع ثوبها في المقابر حتى ينهض الموتى ويبعثون من جديد.

من رأى نيكوليت؟ لا أحد. من يضمن أنها ليست أقبح من ضبع تأبط شراً؟ لا أحد. لكن التقليد الأدبي يضعنا في موقف حبي فلا يستطيع الأديب أن يصورها إلا كما يقتضي هذا التقليد وليس كما هي حقيقة هذه المخلوقة، والعكس صحيح، إذ عندما يضطر الكاتب أن يواجه شخصية آثمة مكروهة فإنه يقدمها في منتهى القباحة المادية والمعنوية، وما أكثر هذه الشخصيات في الأدب. ولو طفنا في كل آداب العالم لوجدنا أنها تسير وفق لغة واحدة ولو زادت ألسنة الكتاب على عدد ألسنة بابل.

هذا فيما يتعلق بقصيدة حب، ولكن خذ المغامرات أو البحث عن المجهول أو صورة الأم بوجهيها، أو الأب بأوجهه المتعددة، أو انظر إلى الزوجة التي كانت في يوم من الأيام معشوقة تدور حولها قصائد عاشقها الشاعر، ثم غدت مثل صخرة على صدر زوجها الذي يبحث عن عشيقة، ولم يعد ينظم فيها شعراً، منتظراً وفاتها حتى يؤبنها كما تقتضي الأصول... تجد أن هذه اللغة واحدة في كل آداب العالم، من أقدم العصور حتى أحدثها، ومن بدائيي استراليا حتى أصحاب ناطحات السحاب (إن صادف وظهر فيهم أثر من آثار الأدب، فهذه معجزة أصعب بكثير من معجزات نيكوليت).

ليس هذا مستغرباً أبداً. إن المؤسسة العالمية الواحدة تستلزم لغة واحدة. لا يمكن أن تكون في المؤسسة الواحدة لغات مختلفة ولهذا فإن قيام مؤسسة أدبية عالمية منذ ظهور الأدب وليس منذ ظهور الذهب واكتشاف أميركا، إنما حصل بسبب أن الأدب يملك لغة واحدة لا يغيرها ولايمكن أن يغيرها أي تأثير خارجي عليه: الشمس والقمر والشجر والغابة والبحر والمحيط والليل والنهار والجحيم والسماء والهواء والنار والنور والنجوم، الأم، الأب، الأخ،... كلها لغة واحدة لاتتغير من أدب إلى أدب. وكما تجد للكلمة الواحدة في المعجم الواحد عدة معان، كذلك تجد لكل كلمة في الأدب عدة معان، فهناك الأم الكبرى وهناك الأم المتوحشة، وهناك الأب البطل والأب السكير والأب الملتهم لابنائه... إنها لغة حقيقية، معجمها يغتني باستمرار ولكنه لا يتغير ولا يتبدل. وهي لغة معروفة جداً ولا حاجة بنا إلى عرض مفرداتهذا المعجم الضخم، ولا إلى دراسته.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:20 pm

4- تعديل لا تبديل:

كل المخلوقات تولد صغيرة ثم تنمو وتكبر إلى أن تصل مرحلة النضج إلا عفريت ألف ليلة وليلة. إنه مخلوق عجيب، إذ يولد كاملاً. فأنت لن تعثر على عفريت يحبو أو يرضع أو يرعى الماعز وهو صغير السن العفريت كامل دائماً. قد يصبح صغيراً ويدخل القمقم، لكنه كامل على صغره.

والأدب هو العفريت الذي خلق كاملاً. قد يدخل في قمقم كما في العصور الوسطى، إلا أنه يظل كاملاً مكتملاً، ما إن يخرج منه حتى يتابع مسيرته سليماً معافى. لكن هذا العفريت ليس مقدوداً من حجر فهو يتأثر بالحر والقر والغيم والمطر والشجر وإذا اصطدم رأسه بصخرة تضجر وتأفف... إن الأدب يخضع في مسيرته لكثير من التطورات والتعديلات، لكنها لا تؤثر في شخصية نيكوليت... ستظل الحبيبة العجائبية حتى بعد ستماية ألف سنة وأكثر.

ولكن لو أخذنا نصاً من العصور الوسطى لعرفنا على الفور، ومن النص ذاته، أنه من نتاج الأدب في العصور الوسطى. نستدل على ذلك من اللباس والمأكل والمشرب ووسائل المواصلات والعلاقات الاجتماعية ومن الإتيكيت الذي كان سائداً في تلك الأيام، من السيوف والرماح والفروسية والأدوات المستخدمة... من الغسيل على ضفاف الأنهار، ومن البوق الذي يعطي الإشارة، والبرج الذي يلوح بفانوسه ليوجه فرسانه... من الحلاق الذي ينتقل من قرية إلى قرية... من التجمعات والكرنفالات... ومن كرسي الاعتراف ومحاكم التفتيش والحروب الصليبية وفتح أميركا أيضاً. إن من المستحيل أن تكون نيكوليت بنت هذا العصر. يكفي أن نقرأ في رواية الكاتب المجهول ان هذه الفتاة كانت بيديها ترفع ثوبها لتحدث المعجزات، حتى نعرف أنها ليست من عصرنا. بنت العصر لا ترفع ثوبها. فإن كانت معشوقة مثل نيكوليت فإنها تفعل المعجزات مثلها ولكن من دون أن ترفع فستانها، إذ لا تستطيع أن ترفعه أكثر مما هو مرفوع. إلا أن كل هذه التعديلات والتطورات تظل هامشية لأنها لا تبدل من جوهر القانون الأدبي. فنيكوليت تظل نيكوليت مهما تطور لباسها أو مأكلها ومشربها وعليّتها...

جاء في تاريخ الأسرة المقدسة أن كرونوس راح يلتهم ابناءه حتى لا ينافسوه على العرش والصولجان واليوم حدثت تطورات كثيرة. لا يمكن أن نتحدث عن كرونوس ولا عن ابنه زيوس الذي خلعه. إننا نتحدث اليوم - كما فعل فرانز كافكا- عن المؤسسة الضخمة الاحتكارية التي تشبه الأخطبوط، في التهامها للمؤسسات الصغيرة، وعن المؤسسة الصغيرة التي تختبيء من وجه المؤسسة الضخمة المريعة وتستغل نقطة ضعفها فتقضي عليها كما قضى زيوس على أبيه بقطع خصيتيه وجعله عقيماً لا ينتج.

ومن هنا لنا الحق في القول إن هذا الأدب حديث وإن ذاك الأدب قديم وقديم جداً ولكن لا يحق لنا ابداً أن نقول أن هذا الأدب استن سنة جديدة أو خرج عن القانون الأساسي للإنتاج الأدبي. وعندما نقول ذلك فإننا نضع في أذهاننا ما اتفقنا عليه في بحث سابق وهو أن الأدب مخلوق جميل ليس منه تلك المخلوقات الشائهة من روايات وملاحم وقصائد ومسرحيات خارجة عن قانونه الأساسي. إن الشاعر الذي يستسلم لنزوات فكره أجدر بنا أن نسميه "الخاطر" لا الشاعر، إن الشاعر الحقيقي هو ذاك الذي يحترم التقليد الأدبي بقانونه الذي يحرك بتياره العميق جداً كل المياه العميقة، في حين لا ترى اعينننا سوى تلك الأمواج الصاخبة التي تظهر سريعاً وتتكسر سريعاً. إننا بحاجة إلى عيون ليزرية حتى نكتشف حقيقة الأدب فلا ننخدع بتلك الآداب المَوْجيّة السخيفة أو الآداب السياسية السطحية.

ولكن على الرغم من كل التجديدات والتطورات يظل القانون الأدبي يعمل في العمق. نحن اليوم نسمع مطربينا يصدحون بقصيدة مشهورة جداً قلما مر يوم لم يسمعنا إياها مطرب منهم:



قل للملحية بالخمار الأسود


ماذا فعلت بناسك متعبد


قد كان شمر للصلاة ثيابه


حتى وقفت له بباب المسجد


فسلبت منه دينه ويقينه


وتركته في حيرة لا يهتدي




هل كانت هذه الفتاة جميلة إلى هذا الحد الذي سلب من الرجل دينه ويقينه؟ لا أبداً فقد تكون أقبح من ميدوزا وأخواتها ولكنه الأدب بقانونه الصارم.

قارن الآن هذه الفتاة بنيكوليت التي جئنا على سيرتها من قبل، أو بالأصح قارن بين القصيدة الأولى والقصيدة الثانية، تلاحظ أنك أمام لغة واحدة لم تتغير أبداً. الأولى كتبت بالفرنسية والثانية كتبت بالعربية، الأولى كتبت في بلاد تحيط بها الغابات والجبال والأنهار، والثانية كتبت في سوق بازار عابر جداً، إنه سوق أسبوعي... ومن يدري فقد يكون سوقاً شهرياً أو سنوياً، والأولى كتبت في النصف الأول من القرن الثالث عشر والثانية كتبت قبلها في مناسبة عابرة، بمئات السنين، إلا أن القصيدتين كتبتا بلغة واحدة لأنهما تتبعان القانون الأساسي للأدب. ولو كتبت آلاف القصائد بالروسية والألمانية والهندية والأميركية والماو ماو... للاحظت أنك أمام لغة واحدة شريطة أن تتناول هذه القصائد الموقف ذاته، أي موقف العاشق. إنك أمام قانون واحد، أمام مؤسسة واحدة، أي أمام لغة واحدة.

***

نكتفي بهذه المعالم، مع أن ثمة الكثير من الأمور التي أرجأنا الحديث عنها. وقد أبرزنا هذه المعالم لنرى مدى رسوخ القانون الأدبي. ولو لم يكن راسخاً لما استطاع أن يقوم بعملية التوازن. إن ليليث التي تحدثنا عنها سابقاً خضعت لعملية توازن كبيرة. ففي البدء كان المجتمع سلمياً بحاجة إلى ناشئين مسالمين، بينما لما تحول إلى مجتمع حربي وانتقلت السلطة إلى الأب، لاحظنا أن الأدب خلق التوازن وجعل من ليليث شيطانة ليلية, إذ لو استمرت ليليث بتربية الأطفال بتلك التربية المخنثة أو المؤنثة لاجتاحت قبائل الشمال تلك البلاد بأيام إن لم نقل بساعات. ولهذا قلنا أن كل مفردة في معجم الأدب لها عدة معان، فما أسرع ما تنقلب الأم الحنون إلى أم قاتلة في الأدب، عندما يقتضي الأمر وحسب متطلبات التوازن الاجتماعي.

هذا القانون الراسخ والوطيد والمستمر إلى الأبد، والذي لم يضعه مشرع، والناجم من الطبيعة البشرية، سيظل في اذهاننا ونحن نعالج مشكلات الإنتاج الأدبي والسوق الأدبية والمستهلك الأدبي، وغير ذلك دونما حاجة إلى التذكير به.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:21 pm

الفصل الثامن: الناتج الوطني والاقتصاد الأدبي

الناتج الوطني هو، في عرف الاقتصاد السياسي، مجموع القيم المادية المنتجة من قبل شعب معين خلال فترة زمنية، شهرية أو سنوية، أو عقب تنفيذ خطة تنموية خماسية السنوات أو سباعيتها أو عشاريتها. وبقسمة الناتج على عدد السكان نحصل على دخل الفرد من الناتج الوطني، من غير تحديد طريقة توزيع هذا الناتج: ما حصة الدولة منه وما حصة الشعب، ما حصة المحتكرين وما حصة الكادحين، ما حصة المتبطلين الطفيليين وما حصة العاملين الحقيقيين. وفي كل ميزانية يكون الناتج الوطني وسيلة لمباهاة القائمين على الحكم بأنهم حققوا ناتجاً يزيد عن الناتج السابق بنسبة خمسة بالمئة أو مئة بالمئة. وفي أكثر الأحيان تزف وسائل الأعلام الرسمية إلى المواطنين بشرى زيادة خيالية في بعض فروع الاقتصاد القومي تزيد عن خمسمئة بالمئة. وبالطبع إن بعض السكان يستخفون بهذه النسبة لأن دخلهم ربا على ذلك كثيراً، ومعظم السكان يفغرون أفواههم وهم يتلقون الخبر أو "البشرى" مثلما يتلقى القاريء العفريت الذي يخرج من المصباح السحري، ويعتبرونها نسبة إعلامية لأنهم لم يحصلوا على شيء منها.

والناتج الوطني حسب مفهوم الاقتصاد السياسي الذي تدرسه المعاهد والكليات المختصة يختلف من مرحلة إلى مرحلة، ففي المرحلة المشاعية لم يكن ثمة ناتج وطني لأن الإنسان يأخذ من منتجات الأرض ما يفي حاجته فقط. وفي المرحلة العبودية كانوا يحصون رؤوس العبيد، وفي المرحلة الإقطاعية يحصون المنتوج الزراعي. أما في المرحلة الرأسمالية فقد اختلف الوضع كثيراً جداً نتيجة عدة أمور أهمها على الإطلاق ظهرو الآلة، أو قل الصناعة، وظهور رأس المال الذي بات من المحركات الأساسية جداً عقب تدفق ذهب العالم الجديد في المرحلة الميركانتيلية. وقد أولت كتب الاقتصاد اهتماماً خاصاً بالمركانتيلية، من غير أن يشير واحد منها -سوى كتاب ماركس- إلى أن ذلك كان على حساب إبادة السكان الأصليين، فالرجل المؤمن جداً كريستوف كولومبوس قتل وجماعته ثلاثين مليون نسمة. ولكن بما أن هذه الكمية لا تؤثر مطلقاً في التجارة التي باتت عماد الاقتصاد الحديث، فإن من السخرية أن تشير إليها كتب الاقتصاد السياسي، مع أن الإجهاز على هذه الكمية "الكولومبية" وحدها يعني الشيء الكثير في تلك البلاد، ليس من الناحية الاقتصادية وحسب، بل أيضاً من النواحي الأخرى: الفنية والعلمية والأدبية...

وبظهور هذين الشيئين: الصناعة والرأسمال (ذهباً كان أو معدناً آخر أو أوراقاً مالية...) ظهر شيئان آخران هما التجارة والبورصة. التجارة تولدت من الصناعة لفتح أسواق لمنتجاتها، والبورصة تولدت من الرأسمال المالي، فصارت تجارة قائمة بذاتها. وحتى تتم التنمية ويزداد الناتج الوطني لابد من تجديد أدوات الإنتاج وما يسمى بالرأسمال الثابت، وتخفيض كلفة الإنتاج وتقليص الزمن اللازم للإنتاج، والدخول في السوق العالمية... وغير ذلك من الأمور الأخرى التي يعرفها حتى المبتدئون في الاقتصاد السياسي.

مثل هذه الشبكة جعلت الأمور تتعقد أكثر فأكثر، فالنمو الصناعي أدى إلى كوارث بيئية، والبورصة أدت إلى إفلاسات مريعة، وتجديد أدوات الإنتاج أدى إلى البطالة. فالكرة الأرضية باتت محاطة بجو مسموم من الخارج وبجحيم لا يطاق من الداخل، ما أحلى جحيم دانتي الرائع عنده.

ونورد هذه المعلومات لا لإدانة الاقتصاد الرأسمالي وحده بل لإدانة كل اقتصاد يسير في هذا الاتجاه. فالاقتصاد الإشتراكي خلق جيشاً من البطالة المقنعة، وجعل المسؤولين يثرون أكثر من أصحاب كبريات التروستات والكارتيلات. وقد بلغت ثروة لص من هؤلاء المستفيدين من الاقتصاد الإشتراكي درجة رفض فيها أحد البنوك توظيف كامل المبلغ لأنه لا يستطيع استثماره كله. ويبدو لنا أن كل اقتصاد سياسي مصيره أحد الاحتمالين: لصوصية سرية تحت شعارات براقة، أو لصوصية علنية تحت شعارات رفع الناتج الوطني وتحقيق دولة الرفاهية... ولكن الناس العاديين ظلوا في الحالين يدفعون ضريبة مخططات "الاقتصاد السياسي" التي تنتهي دائماً بالفشل.

والمشكلة إنك في هذا الاقتصاد لا تعرف شرقك من غربك، فمرة يقول لك هذا الغراب المتغطرس ان تجديد المكننة يحل الأزمة ومرة يقول لك أن السبب يرجع إلى إهمال الاستثمارات الزراعية، ومرة أخرى يضع مشكلة المياه، ومرة أخرى يزعم أن ندرة المواد الأولية هو سبب الأزمة، ومرة يجعل النفط أكبر مشاغب في السوق العالمية، ومرة يذهب إلى أن تجارة المخدرات إلى جانب البورصة جعلت السوق العالمية لا تعرف الاستقرار ولا القانون، ومرة يزعم ان تجارة المعلوماتية التي دخلت حديثاً هي التي ستؤدي بالاستقرار المالي والاقتصادي. إن الاقتصاد السياسي هو العلم الزائف والمنافق الأكبر وهو الستار الذي خلفه يحقق الرأسماليون أو المسؤولون الإشتراكيون أعظم ثروات عرفها التاريخ، ولو عاد قارون في هذه الأيام لعد فقيراً.

وقد تصدى نادى روما للمشكلة وأصدر ما أصدر من كتب ودراسات مستفيضة، ولكن المشكلة بعد هذه العقود التي انصرمت على انعقاده تفاقمت والأزمة اشتدت والبيئة فسدت أكثر فاكثر. وسبب فشل نادي روما أنه اعتمد على الاقتصاد السياسي الكلاسي المعروف. وهو علم حديث جداً ظهر في القرن الثامن عشر واكتسب أهميته في القرن التاسع عشر. ولو قرأت في أي كتاب من كتب الاقتصاد السياسي لظننت نفسك تقرأ في كتاب للسحر، إذ الأمور سهلة وبسيطة لا تستدعي أكثر من الإشراف وحسن استخدام المواد الأولية وأدوات الإنتاج من مادية وبشرية ومراقبة السوق، بيد أن عفريت الأزمة مع كل ذلك يظهر، وعندها لا أحد يعلم من أين، من أي عنصر من عناصر هذا الاقتصاد المشؤوم نشأت الأزمة. إن كتب الاقتصاد السياسي لا تشير أبداً إلى دور الفن والأدب والموسيقى وبقية القيم المعنوية في الإنتاج. كل شيء في الاقتصاد السياسي يدور بين قطبين: الاقتصاد - السياسة فقط. ومع ذلك، وعلى الرغم من جهود العلماء الاقتصاديين الأفذاذ فشل الاقتصاد السياسي في تجنيب دولة جبارة كالولايات المتحدة عقابيل الأزمات الخفيفة والحادة، كما فشل في وقف انهيار معسكر بكامله.

إن فشل الاقتصاد السياسي يعود في أساسه إلى تجاهله علم الاقتصاد الأدبي الذي هو الركيزة المكينة والثابتة لكل اقتصاد، قديماً كان أو حديثاً. ومن المقارنة بين الاقتصادين، الأدبي والسياسي تبرز مقومات الاقتصاد الأدبي.

يرى الاقتصاد الأدبي أن الإنسان هو الركن الأول والأخير في أي عملية اقتصادية أو غير اقتصادية. وفي حال تخلف الإنسان (والمقصود بتخلفه إهماله الأدب فقط) لا تجدي التدابير ولا الوسائل ولا أي شيء في الاقتصاد السياسي. في حال تخلف الإنسان تتساوى الوتيرة الاقتصادية العالية والوتيرة الاقتصادية المتدنية. وربما كانت الوتيرة العالية أشد ضرراً بالإنسان من الوتيرة المتدنية، فقد لوحظ ارتفاع معدل الجرائم والاضطرابات في الوتيرة العالية للاقتصاد، مما يجعل الرفاهية المادية عبئاً خطيراً أن لم تصحبها رفاهية أدبية. والسبب في ذلك يرجع إلى أن الأدب هو المرشد الوحيد للحاجة الإنسانية. أما الاقتصاد السياسي فإنه يصطنع هذه الحاجة اصطناعاً، عن طريق طرح منتجات جديدة لم تكن تخطر على بال أحد. فهناك أشياء كثيرة في السوق لا يحتاج إليها الإنسان. لكن وجودها هو الذي يخلق الحاجة إليها. وما الموديلات المختلفة للثوب الواحد إلا من هذا القبيل. فالإنتاج الاقتصادي يتحول إلى عبء بدلاً من أن يرقى بالمخلوق البشري. وهذه الناحية هي أخطر ناحية في الاقتصاد السياسي الذي يعمل متجاهلاً هذه النقطة تجاهلاً تاماً فيقع في الفوضى ، حتى لو أشرف على إدارته آدم سميث ومالتوس وماركس.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:21 pm

من هذه النقطة يمكن أن تنطلق لتحديد مقومات الاقتصاد الأدبي. إن هذه المقومات هي: الفلز الأدبي والمنتج والمستهلك والسوق. فالفلز الأدبي مطروح لكل منتج مجاناً. إنه لا يكلف شيئاً ولا يحتاج المنتج إلى رأس مال ثابت ورأس مال متغير، ولا إلى الأيدي العاملة، ولا إلى الآلات والمكننة الأوتوماتيكية والإلكترونية. وهو الفلز الوحيد الذي لا يمكن احتكاره. إنه أكبر فلز في تاريخ البشرية يرجع إلى أكثر من ثلاثين ألف سنة. إن في مقدور المنتج أن يحوز الفلز من الفولكلور المصري أو البابلي، أو من أبرع المنتجين الأدبيين في العالم وهم الأغريق، من دون أن يدفع قرشاً واحداً. إنه فلز مجاني يختلف عن الفلز الاقتصادي أو ما يسميه الاقتصاديون "المواد الأولية" التي كانت من أكبر أسباب اندلاع الحروب والصراعات بين الشعوب والدول.

أما المنتج الأدبي فإنه يقف على الطرف النقيض من المنتج الاقتصادي . والمقارنة بينهما مخجلة جداً، ففي حين ترى المنتج الأدبي إنساني النزعة لا يرمي إلى ابتزاز أو احتكار أو تحقيق ربح بأسرع من لمح البصر، ولا إلى تشويه النفس الإنسانية وتدمير فئة أو دفع طبقة بكاملها إلى البؤس، نرى المنتج الاقتصادي ينطلق من عاطفة ذئبية. إنه منذ البداية يفكر في الطرق التي تمكنه من ابتزاز الآخرين وإفقارهم حتى آخر رمق. إنه عندما ينتج لا يفكر بحاجتهم، بل يفكر كيف يخلق فيهم الحاجة إلى منتجاته. إنه يستدرج -مثلاً- الأطفال لمنتوج سخيف فيأخذ من الفقير مثل ما يأخذ من الغني، فهو يساويهما في الابتزاز وليس في العطاء. وعندما يخلق الحاجة لمنتوجه فإنه يهيء النفوس للشعور بالحاجة تجاه المنتوجات الجديدة النافلة. وهو بذلك يسهم في الكوارث الاجتماعية . إن دفع لعبة سريعة العطب إلى الأطفال يسبب عبئاً على الأسرة الفقيرة. وهو يعرف أن الطفل في الأسرة أشبه بملك لا ترد أوامره. إن هذا المنتج ذكي جداً، يعرف كيف يتصرف ويعرف كيف ينتج. ولكن هذا الذكاء اشبه بذكاء لوسيفر الذي أرسل الأفعى الحكيمة إلى حواء فأفقدها السعادة وطردها من الفردوس الأرضي أو الحياة الرحمية.

وبالمقابل نرى الطرف الآخر وهو المستهلك يختلف أيضاً في الاقتصادين الأدبي والسياسي. فالمستهلك الأدبي يدفع ثمن مايخلق له التوازن النفسي والإنسجام مع البيئة (القانون الأساسي للاقتصاد الأدبي) وهو يملك عاطفتين متعارضتين قويتين: العاطفة الأولى هي القناعة المادية والعاطفة الثانية هي الطموح أو الشغف الأدبي. فهو مادياً يقنع بما يكفيه ويريحه. إنه يعي تماماً إن العبيد الآليين لا يدخلون بيته ليخدموه، بل ليخدمهم. إن صيانة أي عبد آلي في هذه الأيام تكلف أكثر من الثمن الأصلي للعبد. وبذلك يتحول المستهلك إلى عبد يخدم العبد الآلي فكأن الإنتاج يتمرد على المستهلك وعلى الوظيفة التي من أجلها اقتناه.

أما العاطفة الثانية للمستهلك الأدبي فهي الطموح الذي لا يشبع، إذ عندما يقبل على السلعة الأدبية يشعر بالاكتناز الروحي وتنزرع في صدره نبتة المحبة الإنسانية (الكاريتاز) التي تجعله يتماهى في كل ما هو راق وجميل. وكلما ازداد طموحه المعنوي زهد في نوافل الماديات. وهذا شأن كل تربية جمالية.

فإذا جئنا إلى مسألة السوق وجدنا فروقاً كبيرة جداً، فالسوق الأدبية هي سوق إنسانية خفيفة الأسعار نفيسة القيم، تعمل على الإمداد بكل مقومات الحساسية الراقية، بعيداً عن الأزمات والاضطرابات والإفلاسات والإنهيارات. ان السوق الأدبية هي سوق بعيدة عن الاحتكارات والتروستات والكارتلات، على النقيض من السوق الاقتصادية التي لا تعرف النظام ولا الاستقرار، إنها أشبه بجحيم دانتي، تمور وتفور فتعذب وتدمر وتقمع، إنها سوق جهنمية، وهذا شيء طبيعي مادام المنتج ينطلق في إنتاجه من عاطفته الذئبية المفترسة التي لا تأبه بأي قيمة تغني النفس البشرية.

هذه المقومات وغيرها من مقومات الاقتصاد الأدبي سنعود إليها بالتفصيل في بحوث لاحقة. ولكننا أشرنا إلى بعض خصائصها هنا حتى نكون على وضوح فيما يتعلق بالبحث الذي بين أيدينا وهو علاقة الناتج الوطني بالأدب.

***

إذا كان الاقتصاد السياسي يعي تماماً العملية الاقتصادية، وأصول التنمية وأسس التوازن في السوق، وتلبية حاجات السكان، فلماذا لا يرتفع مستوى الناتج الوطني؟

إذا عدنا إلى المرحلة الميركانتيلية لاحظنا أن الناتج الوطني الأوروبي حقق في تلك المرحلة أعلى مستوى يمكن أن يحلم به أي اقتصاد مهما كان مؤتمتاً ومبرمجاً، ومهما كانت الأجور منخفضة. ولكن كيف تحققت هذه القفزة الهائلة؟... من القتل والسرقة والنهب. من كريستوف كولومبوس الذي اقام له الأوروبيون في أميركا أضخم التماثيل تقديراً لمجهوده في قتل السكان وإرسال الذهب إلى أوروبا. واليوم يحطم السكان الأصليون هذه التماثيل، والأدبيات في أميركا اللاتينية تظهره بمظهر أكبر مجرم عرفه التاريخ، انه لص تاريخي وقاتل فظيع، لم يتفوق عليه أحد، ولا حتى الكونت دراكولا، مصاص الدماء. هذا هو باني الاقتصاد السياسي الحديث، وهذه هي سيرته "المشرفة" لهذا الاقتصاد.

فالناتج الوطني الذي يتباهون بارتفاعه المعتدل أو الصاعق ناجم عن السرقة والنهب أكثر مما هو ناتج عن تنظيم السوق تنظيماً إنسانياً من حيث الإنتاج والإستهلاك. وعندما ننظم السوق وفقاً للحاجات الإنسانية فإن الوفر الوطني سيكون صفراً، من دون أن تكون هناك أزمات أو ضائقة اقتصادية... لكن "الاقتصاد السياسي" يأبى أن يرضخ لهذه القناعة فيزيدمن وتيرة الإنتاج ليدخل البورصة والسوق العالمية، أي الدخول في صراع مع الآخرين، أي السرقة والسلب والنهب. ولص واحد في الدولة يستطيع أن يبلع كامل الناتج الوطني، الذي يغوص في الجيوب ويرتفع في البيانات الرسمية. والفضل في ذلك يرجع إلى الاقتصاد السياسي، الغراب المتغطرس.

ويدعي الاقتصاد السياسي ادعاءات سخيفة جداً، فهو يذهب إلى أن التقنية الحديثة هي التي تسبب ارتفاع الناتج الوطني. وللوهلة الأولى يبدو الأمر صحيحاً إذ أن هذه التقنية تحقق قفزة اقتصادية، لكن انتظروا قليلاً تجدوا أنها هي نفسها تتحول إلى عنصر مدمر بعد أن كانت مسهمة في التقدم. إنها تشبه تماماً العبيد الآليين الذين ندخلهم إلى بيوتنا ليخدمونا، ويخدموننا فعلاً باديء الأمر ولكن بعد فترة نصبح نحن أنفسنا خداماً لهم. إن هذه التقنية التي أدت إلى ازدهار موقت انقلبت إلى عبء ثقيل بسبب ما ندفع على صيانتها المستمرة، أو بسبب ظهور عبيد أحدث تصر النساء على اقتنائهم، حتى لو لم يستخدمنهم. وتزداد الأزمة تفاقماً عندما تحاول المؤسسات التخلص من التقنيات القديمة فتحدث هزة في الأسواق وهكذا تنقلب التقنيات التي كانت معبودة إلى أبالسة تقبع في زوايا البناء لابد من التخلص منها بأسرع وقت ممكن. لقد باتت طاردة للبركة.

وإذا فشل الاقتصاد السياسي في هذا الادعاء لم يستح أن يقدم لك ادعاء زائفاً آخر لا يقل تفاهة عن سابقه، كالتضخم السكاني مثلاً. يا لطيف إنه غول مخيف كم وكم حذَّرنا منه مالتوس ونحن عنه غافلون. ولكن من ينكر في هذه الأيام أن الإنفجار السكاني لا يشكل كارثة، وعلى الأخص في ظل الاقتصاد السياسي الكلاسي الذي يطرد الاقتصاد الأدبي؟

لا أظن أن ثمة من ينكر أهمية الإنفجار السكاني وخطره في ظل هذا الاقتصاد. ولكن كيف نتجنب الانفجار السكاني؟ أباقتصادكم؟... إذن لماذا لم تتجنبوه أنتم؟

المسألة لا تكمن هنا أبداً على الرغم من خطورة الانفجار السكاني. المسألة تكمن في التمسك بالاقتصاد السياسي الذي لم يول أي أهمية للناحية الأدبية الاقتصادية. ومع ذلك لابأس أن نتريث قليلاً عند هذه النقطة لدلالتها وأهميتها.

لننظر الآن في نسبة التكاثر في البلدان التالية: السودان والجزائر والبرازيل... فماذا نجد؟ نجد أن السودان هي من الدول ذات المعدلات المنخفضة جداً. إنها أخفض نسبة تكاثر في العالم على الإطلاق. إن نسبة أقل بكثير من نسبة تكاثر الولايات المتحدة لا نجدها إلا في البرازيل فقط.

نحن أمام ثلاث دول تمثل كل أنماط النمو السكاني حتى أن أدناها تكاد تصل إلى الصفر. ومع ذلك فإن الناتج الوطني في هذه الدول هو في انحدار مستمر. فأنت لا تستطيع ربطه بالسكان، فإن ربطته بالسكان في السودان، برزت لك البرازيل وإن ربطته بالسكان في البرازيل برزت لك السودان، وإن قلت الزائد أخو الناقص وإن النسبة يجب أن تكون معتدلة برزت لك الجزائر. فهذه الدول الثلاث تقوم فوق ارض تعتبر مخزناً من الثروة الهائلة، بعضها تحت الأرض وبعضها فوق الأرض، ومع ذلك فإنها تزداد مديونية بازدياد السنين، حتى الفوائد باتت بحد ذاتها عبئاً ثقيلاً. وبإمكانك أن تفتح أي كتاب في الجغرافية الاقتصادية لتقف على الثروات الهائلة التي لا يمكن الحفاظ عليها من السرقة والنهب إلا بالاقتصاد الأدبي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:22 pm

في هذه الدول تكاد نسبة الاستهلاك الأدبي تتدنى إلى الصفر، فالأدب في هذه البلدان يستهلك خارجها أكثر مما يستهلك في داخلها بمئات المرات. إن الاستهلاك الأدبي في هذه الأقطار محدود إلى درجة مخجلة. وحين لا يكون للأدب تأثير فإن الاقتصاد السياسي يلعب بحرية فيغش وينافق ويكذب، فمرة يعزو الأزمة للسوق العالمية ومرة لوفرة الإنتاج ومرة لقلته ومرة للآلات وأدوات الانتاج ومرة لعدم تقسيم العمل... ولكنه دائماً يعجزُ أنْ يضبط لصاً في الدولة أو في السوق أو في البلدان الأجنبية، لأن هذا اللص يكون هو نفسه متمكناً من معرفة مباديء الاقتصاد السياسي فيعرف تماماً كيف يحوله إلى جيبه وجيوب شركائه.

وقد لعب الاقتصاد السياسي بعقل هيئة الأمم المتحدة فأقدمت على عقد اجتماع في القاهرة مخصص للنمو السكاني وطرق معالجته. وقد أنفقت الأموال الطائلة من أجل إنجاح هذا المؤتمر الذي كان اشبه ببرج بابل حيث كانت كل جماعة تنطق بلغة لا يفهمها الآخرون. فالفاتيكان وإيران وجبهة الإنقاذ والسودان وأمثالهم وقفوا بشدة ضد هذا المؤتمر الذي رأوا فيه مخالفة لوصايا الدين. والقاهرة نفسها انقسمت على نفسها فعلماؤها رأوا في الانفجار السكاني مشكلة، في حين أن المتشددين فيها رأوا فيه نعمة ربانية.

ولم تكن هيئة الأمم تجهل ماذا سيحدث في هذا المؤتمر، ولا كيف ستتشعب الأمور وينقسم المؤتمرون إلى فئات متجاورة ولكن غير متحاورة، وإن تحاورت فهو حوار الطرشان... كانت تعرف كل ذلك، ومع ذلك فقد أقدمت على عقد المؤتمر "خدمة للاقتصاد السياسي" موهمة الناس انها تحل المشكلة التي لا يمكن حلها إلا بالاقتصاد الأدبي وحده فقط.

ونوجز هنا ما كنا كتبناه أثناء انعقاد المؤتمر من أن هيئة الأمم تملك جداول إحصائية دقيقة لكل ظاهرة اقتصادية أو غير اقتصادية. إنها تعرف مثلاً عدد البزالات والبراغي في مصنع كوري شمالي تحت الأرض، وعدد العاملين فيه، والمنتجات التي تخرج منه وأسماء الذين يبيعون ويشترون وأعمارهم ولون عيونهم... وكان الأجدى أن تنشر بياناتها الإحصائية عن الاقتصاد الأدبي فتبين للناس أن الدول منقسمة قسمين: دول تكتب فلا تنجب ودول تنجب فلا تكتب، فحيث ترتفع نسبة التناسل والتكاثر تنخفض نسبة الاقتصاد الأدبي. قارنوا مثلاً بين الهند وهولندا أو باكستان والسويد. وربط الإنجاب بالكتاب ليس كافياً، إذ يجب ربطه بالناتج الوطني. فسواء كانت البلاد تنجب أولاً تنجب فإن شيوع الاقتصاد الأدبي فيها سوف يزيد من الناتج الوطني، وضموره يعني التدني الخطير للناتج الوطني، فهناك دول في أواسط أفريقيا تتناقص سكانياً بسبب الأمراض لكنها تزداد فقراً لانعدام الاقتصاد الأدبي فيها.

خذوا فرانسا مثلاً، وهي من أوائل الدول قراءة وكتابة، واسحبوا منها الكتاب، واتركوها عشر سنوات فقط، ثم انظروا ماذا يحدث؟ إنها لن تزداد سكاناً فحسب، وإنما سوف ينهار ناتجها القومي أيضاً. وإذا انتظرتم عشرين عاماً انتشرت البيروقراطية واللصوصية، ولن تجدوا وزير مالية بريئاً يقدم على الانتحار، بل لا ينتحر وإن كان مداناً، وعندها سوف يزداد الناتج في البيان ويتضاءل في العيان لأنه ينزلق إلى الجيوب أو في البنوك الأجنبية. ولو أن هيئة الأمم أنفقت مصاريف المؤتمر على طباعة المؤلفات الأدبية ووزعتها على الدول المعنية لكان ذلك أجدى لها، ولوفرت على الفاتيكان نفقات عقد مؤتمر مناهض لمؤتمر القاهرة حيث عرض على المؤتمرين أسرة رومانية مباركة لأنها تتألف من خمسة عشر نفراً ما شاء الله، وقدمها على أنها أسرة نموذجية، مما دعا بعض اللاهوتيين الفرنسيين الكاثوليك إلى الإفصاح عن موقف معارض.

على أي حال ليست هذه هي المرة الأولى التي تتدخل فيها الأمم المتحدة في تنظيم الاقتصاد العالمي. فقد تدخلت كثيراً قبل ذلك، فمرة تشير على هذه الدولة أو تلك بأن تعوم عملتها، ومرّة تشير على دولة أخرى بتصدير موادها الأولية لأنها لا تجيد استثمارها، ومرة تنصح باستيراد الآلات الحديثة لرفع وتيرة الانتاج... وأمثال ذلك. وهيئة الأمم واقعة تحت تأثير الاقتصاد السياسي المعروف الذي لم يستطع إثبات أي حقيقة سوى حقيقة واحدة فقط وهي أن الاقتصاد الوطني أو العالمي هو دائماً في صالح القوي، فالقوي يغتني حتى في حالة انخفاض الناتج الوطني أو في حالة تدني مردودية الاقتصاد العالمي. وربما كان تدني مردودية الناتج الوطني أو الناتج العالمي أشد دعماً وتأييداً للقويّ من ارتفاع هذه المردودية.

ونسأل هيئة الأمم المشرفة علينا بعد الحرب العالمية الثانية: لماذا القويّ يزداد غنى، والضعيف يزداد عوزاً، في حالتي الأزمة والإنفراج، بالرغم من النصائح المذهلة حقاً التي تقدمينها للدول الضعيفة بعين خاشعة وقلب متواضع؟... لماذا لم يعمل أحد بنصائحك، التي لم تمنع أزمة الثمانينات من العصف بدول الجنوب؟... ألا يعني هذا أن الاقتصاد السياسي المعروف وسيلة خداع بيد السياسة التي هي أداة ناجحة دائماً في يد القوي؟

واليوم نسمع من الأمم المتحدة نغمة جديدة وهي أن دول الجنوب تعاني من تلوث البيئة لذلك يتدنى ناتجها وينهار اقتصادها، فالبيئة الملوثة تجعل فاعلية السكان أقل وتجعل نفقات الصحة على الفرد تستنفد الوفر الأسروي... ولكن لماذا يؤدي تلوث البيئة في الشمال إلى المزيد من الناتج الوطني؟... بل أن المزيد من تلوث البيئة يتناسب طرداً مع المزيد من الربح وارتفاع الناتج الوطني. والحقيقة أن كريستوف كولومبوس لايزال السبب الأول الكامن وراء زيادة الناتج الوطني. يبدو أن تماثيله لم تحطم كلها.

إن الإقتصاد السياسي الذي نزعم أن العقول الكبيرة هي التي هندسته وقدمته هدية لمن يريد أن يستفيد منه -ويبدو أنه لم يستفد منه إلا اللصوص- ليس أكثر من ستار يخفي الرغبة الذئبية الكامنة في الإنسان. وعندما نادى هوبز بأن الإنسان ذئب للإنسان كان محقاً ولكنه لم يكن محقاً عندما جعل الدولة تحل المشكلة. كان عليه أن يلمس أن الدولة عندما تقوى وتتدعم وتسيطر على الأمور وتقمع الرغبة الذئبية في الإنسان تتحول هي نفسها إلى ذئب لا يشبع, فالذي استقدمه هوبز لحل المشكلة يغدو نفسه مشكلة.

لا أظن أن أحداً أسند إلى الدولة مهمات أسمى وأنبل من تلك المهمات التي أسندها إليها ماركس. ولكن ماذا كانت النتيجة؟... كانت أن هذه الدولة تزداد ذئبية كلما ازدادت هيمنة فامتلأ رحمها بجراء الذئاب الذين ما إن ولدوا حتى التهموا أمهم وصاروا هم أنفسهم أصحاب السيادة. وكنت منذ الستينات -زمن اطلاعي على أدب دستويفسكي- أسأل نفسي، وأنا أعرف الجواب: لو أن أدب هذا الكاتب شاع في منتصف القرن الثامن عشر، هل كانت البشرية تعاني من الثورة الفرنسية المريعة؟ أو لو أن الشعب الروسي كان يعرف أدبه جيداً، هل كان يستجيب لنداء البلاشفة فيستبدل دولة بأخرى، ثم يندم على ما فعل، فيبحث عما عاف فلا يجد؟

أنا أذهب مذهب اشبنجلر بأن الذي عبر عن نفسية الشعب الروسي هو دستويفسكي، إلا أن أدبه لم يكن شائعاً في بلاده. ربما كانت أوروبا أكثر استهلاكاً لانتاجه من بلده روسيا، حيث كانت طبعات كتبه لا تتعدى الألف أحياناً، وكذلك كتب تشيخوف التي لم تنل حظها من النشر في الداخل وفي الخارج إلا بعد وفاته بزمن طويل. وليس عبثاً أن الثورة الروسية كافحت مؤلفات دستويفسكي بضراوة لا تقل عن ضراوة النضال ضد جيوش بولتشاك ودينيكين البيضاء.

لن نوغل في تحليل نوعية الأدب اللازم لتحسين الناتج الوطني، فهذا مدخل خاص، ولكننا نشير إلى أن المقصود من كلامنا ليس زيادة كمية الناتج فحسب، وإنما تحقيق العدالة في توزيعه. والعدالة مطلوبة من الاقتصاد الأدبي قبل الزيادة. إن الأرقام الضخمة للناتج لا تعني أبداً انه وطني فقد يكون طبقياً أو فئوياً أو فردياً، ومن دون الإنتاج الأدبي لا يمكن أن يتحول الناتج الاقتصادي من ناتج فئوي إلى ناتج وطني.

هذه دول العالم منشورة على الخارطة أمامك فانظر فيها وخذ من الجغرافيا الاقتصادية المعلومات عن هذه الدول، تجد أنه حيث تشيع الثقافة والكتاب تكون مشكلة الإنفجار السكاني وتوزيع الناتج الوطني مشكلة بسيطة إن لم نقل انها مشكة محلولة تماماً. ثم ادخل في تعاريج هذه الدولة أو تلك تجد أن الأحياء التي لا يدخلها الكتاب، سواء كانت أحياء فقيرة أو أحياء غنية، هي الأحياء التي تكثر فيها الجريمة، فالفقير يستخدم المدية والمسدس والغني يستخدم الاحتكار أو إغراق السوق لتحطيم أحد المنافسين... وكلها جرائم، وإن كان النوع الثاني أشد خطراً بما لا يقاس من النوع الأول. ولو ألقينا نظرة على تاريخ الناتج الوطني لدول الجنوب التي تتشرف بحمل وسام التخلف على صدرها، لوجدنا أن هناك وزارتين لا يمكن المساس بميزانيتهما وهما وزارة الحربية ووزارة الإعلام. الوزارة الأولى تزداد ميزانيتها باستمرار وتكاد تلتهم الناتج الوطني إذ تجتزيء ما يقارب النصف، والثانية تلتهم ما يقارب الربع، وهي وزارة فريدة من نوعها إذ لا وجود لها في كل دول العالم إلا في بلدان الجنوب المتخلفة فقط. وهاتان الوزارتان معاديتان للأدب والثقافة، وبالأخص الثانية التي تكيف الأدب وفقاً للمصالح السلطوية، أقصد الأيديولوجيا التي تغطي طريقة اقتسام الناتج. وهي وزارة تبتلع الأدب، فالقصص والروايات والشعر والمسرح وحتى الرسم والنحت والموسيقى يجب أن تسير مع المتطلبات الإعلامية، مهما جرى التسامح في الأطر الأدبية.

وعندما تظهر غيوم أزمة عابرة أو شديدة فإن ميزانيات الوزارات تخفض فوراً باستثناء هاتين الوزارتين ويتقلص الإنفاق على الثقافة أكثر من أي فرع آخر. وهذا مرجعه إلى النظرة التي ينظرون فيها إلى الثقافة. إن الثقافة المنتجة في عرفهم هي ما تحمل في طيها مشروعاً إعلامياً. وما سوى ذلك نافل وغير منتج. إنهم ينظرون إلى الإنتاج الأدبي على أنه أداة طفيلية، أيُّ إنفاق عليه إرهاق للدولة فهو عقيم لا يثمر وعاطل لا ينتج، وإن كانت إحصائيات بقية الدول تربط بين الرقي والإنتاج الأدبي ربطاً وثيقاً. إن الإنتاج الأدبي، كما تبين هذه الإحصائيات هو الأداة الوحيدة المثمرة التي تخلق التوازن بين الحاجات المادية والحاجات المعنوية والتي تجعل الحاجة المادية تتقلص إلى الضروريات وترتفع الحاجة المعنوية إلى أرقى ما يمكن. والتوازن الذي نقصده هو بهذا المعنى وهذا الاتجاه، وليس توازن المناصفة، كما قد يتوهم القاريء. والإنتاج الأدبي هو الوحيد الذي ينظم الأسرة والنسل والسكان من دون تدخل هيئة الأمم والفاتيكان، وهو الذي يخلق الإنسان الراقي الذي يعي تماماً ما يفعل، والذي لا يمكن لشيء أن يرتقي ما لم يرتق هو: لا اقتصاد ولا ناتج وطني، ولا حتى نظافة الشارع. إن المشكلة في الناتج الوطني ليس ضخامة الأرقام أو ضآلتها، وإنما الكيفية التي يتم بها إنتاجه وتوزيعه، وهذا أمر لا يحله إلا الاقتصاد الأدبي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:22 pm

اشتهي أن أقرأ في أي كتاب عن الاقتصاد السياسي، شرقياً كان أم غربياً، ماركسياً كان أم براغماتياً كلمة واحدة عن دور الأدب والفن والرياضة والموسيقى في الاقتصاد. إن قاريء الاقتصاد السياسي يخرج -مهما بلغ عدد الكتب التي يطلع عليها- بنتيجة كئيبة وهي أن الناس الذين يتحدث عنهم هذا الاقتصاد هم أجساد بشرية بشهوات ذئبية. وربما كان هذا السبب وراء تأليف كارل تشابيك مسرحيته الشهيرة "الإنسان الآلي" التي ترجمت إلى العربية أكثر من مرة؛ والتي يتحدث فيها عن الرجال الآليين الذين ارتقت الحركة الأوتوماتيكية عندهم إلى درجة كبيرة، إلا أنهم -أي الروبوطات- يستنكرون ما يجري أمامهم. وماذا أمامهم؟... أناس جمدت قلوبهم وتصخرت أفئدتهم، فما هان عليهم -وهم رجال من حديد- أن يروا الناس هكذا، فدبت المشاعر فيهم وثاروا على الناس والآلات "المتطورة" أي ثاروا على الاقتصاد السياسي إياه، وعلى وجهته المدمرة، واقدموا على تحطيم كل شيء، ووزعوا العاطفة الانسانية من جديد، أي وزعوا الأدب .

المتاعب التي جلبها الاقتصاد السياسي مكشوفة ومعروفة.. من أبسط الانهار حتى طبقة الأوزون. وسوف يتزايد تأثير الاقتصاد السياسي حتى يصل إلى الطريق المسدود... وعندها يولد، وبجدارة، الاقتصاد الأدبي الذي يحمل الرقي الحقيقي والذي يعرف فعلاً كيف يخلق الناتج الوطني النظيف وكيف يتصرف به.

وحتى نقف على تهافت الاقتصاد السياسي وانحرافه عن الأهداف الإنسانية نفتح كتاب "تحديات الجنوب: تقرير لجنة الجنوب" ونأخذ من الصفحة 40 من الطبعة الإنكليزية شكلين: الأول يشير إلى النسبة المئوية المقتطعة من الناتج الوطني والمنفقة على البحث العلمي حيث نلاحظ أن الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية يحققان أعلى نسبة:

النسبة المئوية من الناتج المنفقة على الأبحاث العلمية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:23 pm

والشكلان مقتبسان من "كتاب الإحصاء السنوي لليونسكو" فهما من الوثائق الرسمية البعيدة عن الدعاية السياسية والإعلام الأيديولوجي. فالدول ذات النسبة المرتفعة إنما تسير وفق مقتضيات الاقتصاد السياسي، ومع ذلك انهارت أنظمتها مثل بيوت الرمل على شاطيء عاصف من غير أن يمنعها اقتصادها السياسي المدروس والمبرمج جداً من هذا الانهيار.

إن غياب الاقتصاد الأدبي هو الذي يكمن وراء هذا الانهيار المريع، لأنه الملاط الذي يمسك حجارة المجتمع والذي يرقى بنفسية المنتج قبل أن يرقى بكمية المنتوج ونوعيته، والذي من دونه تذهب كل الجهود هباء. ومع أن الاقتصاد الإعلامي والأيديولوجي حظي بأكبر اهتمام منذ عام 1917، فإنه لم يستطع أن يوقف الانهيار.

إن كل حديث عن الاقتصاد السياسي بعيداً عن الاقتصاد الأدبي يعتبر نافلاً ولا يؤخذ بالحسبان. القيمة الاقتصادية الحقيقية تنبع من الأدب لا من العلم ولا الهندسة ولا من قوانين السوق ولا من قوة المال، ولا من المكننة المتطورة. إن كل أركان الاقتصاد تتبع النفس البشرية، فإن كانت خاضعة للشهوة الذئبية فلا قيمة لأي إحصاء ولا لأي تقدم. إن السوق تصبح سوقاً ذئبية والمنتج يصبح ذئباً والمستهلك يصبح نعجة يضحى بها بمناسبة ومن دون مناسبة، والمكننة تتبع نفس الممكنن فإن كان ذئباً فإن مسنناتها ليست أكثر من أنياب مفترسة.

في الكتاب الذي أخذنا منه الشكلين البالغي الدلالة نقرأ بعض النصائح لمواجهة أزمة التسعينات القادمة التي ستواجهها دول الجنوب التي ستعاني من ضائقة اقتصادية شديدة إن أهملت هذه النصائح. لنفرض أن بعض دول الجنوب لم تأخذ بهذه النصائح، فما الذي يحدث؟

تلافياً للضائقة الاقتصادية أو المالية ستعمد هذه الدول إلى تقليص الإنفاق على الأدب، إن لم نقل أنها ستلغيه تماماً، وسوف تزيد من الإنفاق على الإعلام بمقدار ما تزيد من الضرائب. منشوراتها ستخصص كلها للإعلام، وهذا القسم الضئيل الذي كان مخصصاً للأدب سوف يختفي "تلافياً للأزمة"

أنا أكتب وأنتم تقرؤون، والأيام قادمة، فاذكروا كلامي.. الأدب سيكون الضحية الأولى في الأزمة إن حدثت.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:23 pm

الفصل التاسع

المنتج الأدبي هو بكل بساطة ذلك الإنسان الذي ينتج مضطراً، تحت ضغط نفسي شديد تلك القيم والتقاليد التي يشكل مجموعها ما نسميه الأدب. فشخصية المنتج الأدبي بسيطة جداً. إنه متلقي الوحي النفسي الذي لا يستطيع متابعة الحياة من دون الإفصاح عن ذلك الوحي، أو اللاوعي إذا أردت استخدام المصطلحات الحديثة. فهو من هذه الناحية يقف على الطرف المقابل للمنتج الاقتصادي فالأول يخضع لضغط نفسي ، لحاجة بيولوجية يشعر بها ويلبيها فينتج الأدب ، أما الثاني فغير ذلك تماماً. إنه يستغل حاجات الناس المادية، لا ليقدمها مجاناً كما يفعل الأول وإنما ليستغلها أبشع استغلال، وبأسرع زمن ممكن.‏

قد يبدو كلامنا غامضاً أو غريباً لأن عقولنا مؤدلجة وفقاً لفلسفات الاقتصاد السياسي الزائفة:. فنحن نؤمن مثلاً بأن الاقتصادي يقوم بدور هام في تأمين الحاجات المادية، مع أننا لو عكسنا هذه المقولة لأصبنا الحقيقة. فالمنتج الاقتصادي هو بالضبط ذلك الذي لا دور له، إذ أنه هو الذي يصطنع هذا الدور، وذلك بتدخله في عملية الاقتصاد المادي وزعزعته ووقف عمليته الطبيعية وتحويلها إلى عملية خاضعة له.‏

أعتقد أن الملكية هي التي تحدد لنا الفرق بين المنتج الأدبي والمنتج الاقتصادي. فالأول لا يعرف الملكية ، وإنتاجه مشاع للناس جميعاً، بينما المنتج الاقتصادي يقوم أولاً وقبل كل شيء بإدخال الملكية في الاقتصاد. فهو يملك ويوسع ملكيته. هذه هي الخطوة الأولى. وبعد ذلك يأتي دور الإنتاج الذي هو في الحقيقة ناجم عن عملية سلب ونهب كبيرة جداً أو آثمة جداً، وهذا ما لا يعرفه المنتج الأدبي الذي يقوم أصلاً على عدم الملكية، بل إنه منذ وجوده وحتى هذه الأيام يناضل لإسقاط الملكية، أي إعادة الإنتاج إلى دورته الطبيعية، أي مجموع ما تنتجه الأرض يملكه مجموع البشر العاملين.‏

لقد كانت منتوجات الطبيعة تكفي الإنسان، بل تزيد عن حاجاته كثيراً وكثيراً جداً. وفي هذه المرحلة بالذات ظهرت الملكية. إنها لم تظهر نتيجة تطور مادي، بل ظهرت نتيجة نغولية نفسية فاسدة. والاقتصاد السياسي الكلاسي يعترف بذلك فيحدد ظهور المكلية بتحول السلطة من المرأة إلى الرجل في المرحلة الزراعية. وقد نقول: ما الفرق بين سلطة المرأة وسلطة الرجل؟.. الفرق كبير جداً وبسيط جداً يقتصر على كلمة واحدة هي "الملكية". إن سلطة الرجل مرتبطة بالملكية على النقيض من سلطة الأم. وبظهور الملكية لم يظهر المجرم الاقتصادي وحسب، بل ظهر المجرم الأدبي أيضاً، لكن هذا المجرم الثاني كان محدوداً لم يجرف معه التقاليد الأدبية. فبعض الأدباء راحوا يطرون الملكية والمالكين حتى أضفوا بعض القيم عليها وعلى المالكين، فسهلوا بذلك ترسيخ ما يجب أن يقفوا ضده، وما يقف ضده جميع الأدباء.‏

المالك ليس شاعراً أو أديباً ولا يستطيع أن يكون شاعراً أو أديباً، لأنه اختار الدرب المعاكس. لكنه بحاجة إلى قيم معنوية فاستأجر وأفسد. استأجر الأدباء فأفسد الخليقة إذ أقنعها بأهمية الملكية. ولكن على الرغم من كل ذلك ظل الأدب في اتجاهه العام ملتزماً بالجذر الأساسي الذي نشأ منه وهو الابتعاد عن الفساد، أي عن الملكية، فحتى هذه الأيام نرى الأدباء والكتاب ينحون باللائمة على الملكية، مفسدة الضمائر، مفسدة الناس.‏

كل زعم للاقتصاد السياسي بأن المنتج الاقتصادي لم يظهر إلا عندما دعت الضرورة البشرية إلى ذلك هو زعم لا أساس له من الصحة، فكل وقائع التاريخ وحقائقه تكذبه، فهو ليس ابن الضرورة بل خالقها والمتحكم بها. هكذا كان وهكذا هو الان. ولو أنه منذ القديم رفع يده المتسلطة لما شعرنا بـ"الضرورات" المصطنعة التي تجعلنا عبيداً له منذ القديم وحتى اليوم. إن الفرق بين عبد الأمس وعبد اليوم هو أن الأول كان مملوكاً بوثيقة، بينما نحن مملوكون بحكم هذه الضرورات المصطنعة والمفتعلة، والأول كان يذبح أمام بيت سيده، ونحن نذبح في بيوتنا ذبحاً بطيئاً، وبالتدريج.‏

لم يتغير شيء، فحتى الأدب اليوم يشبه أدب الأمس، فأنت ترى -مثلما كانوا يرون- بعض الأدباء يتحلقون حول المالك يسبحون بعظمته ويمجدون كل جرائمه ويطرون كل تصرفاته مهما كانت شائنة. وهذا هو الأدب الذي يدافع عن الإثم الكبير "الملكية" وهو القسم الذي نحيناه عن الأدب، فمن المستحيل أن يكون الأدب المنافح عن دعارة الملكية هو ذاته الأدب الذي يريد أن يرفع عن البشرية هذا الإثم الكبير الذي تحول إلى قناعة نفسية مفسدة. إن التيار العام للأدب يلفظ هذه النافورة الشاذة ويعتبرها إثماً ناجماً عن إثم وليس فرعاً من شجرة. وبعض النقاد السخفاء يصرون على أن هذا المنتوج هو فرع من فروع الأدب. فرع؟... أدب؟ من المستحيل أن يكون هناك أدب يدافع عما يفسد الأدب، عن نبتة الشيطان. ولكن على فرض أنه فرع فإنه فرع أصابه اليباس فلم يعد يرضي النظر ولا يشرح الصدر: أو قل إنه الأدب الضال أو الأدب المضاد للأدب، فالأدب موقف قبل أن يكون كلمات وألفاظاً وتعابير جميلة. وحتى تعرف الأدب حقاً ترجمْه فتسقط منه الجماليات اللاصقة والطافية فتحصل على النواة الحقيقية. عندئذ انظر فيه واحكم عليه، إذ تكون بعيداً عن التأثيرات السطحية.‏

إن خرق القانون الطبيعي هو ما أدى إلى الملكية وليس احترامه. وقد دفعت البشرية ثمناً لذلك الشيء الكثير، وستظل تدفع الثمن الباهظ الذي نظن أنه أكبر بكثير مما قد نتوهمه. إنه ثمن سوف يكلفها حياتها إن لم تتدارك الأمر. إن وجود البشرية اليوم مهدد بسبب هذه الملكية الآثمة. وعندما نقول ملكية فإننا لا نميز بين ملكية فرد أو شركة أو تروست أو دولة، فمالك الرؤوس البشرية القديم لا يختلف عن مالك الرؤوس النووية الحديث. إن ملكية الأنهار أفسدتها، وملكية الأشجار اجتثتها وملكية الجو لوثته، وملكية الأرض حجبت انتاجها فصارت سيفاً مسلطاً بدلاً من أن تكون مصدر العطاء. إن الأدب وحده يقف في وجه هذا الإثم الكبير، وهو وحده الذي يريد أن يجتث نبتة الشيطان (الملْكية)، لا الدين ولا الفلسفة ولا العلم ولا أي شيء آخر. أما الرقص والغناء والموسيقى فقد نحيناها جانباً لنكون متعاملين فقط مع الأدب المكتوب.‏

إن كل ما ذكرنا يقوم على الملكية ويسبح بحمدها، جل جلالها، فقد حرصت عليها الأديان والفلسفات والأخلاقيات والعلوم. الأدب وحده ظل ينادي بإسقاطها. وما على القاريء إلا أن يستعرض تواريخ تلك العلوم الطبيعية والاجتماعية ليرى كيف أنها قامت بعد قيام الملكية وعليها أسست صرحها، وصارت لها تابعة أو وصيفة تزينها لتصير فتنة للناظرين. لولا الملكية لما ظهرت الهندسة ولما ظهر الحساب ولا المساحة... كل هذه العلوم لم تكن موجودة قبل ظهور الملكية. الأدب وحده كان موجوداً فهو وحده المناضل الذي ظل مخلصاً مع نفسه، فلم يتوان عن إشهار سلاحه ضد هذه المفسدة. لا تقولوا أن بعضاً منه استسلم. إن هؤلاء هم بعض الأدباء، وقد نفيناهم من سجل الأدب، لأنهم خرقوا بفظاظة التقليد الأدبي، إما لجهلهم -فهم ليسوا أدباء- وإما لخباثتهم أو تبعيتهم أو اغترارهم أو حاجتهم للمالكين- وهم أيضاً ليسوا من الأدب في شيء. الأدب لا يمكن أن يلتقي بالملكية الشيطانية. الأدب لا يسقط أبداً.‏

وقبل أن ننسى نود أن ننبه القاريء إلى شيء نخشى أن يلتبس الأمر عليه وهو أن المنتج الأدبي ليس أكثر من منتج للقيم المعنوية. اللبس ناجم من اعتقاد القاريء أنه لا علاقة لهذا الانتاج المعنوي بالانتاج المادي. وهو اعتقاد موهوم لا أساس له من الصحة إطلاقاً. ومن شك في ذلك فليرجع إلى التاريخ الاقتصادي ليرى أن كل تدخل في الاقتصاد الطبيعي يفرز قيماً زائفة تتناسب والمقاصد الدنيئة. إن زوجة المالك الكبير التي تمتلك ستين ثوباً مزخرفاً فاخراً تجددها في أقل من ستين يوماً لا تنظر إلى الحياة وقيمها المعنوية كما تنظر ريفية لم تفسدها بعد مآثم الملكية. إن القيم الزائفة الناجمة عن الملكية، تعود بدورها وترسخ النزعة الذئبية أكثر وأكثر، تماماً مثلما المزيد من الملكية تؤجج الشهوة الذئبية أكثر فأكثر. فالقيم المادية تنصاع للقيم المعنوية مثلما تنصاع القيم المعنوية للقيم المادية.‏

وعلى هذا فإن المنتج الأدبي عندما ينتج القيم المعنوية الأدبية فإنه يسهم في الانتاج المادي، بل إنه يرقى بهذا الإنتاج إلى المستوى الإنساني الرفيع لأنه يلح على إبعاد جرثومة الشر والنوايا الخبيثة عنه. يريده انتاجاً نظيفاً يسد الحاجة ولا يخلقها، ويعين على الحياة ولا يعقدها فيزيد من صعوبتها ومأساتها.‏

إننا بنظرتنا السطحية نظن أن المنتج الاقتصادي، على سوءاته، يقوم بعبء تقديم القيم المادية ونتوهم أننا لا نستطيع الحياة من دونه. وهذه النظرة هي التي جعلتنا ننظر إلى الأدب على أنه من المعنويات النافلة، فلا تستطيع سبعة آلاف قصيدة أن تمدنا بمجرفة للحقل أو حتى بدبوس ثياب. ولو قلبنا هذه النظرة لاستقامت الأمور. إن الأدب نشأ ليقيم التوازن مع الطبيعة ومع الذات، وإن الاقتصاد السياسي نشأ ليخل بهذا التوازن. لا يوجد منتج اقتصادي في العالم كله بلا استثناء يفكر بالتوازن أو بـ"إخوانه" من بني البشر. دائماً يفكر كيف يخل بهذا التوازن ليتحكم بالطبيعة وبالناس معاً، وليكون سيداً بسلطة شمولية.‏

من هنا بدأ الإخلال بالتوازن. وهذا الإخلال شمولي، أي لا يقتصر على علاقة الإنسان بالطبيعة وإنما يمتد إلى العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان ونفسه. والأدب هو الوحيد الذي ظهر قبل الإخلال بالتوازن فاكتسب النظرة الحقيقية لضرورة خلق التوازن أو استعادته. وهذا هو قانونه الأولي وهاديه الأوحد. إنه تعرية الملكية، الشجرة الشيطانية التي في كل غصن تُنبتُ ناب أفعى. فلا عجب والحالة هذه إذا وصف الأدب أنه فوضوي أو أنه دائماً ضد الأنظمة القائمة أو أنه يميل إلى التمرد.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:24 pm

وهذه ناحية علينا أن ننتبه إليها، وهي أن الأدب، من بين كل تلك العلوم لا يملك برنامجاً سياسياً ليحل سلطة محل سلطة. وهو ليس اقتصاداً سياسياً يقوم على الملكية. إنه يسعى إلى إعادة التوازن أو خلق توازن جديد، فالحياة في هذا المسرى الجاري لا يمكن أن تطاق. ففي كل يوم اقتتال وانفجارات سياسية وانهيارات اقتصادية. إن الاقتصاد السياسي منذ أن نشأ هو عبارة عن سيناريو للصراع والحيازة. أما الأدب فهو سيناريو التوازن.‏

من هنا كان استهداف الأدب محدداً، وهو تعرية كل ما أخلّ أو يخلّ بهذا التوازن المنشود في كل الأصعدة. فعندما يرى العلم مدمراً يقف في وجهه وعندما يرى السلطة طاغية يقف ضدها، وعندما يرى الاقتصاد منحرفاً يفضحه وعندما يرى العلاقات الاجتماعية شائهة يهاجمها. فمن الطبيعي جداً أن يتهم بالتمرد والفوضوية.‏

ولكن كيف يعيد المنتج الأدبي التوازن؟ كيف يقيم وهو المغلوب على أمره، قاعدة التوازن بعد كل هذا التاريخ القائم على الملكية السرطانية الجشعة؟ إن كل ما يعرفه هو أن ما يجري يخل بالتوازن ولكنه لا يعرف الخطوات العملية لذلك، وحتى لو عرفها فإنه أعجز من أن ينفذها، إنه يعرف مسبقاً أنه يخوض معركة خاسرة، ومع ذلك لا يتراجع، فأخلاقه لا تسمح له بذلك، فهو مثل يوسف العظمة... يعرف أنه هالك ويقتحم، وأنه مدحور ويقدم، وأنه ميت، فيعلن سلفاً ورقة نعوته. ولهذا السبب يبدو مضحكاً، كشخصية المهرج، ينطق بالحقيقة مثل كاسندرا ، ولكن لا أحد يصغي إليه ولا أحد يؤمن بنبوءاته المتشائمة والمدمرة. إنه مثل عراف شكسبير يحدس بالكارثة ولكنه لا يعرف كيف يتجنبها، وموقف الناس من المنتج الأدبي يشبه موقف يوليوس قيصر من هذا العراف. قال له: ها قد جاء الخامس عشر من شهر آذار، فيجيب العراف: نعم لقد جاء ولكنه لم ينته بعد. ويدخل قيصر إلى مجلس الشيوخ ولكنه يخرج منه جثة هامدة. وبدلاً من أن يكون مقتل قيصر حلاً للمشكلة، يصبح بداية لمشكلة جديدة أعقد وأخطر من كل المشكلات السابقة، بل أن مقتله كان نذيراً بكارثة جديدة.‏

والمنتج الأدبي يرى بحدسه أن الحلول التي تجري أمامه لمشكلات الملكية السرطانية ما هي سوى نذير للكارثة الجديدة، فلا هو يعرف الحل ولا هو قادر على تجنب الكارثة. وينشغل الناس بالكارثة الجديدة، ويسعون إلى حل الماديات بالماديات فينسون تلك البضاعة التي يطرحها أمامهم مجاناً. إنهم لا يؤمنون أن الماديات يمكن أن تعالج بالمعنويات، ولذلك كانت مشكلاتهم أشبه بالقنابل الانشطارية التي لا تعرف التوقف أبداً. ومع أن بذرة الشر عنيدة وراسخة، إلا أن المنتج الأدبي يظل أشد عناداً بكثير.‏

لا غرابة إذا بدا المنتج الأدبي غريباً شاذاً خيالياً مجنوناً مخرفاً في نظر معاصريه. إنهم لا يعرفون قيمة انتاجه إلا بعد رحيله بزمن طويل. ومع تقديرهم لهذا الإنتاج يتابعون مسيرتهم السخيفة محولين آثار المنتج الأدبي إلى مادة للتسلية. وهم بذلك يحسنون ويسيئون في الوقت ذاته. إنهم يحسنون عندما يقرون بقيمة هذه الآثار، لكنهم يسيئون عندما يتسلون بها من جهة، وعندما ينسون معاصريهم من المنتجين الأدبيين من جهة ثانية. وفي المعاصرة دائماً شيء من التجاهل. ولولا ذلك لكان تأثير الأدب فورياً. فالأدب في ظل الملكية السرطانية حاجة مرجأة دائماً، علينا أن ننتظر ردحاً طويلاً حتى نشعر بأننا كنا في حاجة إليها.‏

هنا نصل إلى الوجه الآخر من المنتج الأدبي وهو أنه هو نفسه خاضع لتأثيرات هذا السرطان الذي يسمى الملكية التي لا تعرف القناعة التي ينادي بها الأدب، القناعة التي تساعد على إعادة التوازن. وخير دليل على خضوعه لتأثيرات هذا التاريخ الطويل الشائه للملكية هو انتقاله عموماً من الشعر إلى النثر. ومن هذا الباب تأخذ قصيدة النثر شرعيّتها. إن تاريخ الملكية هو تاريخ الصراع بين الشعر والنثر. فالمنتج الأدبي قديماً لم يكن ينتج بضاعة نثرية. كان الأدب شعراً فقط سواء اتخذ شكل الملحمة أو شكل المسرحية أو شكل القصيدة. إلا أن الملكية خلقت -بحكم طبيعتها الجشعة- وتيرة متسارعة للزمن. صار زمناً عاصفاً لا يستطيع الشعر ملاحقته. صار زمناً نثرياً. لقد وضعتنا الحياة -بسبب هذه الملكية السرطانية- في موقف نثري جارف. لم نعد قادرين أن نتريث قليلاً للتمتع بحديقة أو نهر أو غابة أو جبل. لم نعد نتمتع بما حولنا بعد كل هذه التطورات المخيفة. المصير هو ما يشغل بالنا، إلى أين تسير البشرية في هذا الطريق المشؤوم؟... إلى المزيد من التطاحن والاقتتال. إن مظاهر الجمال قائمة حولنا. إنها موجودة في الواقع، ولكنها غير موجودة في حس المنتج الأدبي الذي شغلته مسألة المصير البشري.‏

يمكن تلخيص تاريخ البشرية بأنه تاريخ الانتقال من الحس الجمالي إلى الشهوة الذئبية، من الإنسانية إلى الحيوانية، من الشعر إلى النثر. ومهمة النثر في هذه الأيام هي ملاحقة سرعة الشهوة الذئبية لا الاستسلام لها. إنه سلاح جديد وفعال أكثر من الشعر المتراخي الجميل. إنه سلاح أسرع وأقوى وأدق، وهو يثبت جدواه أكثر فأكثر.‏

لم يظهر النثر الأدبي بظهور ملكية القناعة بل بظهور ملكية الشراهة. وكان لابد أن يظهر ليستطيع مجاراة السرعة التي فرضتها الملكية. وكلما ازدادت الملكية شراهة ازداد الإنتاج النثري شراسة... وهل هناك ما يليق بالشراهة غير الشراسة؟ إن قصيدة النثر هي أروع ما أبدعه المنتج الأدبي في هذا العصر الزنخ الذي ماتت فيه الحاسة الجمالية، والذي صار بحاجة إلى شتيمة ورثاء، لا إلى التسلية والغناء.‏

كان المنتج الأدبي يقدم في إنتاجه بارقة من جمال أو ملمحاً من أمل. ولكن الرؤى السوداء أطبقت عليه من كل جانب, فرصد بدايات الكارثة ومظاهرها الشمولية. ومنذ عشرين عاماً نشرنا بحثاً ربطنا فيه بين الشعر السوري والرؤى السوداء. وقد ظن بعضهم أن هذه الخصيصة لا وجود لها إلا في الشعر السوري. ولإزالة هذا الظن يكفي أن يطلع القاريء على كل آداب العالم ويتساءل:‏



لماذا تحول الأدب العالمي في معظمه إلى النثر؟‏

لماذا سادت فيه الرؤى السوداء وانعدمت أي بارقة أمل؟‏

لماذا تتضاءل مساحة الإنتاج الأدبي في كل وسائل الإعلام؟‏

لماذا لم يعد المنتج الأدبي متمتعاً بالمكانة التي كانت له قديماً؟‏

لماذا ينظرون إلى المنتج الأدبي على أنه بهلول مسكين لا يصغي إليه أحد؟‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:24 pm

قطار من اللماذات يمكن أن يضعها القاريء أمامه. وليس من سبب سوى الملكية السرطانية والابتعاد عن القناعة. ففي الوقت الذي يتفاخر المالكون بحيازتهم للقنابل والصواريخ، وبأن هذه الحيازة خطوة رفيعة من التطور والتقدم يرى المنتج الأدبي في ذلك كارثة محققة.‏

ومثل هذه الحيازة الشرهة الشريرة لا تنطبق فقط على أدوات القتل والتدمير الشاملة، بل تنطبق على أبسط أنواع الملكية الشيطانية .فحتى امتلاك خمسة أزواج من الأحذية يعتبر كارثة. إن أي تخط لملكية القناعة الملبية للضرورة يعتبر إسهاماً في صنع الكارثة. وربما قال القاريء في نفسه: ما همني إذا امتلك غيري العالم كله، مادمت مكتفياً بما لدي؟ وحبذا لو كان الأمر كما يتوهم. إن سرطان الملكية لا يحترم خلايا البدن النظامية، فهو يهاجمها باستمرار، وهو لا يملك سوى هذه الصرخة التي أسمها الأدب... لا هي تشبع، ولا هو يكف عن الصراخ.‏

وحتى يقف القاريء على التحولات العاصفة التي أشرنا إليها إشارة ولم نقف عندها، سنكرر عليه ما يعرفه من ملحمة هوميروس "الأوديسة" وهو عبارة عن مقطع في الكتاب الثاني والعشرين، بل هو من المقاطع الأخيرة التي يمكن الرجوع إليها بسهولة بالغة جداً. والمقطع يصور لنا خواتيم المقتلة التي أوقعها أوليس بأعدائه وخطاب زوجته بنيلوبي. فبعد هذه الوقيعة لا يبقى حياً في القاعة الكبيرة إلا ثلاثة وهم ميدون الذي شهد تليماخوس، الابن البطل لأوليسن بأنه بريء فعفا أوليس عنه، وليوديس الكاهن، وفيميوس الشاعر المغني.‏

يتضرع ليوديس طالباً العفو، زاعماً أنه أرغم على المجيء إلى القصر إرغاماً. وعندما وصل راح ينصح خطّاب بنيلوبي، ليكفوا عن مضايقتهم. يجيبه أوليس بأنه يكذب فيما يزعم، فمادام كاهنهم فلا شك أنه خادمهم، يرفع صلاته من أجل ألا يعود أوليس أبداً وليس من أجل أن يعود. ثم يشهر سيفه ويضرب عنق هذا الكاهن الدجال فيتدحرج رأسه وهو مايزال يتكلم.‏

هذا هو مصير الكاهن في الأوديسة، فماذا كان مصير الشاعر؟‏

كان فيميوس يمسك قيثارته ويتوارى قرب باب القاعة. فلما رأى مصير الكاهن رمى قيثارته على أرض القاعة بين الأحشاء المختلطة وركع أمام أوليس وزعم له أنه شاعر ينطق بوحي المحبة، لكنه أرغم على المجيء إلى هذا القصر إرغاماً، فقد كانوا الأكثر والأقوى، ولا حيلة له في التخلص منهم، فصدح لهم بصوت الخير وأغاني المحبة، لكنهم كانوا أشراراً.‏

ويشهد تليماخوس بذلك، فيعفو عن صوت المحبة والصدق، ولا لوم إذا أرغم على المثول أمام من لا يستحقون أن يمثل أمامهم شاعر أو فنان.‏

في الأوديسة يقدم أوليس على قتل الكاهن لأنه كذوب مرائي، ويعفو عن الشاعر لأنه صادق. ولا قيمة لإنشاده أمام من لا يستحق من المفسدين. وهذه، كما يعرف القاريء ليست نظرة البطل في الشاعر، بل إنها نظرة المجتمع على لسان هذا البطل. فماذا نجد اليوم؟‏

عشرات الفيموسيين يقتلون على يد الكهنة أو على يد السلطة المتخاصمة مع هؤلاء الكهنة. قد يبدو الأمر غريباً جداً. الفيموسيون لا ينتمون للسلطة، كما أنهم لا ينتمون إلى الكهان. ومع ذلك يقتلون -بطرائق مختلفة- من قبل الطرفين. حتى أن منتجاً أدبياً كبيراً تجاوز الثمانين من عمره يطعن في عنقه، مع أنه لم ينتم طيلة حياته إلى أي فئة سلطوية أو سياسية أو معارضة أو دينية. أليس هذا غريباً؟.. إنه نجيب محفوظ.‏

قد يبدو ذلك غريباً جداً للوهلة الأولى. تفسيرات عديدة قرأناها. منها أن هؤلاء الكهنة المزيفون لا يريدون من وراء ذلك سوى إظهار ضعف السلطة -كأن هذا المنتج من السلطة- والحط من هيبتها. ومنها ان هذا المبدع عنيد لا يلزم الصمت، وكان قد حذر بأن يلزم الصمت على الأقل، ومنها أن هذه الطعنة هي رسالة تخويف للناس، ومنها أنها تحدث ضجة إعلامية... تفسيرات كثيرة يمكن أن نعثر عليها. لكن الحقيقة أن الطرفين -بحكم طبيعتهما- لا يرغبان في وجود هذا المنتج الأدبي وأمثاله من الفيموسيين، لأن وجوده يشكل -على المدى الطويل- خطراً كبيراً على وجودهما. وجوده يعني لا سلطة ولا كهانة. كيف؟ وهل يمكن أن يكون هناك وجود من دون سلطة, أو أن يكون هناك بشر من دون كهانة؟... يا للكفر. إنهم لا يتصورون ذلك أبداً، ولذلك يقومون بما يجب أن يقوموا به انسجاماً مع طبيعتهم. ولهذا السبب فإننا لا نعجب لما يجري. إن المنتج الأدبي هو منبع الخطر الدائم والقوي، فلا بد من الإجهاز على هذا المنتج حتى لا يظهر إنتاج يطالب بحياة متوازنة سليمة لا جشع فيها, لا سلطة ولاكهانة.‏

إنهم محقون في مسعاهم الشائن هذا, لأنهم يعرفون تماماً من أين تهب الرياح العاصفة التي تحمل سيف أوليس هدية لأعناقهم. إنهم يعرفون ماذا يفعلون.‏

ليس غريباً أن يكون المنتج الأدبي، بعد كل هذه العصور من الملكية السرطانية منبوذاً ومهدداً في وجوده في كل حين وفي كل مكان يستشري فيه سرطان الملكية، أي السلطة والكهانة. والأمن لا يعرفه إلا المنتج الأدبي الأشوه الذي قد ينحاز هنا أو هناك، إلى هذا الطرف أو ذاك. أما المنتج الحقيقي فعليه أن يعيش باستمرار تحت رحمة سيف ديموكليس. هذا هو تاريخه منذ ظهور الملكية المسرطنة... هذا هو قدره الذي رسمته له هذه الملكية.‏

ولا يعني هذا أن المنتج الأدبي زاهد في السلطة مترفع عن الملكية. لا أبداً بل إنه دائماً يهفو إلى السلطة ويتشوق إلى الملكية. لكن أي سلطة وأي ملكية؟ إنها سلطة المحبة وملكية القناعة. ولهذا السبب كان سلاحه معنوياً، ومعنوياً فقط، فهو أبعد الناس عن القتل والمكيدة والمحايلة والزيف والنفاق.‏

وهذا شيء طبيعي. فسلطة المحبة لا تفرضها السيوف وملكية القناعة لا تحميها الأسلاك. ولكن المحبة والقناعة سلاحان من أفتك الأسلحة بالاقتصاد السياسي الشيطاني الذي جر كل هذه الويلات. من منا يستطيع أن يتصور اقتصاداً سياسياً يقوم على المحبة أو ينطلق من القناعة؟... وإذا قام عليهما فهل يحق لنا أن نسميه اقتصاداً سياسياً؟... لو فعل -ولن يفعل- لتحول إلى اقتصاد أدبي يعيد التوازن بعيداً عن حلبات المنافسة والاقتتال حيث الأبرياء وحدهم يدفعون ضريبة الفقر والجوع والدم.‏

في كل المجالات يقف الاقتصاد الأدبي ضد الاقتصاد السياسي: وهذا واضح من طبيعة كل منهما فالسياسي يعني تماماً الملكية السرطانية والأدبي يعني دائماً ملكية القناعة وسلطة المحبة ومملكة التسامح، وهي المباديء التي ظهرت في آثار دستويفسكي خير ظهور، وقدمت ما يشبه البيان، بما يجب أن تكون عليه سياسة الاقتصاد الأدبي، ولا سياسة غيرها يمكن أن تصلح للمنتج الأدبي، أو حتى يمكن أن تكون حافزاً له على الكتابة في المستوى المنشود، منذ أن كان هناك أدب وحتى آخر الدهر.‏

والمنتج الأدبي -بالتالي- يقف في كل المجالات على الطرف المقابل للمنتج الاقتصادي. فتاريخ الأدب المكتوب لم يعرف إطلاقاً منتجاً أدبياً أنتج بقصد الربح. المنتج يفكر فيما ينتج: كيف يكون جميلاً رائعاً مشوقاً ويتخيل الناس وقد اطلعوا على ما كتب فأكرموه بالاحترام فقط ولا شيء آخر، وهو راض ومسرور لمثل هذا التكريم. أما المنتج الاقتصادي فلا يفكر إلا في غناه وإفقار الآخرين. أول شيء يفكر فيه هو الجيوب، والشيء الثاني هو وصل قناة بين جيوبهم وجيوبه بحيث تتدفق الأموال بأسرع ما يمكن، والشيء الثالث هو الغش من أجل المزيد من تراكم الأموال في جيوبه وصناديقه.‏

المنتج الأدبي لا يفكر إلا بالمستهلك المثالي. يتمنى أن يقدم انتاجاً رائعاً ليكافأ بإكرام معنوي من قاريء مثالي. أما المنتج الاقتصادي فإنه يفكر في سن المستهلك... كيف يخدع هذا الغلام بلعبة من البلاستيك الرخيص وكيف يستدرج هذا الشيخ إلى حذاء مغشوش يوهمه أنه يشفي روماتيزم القدمين، وكيف يحتال على المرأة السخيفة بإقناعها أن هذا المعطف يجعلها تبدو جد نحيفة. إن هذا المستهلك يختلف كل الاختلاف عن المستهلك الأدبي، فشتان ما بينهما، شتان ما بين مستهلك مثالي يهفو إلى القيم المعنوية، وبين مستهلك اقتصادي لولا بلادته وغباؤه لما استطاع المنتج الاقتصادي ترويج بضاعته، وشتان ما بين بضاعة شبه مجانية تخاطب الوداعة والذكاء، وبين بضاعة باهظة، لم يرتفع سعرها إلا بسبب الغباء، فيا للمفارقة: بضاعة يروجها الغباء والبلادة والنزوع الحيواني والغرور... وبضاعة لا تروج إلا بالذكاء والحساسية والرهافة والنزوع الإنساني والقناعة والتواضع، لكن هذا موضوع آخر يحتاج إلى وقفة متأنية. أما الآن فلابد من متابعة المشوار مع هذا المنتج الأدبي المسكين ونناقش أبرز التهم الموجهة إليه.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:25 pm

الفصل العاشر
لم يتلق أحد من الاتهامات ما تلقاه المنتج الأدبي، وكلها اتهامات تدل على أنه مخلوق غير سوي، يختلف عن بقية الجنس البشري اختلافاً كاملاً، فكأنه مبتوت عن بني جنسه لا يشترك معهم إلا في الكتلة الجسدية التي تدب على أرض مشتركة فقط، وكل ما سوى ذلك يختلف فيه عنهم، فهو متهم في درجة أن نومه وقيامه وشرابه وطعامه وحضوره ومجلسه وتصرفاته وملبسه لها طابع خاص يختلف عن بقية أفراد جنسه الميمون المتزن الرزين، العاقل الحكيم، العامل الناجح، المتطور المتقدم.. إلى آخر ما هنالك من صفات لا أساس لها من الصحة يضفونها على أنفسهم. إن المنتج الأدبي مثله مثل غيره من المنتجين الفنيين، ينظر إليه كأنه من بقايا الكائنات المنقرضة: أو كأنه شامان من الشامانات الذين انصرم عصرهم ولكنهم يمارسون الطقوس السحرية، فيتعرضون للسخرية الخفية دائماً والصريحة في بعض الأحيان.‏

كثيرة هي المصادر التي تفبرك هذه الاتهامات. فهناك الصناع والتجار والمقاولون والأثرياء ورجال الأعمال... كل أولئك الذين سقطوا في مستنقع الشيطان، في مستنقع الملكية السرطانية التي لا تعرف حدّاً، والتي تتحرك مثل عربات الجيش الفارسي بشفرات طويلة مركبة في عجلاتها تقطع كل ما تصادفه على الجانبين.. ووجهة نظر هذه الفئات بسيطة وواضحة ومنطقية بالنسبة إليهم. إنهم يرون المنتج الأدبي شاذاً كل الشذوذ، وهل هناك شذوذ أشد من انحراف هذا المخلوق عن "الطريق القويم"؟ ...بالطبع يقصدون بالطريق القويم الانكباب على التملك والمغامرة بالروح من أجل الحيازة، لا لنقص في الحاجات، بل لمزيد من بسط السيطرة وإقامة مملكة يتوهمون أنها تجلب لهم السعادة. إنهم لا يتورعون عن الغش والاحتيال والنفاق... نعم وإلا فكيف يغتنون بمدة أقصر من عمر دودة القز؟... لن ندخل في عالمهم لأن جرائمهم أكثر من أن تعد. لقد أنفق بلزاك عمره وهو يسجل هذه الجرائم ومات الرجل ولم ينه مهمته ولم يشف غليله.‏

سلوك هؤلاء هو السلوك الصحيح في رأيهم فمن البديهي أن يروا في المنتج الأدبي بهلولاً لا يمت إلى المجتمع إلا بصلات واهية. وهؤلاء هم موضوع الاقتصاد السياسي، فيدرس إنتاجهم ويرشدهم إلى أنجع الطرق التي تمكنهم من الإنتاج والسيطرة، سواء كانوا أفراداً أو شركات أو مجموعة شركات أو دولة أو مجموعة دول (أقليما) أو دول العالم (النظام العالمي الجديد). فعلاً نحن أمام الجريمة المهزلة. وكلما أحرز هؤلاء تطوراً وتقدماً خوت الحياة الروحية وأجبر الناس على حياة القهر والخواء، حياة "الرجال الجوف" على حد تعبير إليوت. ومادامت هذه الحياة هي القاعدة في نظرهم، فلا غرابة إذا بدا لهم المنتج الأدبي "حالة شاذة" كما يريد أن يثبت ذلك الاقتصاد السياسي العتيد.‏

قد تختلف نظرة الطبقات الشعبية إلى المنتج الأدبي قليلاً عن هذه النظرة، فهم يرون فيه ذلك "المسكين" الذي أهمل شؤونه من أجل إرضاء هوايته. إنهم يحترمونه ويعطفون عليه، ولكن كما يحترمون شخصية "المبروك" ويعطفون عليه. والمبروك شخصية تظهر في الأوساط الشعبية بثياب اعتباطية ونظرة حائرة وعدم انتظام في روتين الحياة اليومية. يتمتم هذا المبروك بكلمات غير مفهومة وبعبارات من أمثال "وحدوه" أو "وحده الحي القيوم" فيدخل الخشية إلى نفوسهم فإذا أحرزوا ربحاً أكثر فبسبب زيارته، وإذا أصابتهم مصيبة ظنوا أنه كان ينبههم إليها ولكنهم لم يستطيعوا أن يفكوا رموز كلامه. ولكن هذه النظرة مهما كانت مختلفة فإنها تصب في نظرة طبقة رجال الأعمال والتجار وهي أن هذا المنتج الأدبي يمثل "حالة شاذة" كان الله بعونه على هبله.‏

ومثل هذه النظرة لا تقتصر على هؤلاء، بل تمتد للأسف إلى أولئك الكتاب المفكرين وحتى بعض الأدباء والشعراء. ولو رحنا نعرض آراء هؤلاء الكتاب لما انتهينا، لا لكثرتهم بل لآرائهم المتطرفة. وفي كل عصر كان ثمة من ينظر إلى المنتج الأدبي على أنه حالة شاذة. وقد يظن القاريء أن هؤلاء المفكرين هم من أصحاب المذهب الواقعي العملي الذين يرون أن المنتج لا يفعل شيئاً سوى القيام برحلة خيالية يعود بعدها ليقدم سلعة كاسدة لا يأبه بها أحد، وبالتالي لا تعود عليه بفائدة.‏

لا إن الأمر أبعد من ذلك، والذين اتخذوا هذا الموقف لم يكونوا جميعاً من المذهب الواقعي العملي، بل إن بعضهم كان من المذهب المثالي. فإذا كان سدني هوك براغماتياً يسخر من الأدب والأدباء ويرى أن الشعر لا يخرج عن نوع من ألغاز التسلية والكلمات المتقاطعة التي نزجي بها ساعات الفراغ فماذا نقول بأفلاطون المثالي المغرق في مثاليته، الذي أبى أن يجعل للمنتجين الأدبيين دوراً في جمهوريته. فأنت ترى أن هذه النظرة إلى المنتج الأدبي تمتد بعيداً في الزمن وفي إنماط التفكير من أفلاطون وحتى سدني هوك زعيم البراغماتية العملية، ومن المفكرين من أمثال جون ديوى وحتى الشعراء من أمثال توماس بيكوك، بل إن بعض علماء النفس اتخذوا موقفاً مماثلاً كسيغموند فرويد.‏

وبالمقابل فإن المدافعين أكثر بكثير من المهاجمين في ميدان الكتابة، فمنذ أرسطو الذي دافع عن الأدب والمنتج الأدبي وحتى شلي وسدني وغويو وديهاميل... وحتى الوقت الحالي، نجد كثرة من المفكرين والأدباء يدافعون عن الأدب والمنتج الأدبي بحماسة بالغة. وكم يكون عظيماً لو جمعت الكتب المهاجمة والكتب المدافعة في مجلد واحد أو مجلدين ولكن من يستطيع أن يقنع ناشراً من الناشرين بجدوى هذا المشروع الإنتاجي الكبير، ومن يغامر فينفق الشهور والسنوات في ترجمة هذه الكتب، التي تتحول إلى قماطير توضع على الرفوف أو في الزوايا، فلا من مشجع ولا من معين في عصر الاقتصاد السياسي؟‏

لن نكرر هنا ما خاض به هؤلاء من هجومات ودفوعات، كما أننا لن نحصي الاتهامات التي تمتد إلى الرواسب التي تركها الاقتصاد السياسي في النفوس: والغرض من هذا الاختيار هو التهرب من التطويل ليس أكثر، لذلك اخترنا مجموعات من المجال الاجتماعي فالاقتصادي فالبراغماتي فالنفسي، وسوف نعرضها بسرعة خاطفة:‏

المنتج الأدبي والمجتمع:‏

يتعرض المنتج الأدبي لحملة شديدة فيما يخص علاقته بالمجتمع، فكأنه دخيل عليه غريب عنه لا يعرف من شؤونه شيئاً. وتمتاز هذه الحملة التشهيرية بالسخرية، فهم دائماً يسخرون من الشعراء والأدباء بأنهم أفشل الناس في المجتمع، بل إنهم أعجز من أن يضعوا نظاماً حتى لمنزلهم، لا بل إنهم هم أنفسهم لا يعرفون نظاماً لأنفسهم، فلا وقت للنوم ولا وقت لليقظة ، ولا تنظيم لوجبات الطعام ولا اهتمام بتدريس الأولاد والإشراف عليهم، إن كان ثمة أولاد... باختصار كل شيء مضطرب، فهو مهمل في جلسته ومشيته واستقباله وتوديعه... مهمل في كل شيء تقريباً سوى شيء واحد فقط يظل متنبهاً له يحمله معه أينما ذهب، وهو انتاجه الأدبي الذي سوف نقف عنده في بحث لاحق.‏

معظم الناس يصفونه بالشرود، إلا أن بعضهم يصفه بنقص أبسط المعارف العملية، فقدسها أحدهم مرة فقال هازئاً أن جاره ينتج القصيدة بعد القصيدة، ولكنه لم يعرف كيف يضمد جرح ابنه الصغير، ولو لم تستدع زوجته الطبيب لما توقف النزيف.‏

إلى جانب النقص المعرفي العملي، يوجهون إليه تهمة الإهمال وقلة الاكتراث بما يجري حوله ابتداء من منزله وحتى أكبر دولة في العالم، فقد يتحدث كثيراً عما يجب أن يكون، لكنه لا يستطيع أن يتقدم خطوة واحدة في سبيل تحقيق ذلك.‏

وبالفعل فلو شكلنا وزارة من شعرائنا وكتابنا وسلمناها شؤون الإدارة والتنظيم في الولايات المتحدة لانهارت بأسرع مما انهار الاتحاد السوفياتي. لن أذكر اسماء عربية ولكن تصوروا مثلاً بودلير في منصب وزير الشؤون الاجتماعية، أو نيتشة في منصب وزير الصحة أو ادغار آلن بو في منصب وزير الحربية... إنه شيء مضحك جداً. ولذلك فإن الأدباء الذين شاركوا في السلطة السياسية أو الاجتماعية هم من القلة بحيث لم يأبه بهم أحد. إن المناصب التي يجيدون العمل فيها هي في المجال الثقافي فقط أما ما سوى ذلك فلا خبز لهم فيه لأن الفشل سيكون من نصيبهم حتماً.‏

وكنا قد أشرنا من قبل إلى أن الملكية فعلت فعلها في بعض المنتجين فانجرفوا وراء أصحاب السلطة أو أصحاب النفوذ أو اصحاب الملكيات والثروات الكبيرة. فكأن ثمة عقداً بين الطرفين على تبادل السلع: القيم المادية مقابل القيم المعنوية. ومثل هذا النوع من المنتجين الأدبيين صار في هذه الأيام ضئيل العدد جداً. والتهمة الموجهة إلى هؤلاء هي أنهم ينافقون إذ لا علاقة بين الشعر والملكية، لا من قريب ولا من بعيد، بل إن هناك علاقة مخاصمة وصراع أبدي ولكن لننظر عن كثب في هذا الشعر الذي أخرجناه من دائرة الانتاج الأدبي الحقيقي لأنه مخالف للوظيفة الأساسية المعادية للملكية.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:26 pm

شك أن إضفاء القيم المعنوية على المالك يعني أن ثمة صفقة بين الطرفين. ولكن من باب آخر لو نظرنا جيداً في هذا الشعر لرأينا أنه يندرج ضمن تقليد أدبي عريق وهو تأديب الواقع، أي الارتفاع من الواقع كما هو إلى الواقع الأدبي، من السمات القبيحة إلى السمات الجميلة، من مادية العلاقة إلى معنوياتها... فالإنتاج الأدبي مضطر أن يكون جمالياً فلا يشيع بين الناس العلاقات المادية الشائهة. إن المتنبي الذي مدح حاكم مصر كان يخاطبه بما يجب أن يكون عليه الحاكم الصالح، وعندما هجاه كان يرسم معالم الحاكم الشيطاني، وفي هذه النقطة بالذات تكمن أخلاقية الأدب الجمالية.‏

وفي هذه النقطة بالذات علينا أن نميز بين المنتج الأدبي والإنتاج الأدبي في علاقتهما بالمجتمع. فقد يهفو المنتج إلى الثروة نتيجة الظروف التي فرضتها الملكية السرطانية، ولكن الانتاج الأدبي لا يمكن أن يؤيد الثروة أو يجمل الملكية أو يدافع عن السلطة. إنها نقطة في غاية الأهمية، فمعظم الذين كتبوا في هذا المجال من أمثال إسحق دويتشر وبنديتو كروتشه وشارل لالو لا يفصلون بين المنتج والانتاج ويجعلون تفاعل المنتج مع الظواهر الاجتماعية هو ذاته تفاعل الانتاج الأدبي. ولا نظن أن مثل هذا الطرح يستقيم دائماً، إذ ليس من الضروري أن ينسجم المنتج مع إنتاجه. لقد كان دستويفسكي يقامر بشغف يشبه الهواية، ولكن انتاجه كان إدانة كبيرة للقمار. وبلزاك كان في إنتاجه يدين التهالك المضني على العمل سعياً وراء الثروة، ولكنه هو نفسه أنجز لإحدى الصحف رواية ضخمة في غضون شهر واحد فقط، بل أقل من شهر على ذمة بودلير، الذي ابدى إعجابه بهذا الإنتاج.‏

والخلاصة في علاقة المنتج والإنتاج بالمجتمع هو أن علاقة المنتج تخضع لكثير من المتغيرات والتذبذبات أما علاقة الإنتاج فإنها ثابتة ومعروفة مسبقاً قبل أن تتجلى مادياً. وهذه المعرفة تقدمها لنا الأخلاق الأدبية، فنحن نعرف أن المبتكرات الحديثة التي هلل لها الاقتصاد السياسي واعتبرها خطوة متقدمة جداً، خضعت لانتقادات الانتاج الأدبي، وهذه المعرفة نشعر بها بعد ظهور المبتكرات وقبل ظهور الانتاج الأدبي. إن الأخلاق الأدبية هي التي تجعلنا قادرين على التنبؤ بموقف الأدب من أي ظاهرة. نقول الأخلاق الأدبية. لا شك أنها ليست أخلاق الملكية السرطانية وإنما هي الأخلاق المثالية، الأخلاق الرفيعة، أخلاق ملكية القناعة ومملكة المحبة والفرح، ولذلك كنا نعرف سلفاً الموقف الأدبي في الخمسينات من الصواريخ الجبارة والأقمار الصناعية. إن الأدب يقف موقفاً مناقضاً لموقف الإعلام كل المناقضة، وإن استخدم الإعلام شعارات الأدب لتغطية هذه الظواهر المرفوضة، فهو يزعم أن الصاروخ لصيانة السلم، وإن آلات الدمار لخدمة المواطن...‏

إن الموقف الأدبي يفرض نفسه حتى على أولئك الذين يعملون بعكسه. إنهم لا يستطيعون الإفصاح عن غاياتهم الأصلية، فغالباً ما يلجؤون إلى تغطية موقفهم بموقف أدبي. ومن هنا كان الموقف الأدبي ثابتاً عبر التاريخ. إنه الموقف الرافض لكل التشويهات التي خلقتها الملكية السرطانية، ولكل أطروحات الاقتصاد السياسي.‏

هذه صورة مجملة لعلاقة المنتج الأدبي بالمجتمع، وإلا فإن الكلام حول هذه العلاقة كثير جداً على الرغم من كل ما نجده بين أيدينا من مؤلفات ضخمة جداً وكثيرة جداً، تعالج هذا الموضوع.‏

المنتج الأدبي والمنتج الاقتصادي (البراغماتي):‏

بما أن القيم المادية هي القيم السائدة، فلا غرابة إذا احتل المنتج الاقتصادي المكانة الأولى في المجتمع منذ ظهور الملكية السرطانية وحتى هذه الساعة، بل حتى قيام الساعة إن لم يتغير مجرى الاقتصاد السياسي، وإن لم تقم سلطة أدبية تنفيذية تضع حداً لهذه الكوميدا الإنسانية الدامعة، على حد تعبير أو نوريه دي بلزاك.‏

في ظل هذا الوضع الآثم، لابد أن يتبادل المنتجان: الأدبي والاقتصادي، مواقف العداء الشديد، فالمنتج الاقتصادي ينظر إلى المنتج الأدبي نظرة استخفاف وازدراء لأنه منتج "غير منتج" إنه منتج الأخيلة والإيهامات والخالق لعوالم لا تمت إلى الإنسان بصلة. ليس هذا وحسب، بل إنه يعتبر منتج "الكسل" وأخشى ما يخشاه المنتج الاقتصادي أن يرى كتاباً أدبياً بيد وريث ثروته أو ملكيته التي يخاف على هدرها حتى بعد موته، وبما أنه يعده ليكون تثمراً ناجحاً، وحتى أنجح منه (أي أشد فتكاً بالعباد منه) فإنه يشجعه على قراءة الكتب العلمية والاختراعات ويحثه على قراءة كتب الاقتصاد السياسي بالدرجة الأولى... إنه يعلمه صناعة الذبح بجدارة. وحتى عندما يدرس ابنه الطب فإنه يسرع إلى توظيف الأموال الطائلة بإنشاء مشفى بكادرات "متطورة" من أجل زيادة وتيرة الأرباح.‏

المنتج الاقتصادي يفكر دائماً بتفعيل الملكية، منطلقاً من شهوة ذئبية تمتد إلى ما بعد وفاته فعندما يشعر أنه تقدّم في السن، ينكب على رسم سيرورة ملكيته الشيطانية ليس في فترة وريثه المباشر فقط، بل أيضاً في فترة وريث وريثه. إنه تفكير سرطاني لا يعرف حدوداً أبداً. وهو بالضبط التفكير الذي لا يخطر على بال المنتج الأدبي إطلاقاً. وحالما يعرف هذا التفكير طريقه إلى رأس المنتج الأدبي فإنه يكف عن الانتاج الأدبي ويتحول إلى الانتاج المادي ولا يعود إلى ما كان، بل يصبح منتجاً آخر، وينسى كل العمليات الانتاجية السابقة... تذكروا رامبو.‏

يقال في علم الوراثة ان المورثات الجميلة هي الأضعف من بين المورثات، ويطلقون عليها اسم الصبغيات المغلوبة أو المدحورة، وان المورثات الوقحة التي يطلق عليها اسم الصبغيات الغالبة هي الأقوى وهي التي ستكون السائدة في المستقبل، الذي عندئذ سيكون مستقبلاً موحشاً جداً. وقد أثبتت المخابر وحقول التجارب صحة هذا القول. وعلى هذا يكون المنتج الأدبي هو حامل الصبغيات الجميلة التي تعود إلى ملايين السنين، وهي في طريقها إلى الزوال، ولكنها مادامت موجودة فإنها لا تتخلف عن المعركة، مثل أبطال الاسغارد السكندنافيين الذين يعرفون أنهم مغلوبون ولا يتراجعون عن خوض القتال، بل إن آلهة الاسغار (قل الأولمب السكندنافي ) يؤمنون بأن الآلهة الأشرار هم الذين سينتصرون في المعركة الأخيرة، وشجرة الحياة تقرضها أفعى الفناء، فالدمار هو ما ينتظرونه، ولكنهم لا ينتظرونه بتوان وكسل بل يخوضون جميع المعارك المفروضة عليهم بهمة عالية ويبذلون كل ما في وسعهم، لا لينتصروا وإنما لكي يؤجلوا الإنهيار.‏

والمنتج الأدبي يدرك كل الإدراك أن النصر لن يكون لقيمه المعنوية، ويعرف أن السلع المادية المطروحة هي السائدة مهما كانت مغشوشة ومهما كانت مستغلة وشرسة, ولكن النغوليات التي يحملها من قديم الزمان، والتي ورثها من العصر الذهبي الذي لم يكن يعرف ملكية ولا استغلالاً، هي التي تدفعه إلى خوض هذه المعركة الخاسرة. يعرف خاتمته مثل آلهة الاسغارد ويسعى إليها من غير مساومة. أليست هذه هي البطولة الحقيقية؟‏

بلى، اما اقتحام المعركة بأسلحة مادية مذلة وبملكية جبروتية، فلا بطولة فيها، وإن بدت منتفجة وأوهمت الناس بكثرة ضحاياها إنها ذات أهمية. إن المجتمع ينخدع بهذه المظاهر وبعكس القيم، فالناجح اقتصادياً يصبح مرموقاً وإن بلغت ضحاياه الآلاف، بينما يرتمي المنتج الأدبي في الظل مهما كانت القيم التي يدافع عنها رفيعة، وبذلك يغدو المفترس بطلاً بينما الضحية يلفها الصمت والإهمال. إن المنتج الأدبي لا يسعه إلا أن يقول: خذوا كلوا منه هذا هو جسدي الذي يبذل من أجلكم، وخذوا اشربوا منه كلكم فهذا هو دمي الذي يراق لمغفرة الخطايا... إنه قول تردده كل ضحية أمام الأبطال الاقتصاديين الذين يأكلون اللحم ويشربون الدم ولكن من دون مغفرة الخطايا. إنهم أسيادنا وأربابنا الذين تنحني الهامات لهم طوعاً أو كرهاً لأنهم يتربعون فوق هرم كبير من الضحايا البشرية، ناهيك عما أفسدوه من هذه الطبيعة الجميلة التي هي الأم الحقيقية للإنسان.‏

سيكوباتيا النفس:‏

هنا نحن أمام أخطر التهم التي توجه إلى المنتج الأدبي. إنها تهمة الشذوذ النفسي التي وجهتها الفرويديه منذ ظهور زعيمها وحتى أحدث كاتبة فرويدية "سارة كوفمان".‏

وهذه التهمة ثالوثية تتألف من المجد والمال والنساء. فكل منتج أدبي يسعى إلى أن يكون اسمه ممجداً وأن يحوز المال ليتمكن من لعب دور الأب المهيمن، وإن يمتلك النساء إرضاء لنرجسيته، فكأنه مخلوق شائه وشاذ لا يستجيب لروادع الأنا العليا كما يستجيب غيره. ومهما حاول في تصعيده لميوله أن يخفي المنابع البركانية العميقة، فإنه لا يفلح في ذلك أبداً، وإن حاول دائماً أن يخدعنا بموضوع بارز إنساني في أثره الأدبي. إن حقيقة المنتج الأدبي تلتمس فيما لم يفصح عنه جهارة وفيما سقط منه سهواً هنا وهناك. ومن تفكيك الانتاج الأدبي وإعادة تركيبه تحصل على النواة التي حاول المنتج الأدبي إخفاءها، والتي تمردت من خلال هذه الزلات الكتابية. والفرويدية تفعل ذلك تمشياً مع أسلوبها في دراسة الأحلام والهذيان.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:26 pm

لن ندخل مع الفرويدية في مناظرات بوليميكية، لأنها في الحقيقة لم تقتصر على المنتج الأدبي في اتهاماتها، بل تعدته إلى الآخرين. فإذا كان هذا المنتج مريضاً مصاباً بالهستريا حسب رأيها، فإن رجل الدين مصاب في رأيها بالعصاب الوسواسي، وأما الفيلسوف فترى أنه مصاب بالذهان الهذائي، وبذلك تجعل الفرويدية جميع منتجي القيم المعنوية أسرى مرض وعصابات ويحتاجون إلى المعالجة. وإذا رغب القاريء في الاطلاع على مجمل نظرة الفرويدية فما عليه إلا أن يطلع على كتاب سارة كوفمان "طفولة الفن" من ترجمة وجيه الأسعد الذي صدر عن وزارة الثقافة في دمشق عام 1989 فهو كتاب يلخص بدقة وجهة النظر الفرويدية، والاتهامات الموجهة إليها، ثم الرد على هذه الاتهامات.‏

إلى جانب هذه الاتهامات التي وجهتها الفرويدية إلى المنتج الأدبي سوف نضيف تهمة أخرى هي الخمرة باعتبارها تهمة عامة تضم شتات المفكرين والناس العاديين، وسوف نوضح هذه التهم من جهة ونبين مدى واقعيتها أو بهتانها من جهة ثانية.‏

نبدأ بتهمة المجد. والواقع أنها ليست تهمة، بل حقيقة واقعية. وبعيداً عن ميكانيزما النفس التي قدمتها الفرويدية، من الهو وحتى الأنا العليا، نقول إن كل إنسان يسعى إلى المجد. ولو قلنا هنا الخلود بدلاً من المجد لكان أفضل، فالمنتج الأدبي يسعى بكل ما لديه لتحقيق الشهرة الأدبية، أي أنه لا يريد أن يكون ابناً لزمانه وحسب، بل ابناً لكل الأزمان.‏

هذا ما نسلم به ونقره كل الإقرار، ولا سبيل أمامنا لرفضه، لأن الوقائع كلها تشير إليه، إلا أن ما لا نسلم به هنا هو أن يكون هذا المجد، أو هذا الخلود، عند المنتج الأدبي شبيهاً بالمجد الذي يسعى إليه غيره. إنه يختلف كل الاختلاف. ويبدو ذلك واضحاً إذا قارنا بين المجد الذي يسعى إليه المنتج الأدبي والمجد الذي يسعى إليه المنتج الاقتصادي. فالأول مجد معنوي والثاني مجد مادي محض، الأول يطلب المجد من دون ضحايا، والثاني ينشد المجد ولكنه لا يحرزه إلا بالضحايا التي قد تبلغ في بعض الأزمات ملايين الجوعى وآلاف الصرعى، وشتان بين مجد يكون في خدمة الآخرين ومجد يصعد على جثث الآخرين.‏

"مملكتي ليست من هذا العالم" هذا هو لسان حال المنتج الأدبي، إنه لا يؤذي ولا يضر ولا يبتز ولا يستغل ولا ينتهز، ويعطف على المخلوقات، فلا يزعج نملة ولا يحقد على ابن بشر، وباختصار نقول إنه لا يستخدم أي وسيلة من وسائل هذا العالم من أجل بناء مجده وشهرته، بل يستخدم وسيلة وحيدة وهي الانتاج الأدبي المتوهج بالقيم المعنوية والحقائق الوجدانية.‏

إن المنتج الأدبي خارج من حدود هذا العالم في وسائله القذرة، فهو على النقيض من المنتج الاقتصادي المدمر الذي لا يستطيع أن يحرز المجد إلا باستخدام كل الوسائل المادية القذرة التي تستعبد وتستغل وتقتل وتجيع... أشياء وأشياء كثيرة يقترفها المنتج الاقتصادي ويعرفها جيداً الاقتصاد السياسي. أما المنتج الأدبي فإنه لا يملك أي سلاح مادي يستعبد به أو يستغل او يقتل أو يجيع أو غير ذلك من جرائم المنتج الاقتصادي، بل يمكن أن نعكس هذا الكلام فنقول إن أعظم ما يسعى إليه المنتج الأدبي هو كلمة ، أجل كلمة واحدة فقط. لا ترفع حاجبيك وانتظرني لأنهي كلامي.‏

غب سماعك لمقطوعة جميلة، قل لصاحبها إنك شاعر حقاً، وانظر ماذا تفعل به؟ إنك تأسره أسراً وتستعبده استعباداً، فتشعر بتيار جارف من المحبة يصل بينه وبينك. اطلب منه أي خدمة وانظر كيف يلبيها بطيبة خاطر وباندفاع لا مثيل له. لقد حققت له ما كان يطلبه منك صامتاً، فقد اعترفت بشاعريته وهذا غاية مبتغاه، وهذا ما يجعله مستعبداً لكل المعجبين... إنه يشعر بأنه حقق المجد ولكن على حسابه هو لا على حساب غيره، إنه هو الذي يدفع الثمن.‏

جرب بعد ذلك أن تقول للمنتج الاقتصادي أن بضاعتك جيدة وانظر ماذا يحدث؟ سوف يرفع من سعرها، ويقنن من كميتها عليك حتى تظل تابعاً له مسبحاً بحمده شاكراً أريحيته، وإن كذباً ونفاقاً، فإن لم تفعل ذلك حاربك، وإن تمردت قمعك ولاحقك في كل ما يخصك، فهو يريدك تابعاً من النوع المطيع الذي لا ينفك لسانه يسبح بقيمه الرفيعة... إنه يستعبدك، وهذه بداية مجده، أما النهاية فاقرأها في الاقتصاد السياسي عندما يشخّص الأزمات والدمار الذي تجلبه معها لك ولغيرك.‏

ألا ما أبعد الفرق بين مجد ومجد، بين مجد تكلّله أزهار اللوز، ومجد برفيره من دماء الآخرين. أما العصاب بأنواعه المختلفة، الذي جعلته الفرويدية يكمن وراء السعي إلى المجد عن طريق الفن من أمثال دستويفسكي وغوته وجنسن... فأبحاث إشكالية مربكة لا تخص الأدب، الذي يستطيع أن يأتي بعشرات الأمثلة لأدباء تنطبق عليهم المقاييس السوية إن كان ثمة مقاييس للاستواء والحياة السوية. فإذا ذكر دستويفسكي ذكرنا تورغنيف وإذا ذكر أوسكار وايلد ذكرنا تشيخوف وإذا ذكر جنسن ذكرنا تولستوي إنها لأشكالية كبرى في مذهب يقوم على إرجاع كل شيء إلى المقموع الجنسي.‏

***‏

أما مسألة حيازة المال فإننا سنعود إليها في بحوث لاحقة، ولكن لابد من الإلمام سريعاً هنا بموقف المنتج الأدبي من المال الذي لا يحتاج إلى كبير جهد، فالمال والأدب قطبان متصارعان لا يمكن أن يلتقيا إلا إذا دعت الضرورة من باب أن المال شر لابد منه بعد أن وطد الاقتصاد السياسي سمعة واسعة للمال فجعله الركن الأساسي للانتاج.‏

من الممكن أن نذكر أسماء لامعة جداً وكثيرة جداً في الأدب حولت سيرورة حياتها من المال إلى الأدب، فسومرست موم كان طبيباً ناجحاً جرفته حرفة الأدب التي غالباً ما تقترن بالفقر على حد قول أسلافنا العرب "أدركته حرفة الأدب" فهو لم يعقد مقارنة بين الطب والأدب عندما فضل الثاني على الأول، بل لم يتردد لحظة في الانتقال إلى الأدب، كأن هناك ثقباً من الثقوب السوداء يجذبه إليه. لم يكن يفكر أن كتبه سوف تدر عليه ما يعادل إدرار الطب، وربما كان الأرجح أن يكون دخله من الطب أعلى بكثير من دخله الأدبي، لكنه لم يطرح على نفسه هذا الاختيار، بل انتقل إلى الأدب مثل الأسير الأعزل أمام قوة هائلة، بل مثل المسحور أمام إحدى السيرينات الجميلات. كما أن يوسف إدريس فعل فعلة سومرست موم وهجر مهنة تعتبر من أرقى المهن وأضمنها مادياً. أمثلة كثيرة يمكن أن نأتي بها لنبين أن الأدب شيء له جاذبيته الخصوصية، أثمر مالاً أو دفع إلى الفقر، وحبذا لو تركنا كل هذه الأمثلة وانتقلنا من المنتج الأدبي إلى الانتاج الأدبي.‏

الانتاج الأدبي معاكس تماماً للانتاج الاقتصادي، فالمنتج الأدبي لا يفكر أبداً إذا كان ديوانه أو روايته أو مسرحيته أو دراسته تعود إليه بمردود مادي. إنه يفكر فقط بإعلان اسمه كمدافع عن القيم الجمالية الرفيعة ولا شيء غير ذلك. إن عشرات الدواوين الشعرية لا تعود على صاحبها بما يقيم أوده، ولذا يمكن اعتباره مغامراً حقيقياً، يضحي بكل الماديات من أجل هذه السمعة المعنوية.‏

بل نذهب إلى أبعد من هذا فنرى أن المال هو العدو الأول للأدب منذ "الجزة الذهبية" وحتى آخر رواية حديثة. ولا أظن أن في مقدور القاريء أن يعثر على أثر أدبي فيه أي مهادنة للمال. ولا يعني هذا أن المنتج الأدبي لا يحتاج إلى المال في عصر المال والرأسمال المالي، بل إن هذا المنتج منذ القديم وحتى اليوم كان بحاجة إلى المال لا ليبسط سلطة هذا المال على الآخرين، بل ليبعد سلطة الآخرين عنه من باب "لا يفل الحديد إلا الحديد" وقد يسلك المنتج الأدبي طرقاً في حياته من أجل المال يأباها كل الإباء في انتاجه الأدبي، فانكباب دستويفسكي على القمار لتسديد ديونه كان شيئاً مخجلاً في روايته الشهيرة عن القمار والمقامرين. إن المال الذي يعتبره مصدر الشرور كلها في أدبه لا يستطيع إلا أن يحصل عليه إلحاحاً للضرورة. لكن الشيء الذي يميزه من غيره يكمن في الهدف من المال، فهو في يده لسد حاجة أو إعالة أسرة أو تسديد ديون متراكمة، بيد أنه لم يكن في يوم من الأيام سبيلاً إلى بسط نفوذ أو سلطة أو استغلال أو إذلال... ألم نقل إن مملكته ليست من هذا العالم، فكيف يرضى أن ينساق وراء ما يستنكره في أدبه ويكافحه ويشهر به ويلعنه؟‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:27 pm

في عصر المال، عصر الاقتصاد السياسي، عصر أبالسة الجحيم والقوى الشيطانية الذين يتربعون على السلطة والثروة، يعرف المنتج الأدبي أنه مسحوق هو وأسلحته وأن المعركة خاسرة، ولذلك لا يطلب سوى ما يمسكه، لا ما يخنق غيره ويذله، فهو يعرف أن قوانين الاقتصاد السياسي لا تدع رقعة صغيرة واحدة من أجل إقامته، ومع ذلك يرفع صوته مديناً هذا الاقتصاد الشرير الذي لوث العقول قبل أن يلوث البيئة، والذي غير مبادئه وقوانينه مرات ومرات منذ كريستوف كولومبوس، ولكنه دائماً كان أصبع الشيطان ما وضعت في شيء إلا أودت ببراءته.‏

***‏

أما مسألة العصاب الجنسي فإنها مسألة عمومية توجهها الفرويدية إلى الجميع وليس إلى الأدباء والفنانين وحدهم. إنها توزع التهم بأشكال وألوان مختلفة إلا أنها كلها تدل على الشذوذ. دافنشي ودستويفسكي، ميكل انجلو وغوته... ومع ذلك لا نستطيع أن نقول أن الفرويدية تقف موقفاً معادياً من الأدب والفن، ولكننا نستطيع أن نقول إن الفرويدية هي أعظم مذهب ربط بين المنتج ونتاجه الأدبي عن طريق الشذوذ الجنسي، أو بالأصح العصاب الجنسي، بل ذهبت إلى أن الانتاج ليس أكثر من تحايل ومماراة والاعيب يقوم بها المنتج ليخفي ذاته، بيد أنه لا يستطيع ذلك، لأن البحث في أرجاء إنتاجه لابد أن يهدينا إلى بعض الشذرات التي إن جمعناها حصلنا على النواة التي تعكس شخصية المؤلف والتي حاول جاهداً إخفاءها.‏

وبظهور البنيوية التي ترى أن نص المنتج لا علاقة له بحياة المنتج، أسرع الفرويديون وكيفوا مذهبهم قليلاً وفقاً لهذا الاتجاه من غير أن يتخلوا عن ربط حياة الكاتب بانتاجه، ومن غير أن يفصلوا بين المنتج والإنتاج إلى تلك الدرجة التي نادت بها البنيوية.‏

إن المنتج الأدبي كغيره ينزع إلى الجنس الآخر. هذا صحيح. ولا يوجد حتى الآن شاعر أو مؤلف لم يكتب عن الحب، من أيام سافو وحتى أيام أيتماتوف، لكنه الحب كما يجب أن يكون، وليس الحب الصادر عن الشذوذ، ولو يدرك القاريء أن هذا من الشذوذ حقاً لانفض نافراً من الأدب، ولهذا تلقى المعالجة الأدبية للحب الأقبال في كل زمان ومكان مع أن الموضوعات واحدة أو تكاد تكون واحدة.‏

ولكن ما هو الحب الذي نجده في الأدب؟ أنه الحب المتمرد على الملكية، الذي لا يريد أن ينصاع لقوانين الاقتصاد السياسي. ان يوجيني غرانديه محبة مثالية، بينما خطيبها وقريبها أيضاً الذي استغل ثروتها وذهب مع شركة الهند الشرقية وعاد بثروة كبيرة، هو محب من انتاج الاقتصاد السياسي، فبعد عودته، وعلى الرغم من هذه الثروة ينحّي يوجيني غرانديه جانباً ويتزوج من فتاة ثرية لا تطاول يوجيني لا في الجمال ولا في الأخلاق ولا في المحبة والتضحية. لقد أبدع بلزاك في روايته هذه في تقديم الحب الحقيقي الأدبي مقابل الحب الزائف الاقتصادي. فأي شذوذ يقبع وراء عمله أو أعماله؟ ألانه قارن بين الاقتصاد الأدبي والاقتصاد السياسي؟‏

أنا شخصياً لا أفهم على الفرويدية، فمعظم المشاعر الشخصية التي أفصح عنها فرويد بجرأة ملفتة للنظر وداعية إلى التشكيك، لا أشعر بها، ومعظم الرموز التي فسرتها الفرويدية لم تقنعني، فإدخال المفتاح في الباب وقبب الكنائس والمآذن والمسلات والساحات والأماكن المغلقة والشجر والسمك والطيور... كلها رموز جنسية، بل إن تصرفات الشخوص الأدبية تفسر تفسيراً جنسياً. فهل يعقل أن نكون محاطين بالجنس من جميع الجهات؟‏

من هذا الباب الواسع نظرت الفرويدية إلى الأدب فوجدت فيه كتلة من العقد النفسية التي ترجع في معظمها إلى الجنس، مما يجعل الدخول معها في مناظرة أمراً عسيراً جداً، إن لم يكن مستحيلاً. إنها تصدر عن قناعات مسبقة أكثر مما تصدر عن وقائع مثبتة، فحتى الانتاج المادي ذاته يخضع عندها لتفسير جنسي، بل إن كل الأساطير التي نعرفها تحولت إلى عقد ورموز جنسية، من عقدة أوديب وحتى النرجسية، ومن البحر وحتى المنديل الذي يستعمل لتنشيف اليدين، بل حتى الملعقة التي تحمل الطعام إلى الفم. ولكن هكذا "يشعر" الفرويديون فمن الصعب جداً أن تكون ثمة لغة مشتركة.‏

والذي نراه أن المنتج الأدبي عندما يتحدث عن الحب فإنه يستفيد من تجربته ولكنه لا يدخلها في انتاجه على أنها نمط ثابت، بل يعمد إلى النمط الأولي فيقدمه بعد أن يدخل عليه التعديلات اللازمة. وفي المجتمع الذي أفسده الاقتصاد السياسي وجعل كل شيء مبنياً على الملكية يبرز المنتج الأدبي بطلاً حقيقياً يدعو إلى الحب القائم على حرية الإرادة ويدين الحب القائم على الملكية، سواء كان مؤمناً بالملكية أو غير مؤمن بها، لأن التقليد الأدبي أقوى من كل أديب، وكل من يخالفه سوف يفشل حتماً. وعلى فرض أن المنتج الأدبي عبارة عن كتلة من العقد النفسية الجنسية، فإن إنتاجه لن يكون إلا انتاجاً يدافع عن الحرية الإنسانية، لا عن القسر والابتزاز والاستغلال. ونحن لا ننسى أبداً أن المنتج الأدبي هو ابن الاقتصاد السياسي ولن ينجو مهما حاول من العقد التي خلقها ويخلقها باستمرار الاقتصاد السياسي، لكنه لا ينتج إلا ما هو منسجم مع التقليد الأدبي، إلا ما هو قائم على الكفاح من أجل الانعتاق من الأثقال الصخرية التي وضعها فوقنا الاقتصاد السياسي. إنه يعمل دائماً لتوطيد الاقتصاد الأدبي الذي عبر ويعبر عن النزوع الإنساني المشروع لعالم الهدوء والطمأنينة والسلام، لعصر نطلق عليه "العصر الذهبي" أو الفردوس المفقود أو "الرحم" الذي مايزال يحن إلى أجوائه الآمنة. وإذا خولنا لأنفسنا أن نتهم المنتج الأدبي بالتعقيد كغيره من بني البشر فإننا لا نستطيع أن نتهم إنتاجه بهذا التعقيد لأنه إنتاج خاضع لتقليد غير قابل للتغير. إنه قابل للتعديل والإنزياح ولكن من الصعب جداً أن نغير هذا العالم المثالي الذي يدعو إليه.‏

إلى جانب تلك الاتهامات ثمة تهمة لا تقتصر على صفوف المفكرين والدارسين، بل تمتد إلى طبقات شعبية واسعة، وهي أن المنتج الأدبي والمكيفات شيء واحد، وهذه إحدى علائم الشذوذ التي تضاف إلى ما سبق. وهم يسردون قائمة طويلة جداً من أسماء منتجي الأدب المحدثين، باعتبار أن سيرتهم مسجلة بدقة أوثق بكثير من سير الأقدمين، فيذكرون أدغار آلن بو وبودلير ومالارميه ورامبو وفر لين وغي دي موباسان وكثيرين غيرهم، ولو رحنا نحن نذكر ما يقابل هؤلاء من الأقدمين والمحدثين أيضاً لحررنا سجلاً ضخماً من أعشانا وأبي نواسنا وخيامنا وحتى اليوم....‏

هذه الوقائع لا يمكن دحضها، وما كنا لندحضها، إلا أن طرح المسألة على هذا الشكل هو بحد ذاته تضليل عن الجوهر الأساسي للمشكلة، أو بكلام أوضح: إننا بمثل هذا الطرح ننظر إلى الوسيلة ونسقط الهدف، وبإسقاطنا الهدف تبدو الوسيلة بمظهر غير حقيقي. إن الوسيلة الواحدة قد تحقق أهدافاً كثيرة، فالمدية التي تنتزع شوكة معدنية من العقب هي ذاتها تنتزع الأرواح من الصدور وهي ذاتها التي يدافع بها الراعي عن خرافه، وهي ذاتها التي يذبح بها السيد عبده. فلمعرفة حقيقة الوسيلة لابد من معرفة الهدف الذي تستخدم من أجله. فمن أجل أي شيء يستخدم المنتج الأدبي هذه الوسيلة وأشباهها؟‏

لن نذكر تاريخ الخمرة والمكيفات وكيف حكم قانون حمورابي بالإعدام على كل من يغش الخبز والخمرة لإنهما من قوت الشعب، وكيف كان العبريون أول من حاول اجتناب الخمرة وأمثالها... فهذا تاريخ قائم بذاته وطويل جداً يدخلنا في الثيوغونيا وسرد سيرورة الرب المبدع ديونيسيوس، فليس أمامنا سوى أن نحصر أنفسنا بين الوسيلة والهدف فقط من دون التعريج على أي شيء آخر.‏

الخمرة والمكيفات وسيلة لهدفين مختلفين كل الاختلاف. فهي وسيلة شريرة آثمة بيد الاقتصاد السياسي، بينما هي من أرقى وسائل الدنيا بيد الاقتصاد الأدبي. ففي ميدان الاقتصاد السياسي تشكل الخمرة والمكيفات مرضاً أسود سواء في إنتاجها لاستغلال الناس أو في غشها، أو في استخدامها من قبل "رجال الأعمال" لتدمير خصومهم: حفلة خمر ومعطف فرو وعقد من الذهب تكفي لجعل سكرتيرة الخصم تتقيأ كل الأسرار... وهكذا. وباختصار نقول إن خضوع المكيفات للاقتصاد السياسي لا يعني سوى الخراب والتدمير: إنتاجاً وغشاً وتجارة واحتكاراً وبيعاً واستخداماً...‏

أما في ظل الاقتصاد الأدبي فالأمر مختلف كل الاختلاف، لأن الخمرة والمكيفات وسيلة للخروج من عالم الملكية الآثمة إلى عالم ذاتي وهمي، وللانتقال من مملكة الاستغلال إلى مملكة المحبة، ومن الحقد إلى دنيا التسامح، إنها الصاروخ الذي ينتقل بالمنتج الأدبي إلى فردوسه، إلى مملكته التي ليست من هذا العالم، ولذا تجد أن الخمرة أساس في الانتاج الأدبي في ظل عالم الملكية الآثمة. إن الإنتاج الأدبي لا يتحقق إلا إذا دخل المنتج عالمه الذي "ليس من هذا العالم" فلابد من الوصول إلى نشوة استعادة الحياة الرحمية أو الفردوس الأرضي سواء كان هذا عن طريق الاستثارة الذاتية، أو عن طريق تعاطي المكيفات. إن كل المنتجين الأدبيين في الإسلام يتغنون بالخمرة، الذين تعاطوها منهم والذين لم يتعاطوها، فهي اشبه بالمقدمة الطللية التي ترقق النفس وتهيئها لتصورات العالم الأدبي، فهدفها إثارة الوجد الذي من دونه لا يتحقق الانتاج الأدبي، كما لا يتحقق التأثير المنشود في المتلقي. فالمنتج أمام خيارين للوصول إلى حالة الوجد: الاستيهام أو المكيفات ولا مفاضلة بينهما، لأن نجاح الانتاج منوط بحالة الوجد بأي الخيارين تحقق. المهم أن يعرف المنتج الأدبي نفسه معرفة جيدة، فيميز أي الخيارين أفضل له، بحيث يظل محتفظاً بوعيه الجمالي عندما يدفعه لاوعيه إلى حالة الوجد المشرقة.‏

المشكلة لا تكمن إذن في الوسائل المتاحة من المكيفات، وإنما في الهدف بالذات، فإن كان هدفاً يرسمه الاقتصاد السياسي فإنه ولا شك هدف دنيء والوسائل مدمرة، وإن كان يرسمه الاقتصاد الأدبي فإنه هدف نبيل، إنه تحقيق لحالة الوجد الضرورية. وإلى جانب هذه الوسيلة يمكن أن نضع كل الوسائل الأخرى التي يحدد لها الاقتصاد السياسي هدفها كالذهب والفضة وأنواع الثروة النقدية الأخرى من ملكية وصناعة وتجارة... ففي ظل الاقتصاد السياسي كل شيء سيء، أو يتحول إلى شيء سيء، ثم أن الضرر الذي يحدثه هذا الشيء لا يقتصر على صاحبه ولا على مجموعة أفراد، بل يصبح أشبه بالجائحة التي تنشر في كل خلايا المجتمع. فإذا كان الذهب قد تحول في ظل الاقتصاد السياسي إلى وباء وكارثة فما بالك بالأشياء الأخرى؟ إن كل شيء بيديه ضار من إنتاج الرغيف وحتى انتاج الليزر، بينما في ظل الاقتصاد الأدبي سرعان ما تتحول السيئات إلى مكرمات وأشياء جزيلة النفع...‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:28 pm

الفصل الحادي عشر

عندما نسمع كلمة "سلعة" فإن الأذن تدفعها إلى الدماغ وهناك يتم تشخيصها وفقاً لوضع السامع وظروفه وهوايته. فأصحاب الظروف المادية القلقة ينظرون إليها نظرة مختلفة عن نظرة أصحاب الظروف المادية الميسورة، وأصحاب الهوايات لا يفكرون بظروفهم المادية كثيراً عندما يجدون السلعة مهما كان ثمنها. فغاوية الملابس من النساء والفتيات، تدفع ثمن الفستان الجميل من غير أن تفكر بظروفها المادية الحرجة، والرسام لا يهمه ثمن مواد عمله، بمقدار ما تهمه نوعية السلعة، والغندور لا يفكر بظروفه عندما ينفق على أناقته المفرطة، وقد يبتاع معطفاً ليس بحاجة إليه أصلاً. ودخول السلعة في ميدان الندرة، شغف اختص به الميسورون، فقد يسعى أحدهم إلى شراء ساعة يد غالية الثمن لا لشيء بل لأنها نادرة، مع أنه يملك الكثير من ساعات اليد، فهو لا يأتي بها لسد حاجة بل للتباهي بأنه لا أحد وضعها في معصمه غيره، في الوقت الذي لا تجد فيه الطبقات الدنيا ما تبتاع حتى السلع الضرورية جداً.‏

السلع لا تتساوى في أي شيء، والناس هم الذي يجعلونها متفاوتة كل هذا التفاوت، فقد تباع سلعة بعشرة أضعاف كلفتها، وقد تباع سلعة أخرى بما يقارب كلفتها أو أقل في بعض الأحيان. ولا يوجد سوى اقتصاد واحد يتحدث عن السلع المادية ويبين أسرارها وهو "الاقتصاد السياسي" إنه المشروع المنافق الغبي لهذه السلع وقوانينها. أما السلعة الأدبية فإنها تختلف عن السلعة الاقتصادية كل الاختلاف لسبب بسيط جداً وهو أنها لا تخضع لقوانين الاقتصاد السياسي، فبإمكان المستهلك أن يحصل على نسخة من أي كتاب نادر خلال ساعة أو ساعتين، بتصويره على الآلات الناسخة وقد كان قديماً ينقله بخطه أو بخط غيره.‏

عقولنا في هذه الأيام تتصور السلعة وفقاً لمقتضيات الاقتصاد السياسي وترسيماته. ولا نقدر السلعة الأدبية حق قدرها إلا بمقارنتها بالسلعة الاقتصادية أو بإخضاعها لقوانين السلعة المادية. والمقارنة سهلة جداً وصعبة جداً، فهي سهلة لأنها عكس السلعة المادية، فيمكنك أن تعرف خصائص السلعة الأدبية بمجرد معرفتك لخصائص السلعة المادية. اعكس هذه الصفات المادية تحصل على الصفات الأدبية. أما الصعوبة فمتأتية من تنوع السلع المادية تنوعاً شديداً، عجز الاقتصاد السياسي عن ضبطها. ولإبراز معالم السلعة الأدبية سوف نقتصر على أهم خصائص السلعة المادية التي نختصرها بالنقاط التالية:‏

1- الدافع:‏

أهم تمييز بين السلعة الأدبية والسلعة المادية هو "الدافع" الذي يختلف في السلعتين اختلافاً كبيراًجداً. ما الذي يدفع شركة ضخمة إلى إنتاج "فستان الموسم" مثلاً، أو "معطف الرجل الأنيق" أو "العطر الساحر" أو "الحذاء الطبي" أو غير ذلك من السلع؟‏

قد تقول في نفسك أن هذه السلع كمالية، ولا يتهافت عليها سوى الأغبياء، أو الأغنياء، لا فرق. لابأس، انظر إذن إلى الأنواع الكثيرة من الخبز، وهو وسيلة ضرورية، تطرحها المؤسسات المختصة في الأسواق، تجد الرغيف قد اتخذ أشكالاً عدة، فهذا على شكل دائرة وهذا على شكل مربع وهذا على شكل هلال، هذا فيه نمش من السمسم وذاك فيه حبة البركة... أشكال وأشكال كثيرة، إلا أنها كلها من مادة واحدة، ولها فائدة واحدة، فما الدافع وراء ذلك؟ هل هو الحرص على صحة المستهلك؟ هل هو تقديم المتعة الخاصة له؟ هل هو إنعاشه وتنشيطه؟ هل هو دفعه إلى التعاون والتآزر مع أبناء جلدته؟ هل هو الرقي بأحاسيسه ومشاعره؟ هل هو ترقية وجدانه؟ هل هو حثه على التضحية من أجل الآخرين؟ هل هو رفع العبء المادي عن كاهله؟ هل هو تطوير عقليته ونظرته؟ هل هو تهيئته "حضارياً"؟ هل هو دفعه إلى القيم الرفيعة من المحبة والتسامح والإخلاص والبعد عن النفاق والمماراة والثعلبة؟ هل هو ترسيخ الوعي الإنساني؟ هل هو زرع النبتة الجمالية والفنية في النفس؟ هل هو تغيير نظرته المتخلفة إلى نظرة أرحب صدراً وأوسع آفاقاً؟... إنّه على العكس من ذلك تماماً؟‏

الضروريات والكماليات شيء واحد في علم الاقتصاد السياسي، ولذلك فإن الدافع واحد وهو تحقيق الربح الكبير في الزمن القصير. في الاقتصاد السياسي يتساوى الرغيف والبارفان، ويخضعان لقانون واحد هو الذي أشرنا إليه. السلعة هي السلعة، فلا مجال لأي نظرة إنسانية أو تصرف يكون لصالح الجميع. ودائماً نلاحظ أن الذين يربحون يقابلهم دائماً مئات الأضعاف ممن يخسرون أو يستنزفون، فهذا هو قانون الاقتصاد السياسي. وبعد فترة قد تطول وقد تقصر لابد من حدوث هزات في المجتمع. فريدريك أنجلز قدر هذه الدورة بفترة تتراوح بين ثماني سنوات واثنتي عشرة سنة. وكان تقديره مبنياًعلى الإنتاج الرأسمالي، فلما ظهر -ما شاء الله- الإنتاج الإشتراكي دفع لينين الناس إلى معاناة أزمة السلع الضرورية والكمالية فترة استمرت حتى سقوط غورباتشوف. الاقتصاد السياسي للإشتراكية يتغلب على الهزات الاجتماعية بالقمع، والاقتصاد السياسي للرأسمالية يتغلب على الهزات الاجتماعية بسرقة الشعوب المتخلفة أو المغامرة بمصير شعوب بكاملها أو بشن حروب محدودة أو حتى غير محدودة. والاقتصاد السياسي فاشل في الحالتين، مادام الدافع واحداً، ففي الرأسمالية تتجمع الثروات بيد الأفراد وبيد الشركات، وفي الإشتراكية تتجمع هذه الثروات بيد الدولة فيتقاسمها رجال الدولة الذين يثرون ثراء فاحشاً ويصبحون هم أنفسهم في مقدمة من يطالبون باقتصاد السوق لإنتاج السلع بأنفسهم، من غير أن يختلف الدافع إلى الانتاج أبداً. أنه دائماً "الربح الوفير في الزمن القصير".‏

إن خلو السلعة من الدافع الإنساني يعني دفع المجتمع إلى صراعات لا تنتهي. قد تهدأ هذه الصراعات أو تزول في فترات الرخاء التي غالباً ما تكون قصيرة جداً، ولكنها سرعان ما تعود من جديد. وهي صراعات لا يمكن التخلص منها إلا إذا تخلصنا من الشهوة الذئبية الكامنة وراء الانتاج المادي.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:29 pm

ستقولون ما أسهل الكلام. كلنا نعرف أن الشهوة الذئبية هي الدافع في الاقتصاد السياسي ولكن كيف نتخلص منها؟ كيف نغير هذا الدافع الذئباوي إلى دافع إنساني؟ ألا يعني هذا تغيير الطبيعة البشرية بكاملها، إن لم يكن خلق بشرية جديدة بشهوات إنسانية؟‏

من حقكم أن تسألوا هذه الأسئلة فالاقتصاد السياسي لم يترك شيئاً سليماً، فقد تغلغل إلى أعماق نفوسنا واستولى على خلايا عقولنا، حتى بتنا لا نتصور إنساناً من دون شهوة ذئبية، مع أن السيرك يروض أشرس الحيوانات فتغدو أطوع من الخاتم في البنان. وبما أن الترويض لا يليق بالبشر، وإن كان يليق ببعضهم، لأنه يقوم على القمع والقسر، وهو يخالف مبدأ الحرية الإنسانية، فلابد من أن نبحث عن وسيلة أخرى تكون لائقة لتغيير هذا الدافع الشرس في الإنسان.‏

قد نظن أن هذا الدافع فطري ولد مع الإنسان. ولكن مرت فترة طويلة جداً لم يكن ثمة وجود لهذا الدافع، بل أن بعض السكان الذين لا علم لهم بالاقتصاد السياسي في استراليا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، مازالوا حتى اليوم لا يعرفون مثل هذا الدافع الذي يبدو لنا فطرياً. وهذا يدل أنه من صنع الإنسان في علاقته، وليس من صنع الطبيعة المحيطة به. إن الطبيعة لم تغرس هذا الدافع في الإنسان، ولكن انتقاله من الاقتصاد الأدبي إلى الاقتصاد السياسي هو الذي أوجد فيه هذا الدافع. فعلينا قبل أن نخطو أي خطوة، الاقتناع بأن هذا الدافع هو من التراكمات، وليس من الأساسيات، ولكن قد يكون صار بعد مرور هذه الأحقاب من الأساسيات، إذا أخذنا بنظرية لامارك في توريث الصفات المكتسبة، التي بعد عدة أجيال تصبح نغولية إلى جانب النغوليات الأخرى. كما علينا الاقتناع -بالتالي- ان تغييره لن يتم إلا على الموجة الطويلة، فلا يعقل بين ليلة وضحاها أن نغير دافعاً يفعل فعله فينا منذ آلاف السنين، وإن كانت هذه الآلاف قليلة جداً إذا قيست بملايين السنين السابقة.‏

فإذا اقتنعنا بالأطروحتين السابقتين: عدم فطرية هذا الدافع، أو إمكانية التخلص منه حتى عندما نتأكد أنه بات نغولية مكتسبة، وعدم القدرة على تغييره بالسرعة التي تمليها العاطفة، كان علينا أن نختار طريقة تغيير أو تعديل هذا الدافع بناء على الأطروحتين.‏

لا يوجد أمامنا سوى طريقتين. وهاتان الطريقتان هما: الهندسة الوراثية والاقتصاد الأدبي. فإذا ثبت أن هذا الدافع المكتسب من العلاقات الاجتماعية قد غدا كامناً في النغوليات، فعلى هندسة الوراثة أن تنزع هذه النغولية الخبيثة، نغولية الملكية السرطانية، والإبقاء على نغولية ملكية القناعة. وهذا لا يستغرق زمناً طويلاً، إلا أنه يلقى معارضة شديدة من قبل رجال الدين ومعظم علماء الوراثة أنفسهم، فهم يخشون أنهم بانتزاع أي نغولية، يفسحون المجال لنمو نغولية أخرى أخطر من تلك التي انتزعت، بل أشد فتكاً.‏

وهو اعتراض وجيه جداً لأن وجود نغولية قمعية قد يكون ضمانة لعدم اشرئباب نغوليات لئيمة، فقد علمنا التاريخ أن المقموعين عندما ينهار جهاز القمع يكونون أشد فوضى وأوقع للأذى والتخريب من السلطة المنهارة، لكثرة ما فيهم من القامعين الذين لم تمكنهم الظروف السابقة من القمع، فما أدرانا إذا سحبنا نغولية هذا الدافع انبرت لنا نغولية أخرى كانت مقموعة فراحت تأخذ حريتها وتخبط خبط عشواء كما يقول الشيخ زهير؟‏

طريقة هندسة الوراثة سريعة ولكنها غير مضمونة، فلا يبقى أمامنا سوى الطريقة الأخرى وهي طريقة الاقتصاد الأدبي الذي عرضنا بعض مبادئه في أبحاث سابقة، وسنعرض بعضها الآخر في أبحاث لاحقة. وكما أحل الاقتصاد السياسي هذا الدافع في الطبيعة البشرية، فإن الاقتصاد الأدبي المعاكس تماماً له هو الكفيل بانتزاع هذا الدافع وخلق دافع أدبي يحل محله فتنتظم الأمور وتحل القضايا التي عجز عن حلها الاقتصاد السياسي.‏

لا شك أن هذا يتطلب أنظمة تنظر إلى الثقافة الأدبية على انها ثقافة منتجة حقاً، لا بل إنها الطريقة الوحيدة لإنقاذ البشر من المشكلات المستنقعية التي خلقها الاقتصاد السياسي. أكثر مصانع البشر لا لزوم لها، إنها تخلق التراكمات فوق النفس البشرية وتجعلها ترزح تحت أعباء مادية أوهمنا الاقتصاد السياسي إنها من الضروريات. إن الاقتصاد الأدبي هو الطريقة الوحيدة لتغيير هذا الدافع الخسيس.‏

هذا موضوع كبير جداً سنعود إليه فيما بعد وإن بمعالجة سريعة موجزة.‏

2- المؤسسة:‏

أول مؤسسة لانتاج السلعة في العالم هي المؤسسة الأدبية، والسلعة المنتجة هي الأدب، الملاط الذي يجمع بين أفراد المجتمع في لحمة حقيقية. وهذه المؤسسة عفوية لم تنشأ بقرار ولم تشرف عليها سلطة قمعية تجبر الناس على الانخراط فيها. نشأت نشأة عفوية من الأعياد والطقوس والأعمال التي كانت جماعية في حقول الطبيعة وغاباتها. المؤسسات الاقتصادية لم يكن لها وجود. المجتمع لم يكن بحاجة إليها، فقد كانت السلع المادية مجانية، مثل السلع الأدبية. وهو اليوم أيضاً لا يحتاج إليها، فهي مؤسسات مصطنعة اصطناعاً، تسعى إلى إقناعنا إنها ضرورية وإننا نلاقي مصيراً مريعاً إن تخلت عنا أو تخلينا عنها. إنها توهمنا أن حياتنا رهينة بوجودها. وللأسف فإن القسم الأكبر من بني البشر ينجرفون وراء هذه الكذبة. فمن قال أن شركة الهند الشرقية كانت ضرورة من الضرورات لاستمرار حياتنا؟... إنهم أصحاب الشركات فقط. إنهم هم الذين اقنعوا الكثيرين بأن هذه المؤسسة أو تلك تقوم بدور المنقذ للحياة الإنسانية المتردية. شركة الهند دمرت الهند فأفسدت براءتها، ولم تقدم لها شيئاً. واختفت هذه الشركة ولم يشعر بها أحد، فما أشد -كان- ضرورتها؟؟؟‏

مؤسسات كثيرة ستظهر وتختفي بعد أن تقدم سلعاً مادية كثيرة تغرق الأسواق وترهق البشر وتزهق الأرواح.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:29 pm

لو كانت المؤسسات التي من هذا القبيل ضرورية، وكانت سلعها تسد حاجة إنسانية فعلاً لظلت قائمة حتى هذه الأيام. هل انتهت مهمتها كما يزعم الاقتصاديون؟ لا أبداً لأن الشركات التي تلتها قامت بما كانت تقوم به هذه المؤسسة ذاتها. إن كل مؤسسةعلى هذه الشاكلة هي "مجمع الشياطين" لم يجتمع أفرادها إلا لمص الدماء، ولم يخططوا إلا لابتزاز الإنسان واستغلاله، ولم ينتجوا سلعهم لسد حاجة الناس، بل لخلق حاجات ما كان أغنى الإنسان عنها. الكذب والغش والنفاق والإعلام الضخم المزخرف والمزيف والملصقات المضللة... هي أدواتها لاستغلال الناس باستغفالهم وتضليلهم وإقناعهم بالضرورة "القصوى" لسلعها. لا يمكن أن تنطق بكلمة صدق واحدة ولا يمكن أن تعين أحداً ولا يمكن أن تغني نفساً من النفوس، فمادام الدافع هو الشهوة الذئبية، فإن من المستحيل أن يصدر عنها شيء جيد، وهذا هو السبب الذي يجعلنا نقدم الدافع على غيره من عناصر السلعة لمقارنة الفروق الكبيرة بين دافع ودافع، بين سلعة وسلعة، بين سلعة أدبية وسلعة مادية...‏

مؤسسات بسلعها جاءت وذهبت ومؤسسات بسلعها ستجيء وتذهب، إلا أن مؤسسة واحدة ظلت ثابتة وقائمة منذ آلاف السنين وحتى هذه الأيام، لا هي تغيرت ولا سلعتها تغيرت وهي المؤسسة الأدبية، فمنذ نشأتها كانت ذات سمة عالمية، فالسلعة الأدبية التي تقدمها هذه المؤسسة لا تتغير في أي صقع ظهرت، فهي دائماً دعوة إلى المحبة والتسامح وتصوير لمآسي الإنسان وهمومه الكبرى وفضح المسيرة العشوائية التي يقوم بها البشر من دون ترو ومن دون اهتمام بما ينتظرهم، وسواء انتجت هذه المؤسسة في استراليا أو إفريقيا أو أوروبا، فإن الإنتاج واحد والسلعة واحدة والدافع واحد وهو وقف هذه المسيرة المتهورة وإنشاء علاقات تقوم على القناعة المادية والطموح الروحي من أجل إعادة التوازن بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان، وطالما نبه الأدب إلى الهوة التي يسير إليها البشر. ويظهر ذلك كلّه في اسطورة انتجتها المؤسسة الأدبية الفراتية منذ آلاف الأعوام تدور حول الآله تموز الذي كان راعياً ينعم بالحياة السعيدة، لم يكدر حياته شيء لكنه فكر مرة أن يذهب إلى المدينة، أي فكر في الانتقال من الحياة الروحية المنعمة إلى الحياة المادية الشقية. دخل تموز المدينة فاعتقله زبانية العالم السفلي وأخضعوه لصنوف العذاب.‏

هذه السلعة البسيطة العميقة الدلالة ، هي من أوائل السلع التي أنتجتها المؤسسة الأدبية. إنها تحذرنا من الإغراق في العالم المادي "المدينة" وتدعونا إلى الشغف بالجمال والطبيعة، وترى في عالم المادة قيداً وسجناً وعذاباً. وما العذاب الذي عاناه تموز غبّ دخوله المدينة سوى رمز لمأساة الحياة المادية. وإذا جاز لنا أن نفسر رموز هذه السلعة الجميلة قلنا أن المقصود بالعالم السفلي هو العالم المادي والمقصود بالعالم السماوي هو النعمة الروحية والغبطة النفسية.‏

كل المؤسسات الأدبية لدى الشعوب الأخرى سارت على ما سارت عليه المؤسسة الفراتية من غير أن تطلع على انتاجها، فالعالمية في هذه الحالة ناجمة من الطبيعة الأدبية لا من قرارات وتحالفات وأحلاف ولا من إرشادات الاقتصاد السياسي، المنظم الأكبر للشقاء والبؤس. إن الأدب يسير وفق نظام عالمي صارم جداً. صارم من غير قمع وملتزم من غير قرار، لأنه بصدق يتكلم وبمحبة يعظ وبحرص يخاف على المصير. والنظام العالمي الصارم ناجم عن حرية لا حدود لها، لكنها حرية إنسانية، أي تحرص على أن تكون مسيرة الإنسان صحيحة سليمة غير متعثرة، لذلك تتفق كل مؤسسات الأدب في توجهها، فعلى الرغم من كثرتها وتنوعها تتفق في دوافعها وأهدافها، فكأنها مؤسسة واحدة، وكأنها تنتج سلعة واحدة على مر العصور.‏

السلعة التي أنتجتها المؤسسة الأدبية الفراتية نجدها في كل المؤسسات الأدبية الأخرى ، فكل سلعة أدبية منتجة بعد ذلك كانت دائماً تلح على ما ألحت عليه السلعة الفراتية، فتحذر من الحياة المادية وتدعو إلى الغبطة الروحية. إنها دائماً تحذر تموز من الدخول إلى المدينة، ودائماً تدعوه للعودة إلى أغانيه وأفراحه بعيداً عن هموم المدينة وآلامها وأحزانها، أي أنها تحذر من الملكية الشيطانية المسؤولة عن النشاط التدميري المحموم الذي يشكل نواة الاقتصاد السياسي.‏

انظروا في أي مؤسسة مادية، ولاحظوا كيف أنها منذ نشأتها تمارس بسلعها نشاطاً تدميرياً وتمارس هذا النشاط إلى أن تدمر نفسها، ولو كانت كما ادعت لما بطلت وانتهت. والمشكلة أن المجتمع لا يتخلص منها إلا بعد أن تكون قد فعلت ما فعلت ومزقت ما مزقت.‏

حولوا نظركم إلى أي مؤسسة أدبية، التي هي مؤسسة عالمية مهما أوغلت في محليتها لأنها بسلعها تصب في الاستراتيجية العالمية للأدب ولاحظوا كيف أنها مؤسسة ثابتة لا تنهار ولا تتغير، وهي مصرة على التخلص ليس من عقابيل السلع التي انتجتها المؤسسة المادية وحسب، بل أيضاً تسعى إلى دكّ هذه المؤسسات الفاسدة المفسدة.‏

كل مؤسسة مادية تسعى إلى السيطرة بسلعها على العالم، وترغب في أن تكون عالمية. ولكن حتى الآن لم تستطع أي مؤسسة أن تصل إلى المجال العالمي لأنها عندما تنتج سلعها فإنها تنتجها في السوق الاقتصادي السياسي القائم على التناحر والتنابذ والمنافسة ، وإذا كان ثمة تحالفات فإنها موقتة، بينما المؤسسة الأدبية هي الوحيدة التي لا تسقط لأنها تدخل السوق باستراتيجيتها الواحدة التي لا تتغير. إنها استراتيجية الإنقاذ، استراتيجية المحبة والتسامح، استراتيجية ملكية القناعة والطموح الروحي. ومادامت الاستراتيجية واحدة لا تتغير فإن كل مؤسسة محلية هي -رغبت في ذلك أم لم ترغب- جزء من المؤسسة الأدبية العالمية التي هي مجموع هذه الأجزاء. وكل جزء عبارة عن إسهام يصب أخيراً في الاستراتيجية الكبرى، استراتيجية الخلاص، ولا خلاص إلا بالإجهاز على أسلوب إنتاج الاقتصاد السياسي.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:30 pm

شك أن هذا يتطلب أنظمة تنظر إلى الثقافة الأدبية على انها ثقافة منتجة حقاً، لا بل إنها الطريقة الوحيدة لإنقاذ البشر من المشكلات المستنقعية التي خلقها الاقتصاد السياسي. أكثر مصانع البشر لا لزوم لها، إنها تخلق التراكمات فوق النفس البشرية وتجعلها ترزح تحت أعباء مادية أوهمنا الاقتصاد السياسي إنها من الضروريات. إن الاقتصاد الأدبي هو الطريقة الوحيدة لتغيير هذا الدافع الخسيس.‏

هذا موضوع كبير جداً سنعود إليه فيما بعد وإن بمعالجة سريعة موجزة.‏

2- المؤسسة:‏

أول مؤسسة لانتاج السلعة في العالم هي المؤسسة الأدبية، والسلعة المنتجة هي الأدب، الملاط الذي يجمع بين أفراد المجتمع في لحمة حقيقية. وهذه المؤسسة عفوية لم تنشأ بقرار ولم تشرف عليها سلطة قمعية تجبر الناس على الانخراط فيها. نشأت نشأة عفوية من الأعياد والطقوس والأعمال التي كانت جماعية في حقول الطبيعة وغاباتها. المؤسسات الاقتصادية لم يكن لها وجود. المجتمع لم يكن بحاجة إليها، فقد كانت السلع المادية مجانية، مثل السلع الأدبية. وهو اليوم أيضاً لا يحتاج إليها، فهي مؤسسات مصطنعة اصطناعاً، تسعى إلى إقناعنا إنها ضرورية وإننا نلاقي مصيراً مريعاً إن تخلت عنا أو تخلينا عنها. إنها توهمنا أن حياتنا رهينة بوجودها. وللأسف فإن القسم الأكبر من بني البشر ينجرفون وراء هذه الكذبة. فمن قال أن شركة الهند الشرقية كانت ضرورة من الضرورات لاستمرار حياتنا؟... إنهم أصحاب الشركات فقط. إنهم هم الذين اقنعوا الكثيرين بأن هذه المؤسسة أو تلك تقوم بدور المنقذ للحياة الإنسانية المتردية. شركة الهند دمرت الهند فأفسدت براءتها، ولم تقدم لها شيئاً. واختفت هذه الشركة ولم يشعر بها أحد، فما أشد -كان- ضرورتها؟؟؟‏

مؤسسات كثيرة ستظهر وتختفي بعد أن تقدم سلعاً مادية كثيرة تغرق الأسواق وترهق البشر وتزهق الأرواح.‏

لو كانت المؤسسات التي من هذا القبيل ضرورية، وكانت سلعها تسد حاجة إنسانية فعلاً لظلت قائمة حتى هذه الأيام. هل انتهت مهمتها كما يزعم الاقتصاديون؟ لا أبداً لأن الشركات التي تلتها قامت بما كانت تقوم به هذه المؤسسة ذاتها. إن كل مؤسسةعلى هذه الشاكلة هي "مجمع الشياطين" لم يجتمع أفرادها إلا لمص الدماء، ولم يخططوا إلا لابتزاز الإنسان واستغلاله، ولم ينتجوا سلعهم لسد حاجة الناس، بل لخلق حاجات ما كان أغنى الإنسان عنها. الكذب والغش والنفاق والإعلام الضخم المزخرف والمزيف والملصقات المضللة... هي أدواتها لاستغلال الناس باستغفالهم وتضليلهم وإقناعهم بالضرورة "القصوى" لسلعها. لا يمكن أن تنطق بكلمة صدق واحدة ولا يمكن أن تعين أحداً ولا يمكن أن تغني نفساً من النفوس، فمادام الدافع هو الشهوة الذئبية، فإن من المستحيل أن يصدر عنها شيء جيد، وهذا هو السبب الذي يجعلنا نقدم الدافع على غيره من عناصر السلعة لمقارنة الفروق الكبيرة بين دافع ودافع، بين سلعة وسلعة، بين سلعة أدبية وسلعة مادية...‏

مؤسسات بسلعها جاءت وذهبت ومؤسسات بسلعها ستجيء وتذهب، إلا أن مؤسسة واحدة ظلت ثابتة وقائمة منذ آلاف السنين وحتى هذه الأيام، لا هي تغيرت ولا سلعتها تغيرت وهي المؤسسة الأدبية، فمنذ نشأتها كانت ذات سمة عالمية، فالسلعة الأدبية التي تقدمها هذه المؤسسة لا تتغير في أي صقع ظهرت، فهي دائماً دعوة إلى المحبة والتسامح وتصوير لمآسي الإنسان وهمومه الكبرى وفضح المسيرة العشوائية التي يقوم بها البشر من دون ترو ومن دون اهتمام بما ينتظرهم، وسواء انتجت هذه المؤسسة في استراليا أو إفريقيا أو أوروبا، فإن الإنتاج واحد والسلعة واحدة والدافع واحد وهو وقف هذه المسيرة المتهورة وإنشاء علاقات تقوم على القناعة المادية والطموح الروحي من أجل إعادة التوازن بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان، وطالما نبه الأدب إلى الهوة التي يسير إليها البشر. ويظهر ذلك كلّه في اسطورة انتجتها المؤسسة الأدبية الفراتية منذ آلاف الأعوام تدور حول الآله تموز الذي كان راعياً ينعم بالحياة السعيدة، لم يكدر حياته شيء لكنه فكر مرة أن يذهب إلى المدينة، أي فكر في الانتقال من الحياة الروحية المنعمة إلى الحياة المادية الشقية. دخل تموز المدينة فاعتقله زبانية العالم السفلي وأخضعوه لصنوف العذاب.‏

هذه السلعة البسيطة العميقة الدلالة ، هي من أوائل السلع التي أنتجتها المؤسسة الأدبية. إنها تحذرنا من الإغراق في العالم المادي "المدينة" وتدعونا إلى الشغف بالجمال والطبيعة، وترى في عالم المادة قيداً وسجناً وعذاباً. وما العذاب الذي عاناه تموز غبّ دخوله المدينة سوى رمز لمأساة الحياة المادية. وإذا جاز لنا أن نفسر رموز هذه السلعة الجميلة قلنا أن المقصود بالعالم السفلي هو العالم المادي والمقصود بالعالم السماوي هو النعمة الروحية والغبطة النفسية.‏

كل المؤسسات الأدبية لدى الشعوب الأخرى سارت على ما سارت عليه المؤسسة الفراتية من غير أن تطلع على انتاجها، فالعالمية في هذه الحالة ناجمة من الطبيعة الأدبية لا من قرارات وتحالفات وأحلاف ولا من إرشادات الاقتصاد السياسي، المنظم الأكبر للشقاء والبؤس. إن الأدب يسير وفق نظام عالمي صارم جداً. صارم من غير قمع وملتزم من غير قرار، لأنه بصدق يتكلم وبمحبة يعظ وبحرص يخاف على المصير. والنظام العالمي الصارم ناجم عن حرية لا حدود لها، لكنها حرية إنسانية، أي تحرص على أن تكون مسيرة الإنسان صحيحة سليمة غير متعثرة، لذلك تتفق كل مؤسسات الأدب في توجهها، فعلى الرغم من كثرتها وتنوعها تتفق في دوافعها وأهدافها، فكأنها مؤسسة واحدة، وكأنها تنتج سلعة واحدة على مر العصور.‏

السلعة التي أنتجتها المؤسسة الأدبية الفراتية نجدها في كل المؤسسات الأدبية الأخرى ، فكل سلعة أدبية منتجة بعد ذلك كانت دائماً تلح على ما ألحت عليه السلعة الفراتية، فتحذر من الحياة المادية وتدعو إلى الغبطة الروحية. إنها دائماً تحذر تموز من الدخول إلى المدينة، ودائماً تدعوه للعودة إلى أغانيه وأفراحه بعيداً عن هموم المدينة وآلامها وأحزانها، أي أنها تحذر من الملكية الشيطانية المسؤولة عن النشاط التدميري المحموم الذي يشكل نواة الاقتصاد السياسي.‏

انظروا في أي مؤسسة مادية، ولاحظوا كيف أنها منذ نشأتها تمارس بسلعها نشاطاً تدميرياً وتمارس هذا النشاط إلى أن تدمر نفسها، ولو كانت كما ادعت لما بطلت وانتهت. والمشكلة أن المجتمع لا يتخلص منها إلا بعد أن تكون قد فعلت ما فعلت ومزقت ما مزقت.‏

حولوا نظركم إلى أي مؤسسة أدبية، التي هي مؤسسة عالمية مهما أوغلت في محليتها لأنها بسلعها تصب في الاستراتيجية العالمية للأدب ولاحظوا كيف أنها مؤسسة ثابتة لا تنهار ولا تتغير، وهي مصرة على التخلص ليس من عقابيل السلع التي انتجتها المؤسسة المادية وحسب، بل أيضاً تسعى إلى دكّ هذه المؤسسات الفاسدة المفسدة.‏

كل مؤسسة مادية تسعى إلى السيطرة بسلعها على العالم، وترغب في أن تكون عالمية. ولكن حتى الآن لم تستطع أي مؤسسة أن تصل إلى المجال العالمي لأنها عندما تنتج سلعها فإنها تنتجها في السوق الاقتصادي السياسي القائم على التناحر والتنابذ والمنافسة ، وإذا كان ثمة تحالفات فإنها موقتة، بينما المؤسسة الأدبية هي الوحيدة التي لا تسقط لأنها تدخل السوق باستراتيجيتها الواحدة التي لا تتغير. إنها استراتيجية الإنقاذ، استراتيجية المحبة والتسامح، استراتيجية ملكية القناعة والطموح الروحي. ومادامت الاستراتيجية واحدة لا تتغير فإن كل مؤسسة محلية هي -رغبت في ذلك أم لم ترغب- جزء من المؤسسة الأدبية العالمية التي هي مجموع هذه الأجزاء. وكل جزء عبارة عن إسهام يصب أخيراً في الاستراتيجية الكبرى، استراتيجية الخلاص، ولا خلاص إلا بالإجهاز على أسلوب إنتاج الاقتصاد السياسي.‏

3- العمر الزمني للسلعة:‏

في بحث سابق عرضنا لاتهامات توجه إلى المنتج الأدبي، ومنها الاتهام البراغماتي الذي يتهم الأديب بأنه غير عملي، ولكننا عندما وصلنا إلى مناقشة هذا الاتهام استبدلنا كلمة البراغماتي بكلمة الاقتصادي، لننزع عنه صفة الفائدة المعنوية. إن البراغماتي في وضعه الحالي لن يكون أكثر من الاقتصادي أو رجل الأعمال، فهمه ودافعه وتربيته ومساعيه التي يصفها بأنها "عملية" هي في الحقيقة اقتصادية ضارة. إن البراغماتي لا يؤمن بالأدب والفن، ولذلك يجب ألا نطلق عليه صفة الرجل العملي المفيد، فلو كان مفيداً حقاً لآمن أن التربية العملية الحقيقية، التربية البراغماتية الصحيحة هي التربية الجمالية التي يقدمها الأدب والفن، فهي وحدها التي اثبتت جدارة عملية، وهي وحدها التي أثبتت أنها مفيدة، فإذا كان ثمة من يستحق لقب البراغماتي فإنه الأدب لأنه الوسيلة العملية الوحيدة المجدية، أما البراغماتي الحالي فإنه الابن البار للاقتصاد السياسي، فالأولى أن نطلق عليه صفة الاقتصادي المادي الساعي إلى التدمير، كغيره من جراء الاقتصاد السياسي. ولكن بما أن هذه الصفة شاعت فإن من الصعب تغيير دلالتها. وسوف يتبين لنا من عرض مسألة العمر الزمني للسلعة كيف أن الأدب هو البراغماتي المفيد دون سواه. أما البراغماتي الحالي فإنه اقتصادي مودرن .‏

كم يبلغ عمر أعظم سلعة اقتصادية؟ بضع سنوات فقط، بل لنقل أنه بضع عشرات من السنين إذا كنا متفائلين إلى ابعد حد، مع أن هذا شيء أقرب إلى الخرافة، لأن المؤسسة منتجة السلعة المادية ذاتها لا تمكث في الأرض كل هذه المدة.‏

كم يبلغ عمر أبسط سلعة أدبية؟ آلاف السنين وفق التاريخ المنظور، فنحن لا نصدق أن الآداب والفنون المصرية قد نشأت فوراً بهذه الضخامة من غير أن يسبقها تاريخ عريق جداً. ويخطرني الآن اسم جون ويست، عاشق مصر الذي لم يكن مختصاً بالمصريات بل كان أمين مكتبة في أميركا الشمالية. حشر نفسه حشراً في بعثة إلى مصر. كان قد قرأ الكثير عن الأدب المصري وعرف أن أبا الهول عريق جداً. فلما وقف أمامه ودار حوله وقدر الارتفاع الذي طمرته الرمال من أبي الهول قال على الفور أن أبا الهول يرجع إلى أكثر من عشرة آلاف سنة. ذهل رفاقه ولكنهم رضخوا لمقولته بعد الدراسة والتنقيب. فإذا كان عمر التمثال الجاثي أمامنا اليوم أكثر من عشرة آلاف سنة، فكم يبلغ عمر السلعة الأدبية التي جثم فيها طويلاً ابو الهول قبل أن يجثم فوق الرمال؟ قدروا لأنفسكم. أما أنا فإني أقول ان السلعة الأدبية التي ولد فيها أبو الهول تعود إلى عشرات الآلاف السابقة على عشرة الآلاف التي ولد فيها تمثال ابي الهول. لا شك أنه ولد في السلعة، ولا شك أنه خضع لكثير من التغيرات، على الرغم من حفاظه على دلالته الأساسية، ولا شك أنه صار محبباً للناس، ولا شك أنه مرت فترة طويلة قبل أن يفكر الناس في إقامة تمثال له.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:30 pm

سلع كثيرة من الأدب فقدت، لكنها قائمة بيننا الآن. فقدتْ كوثيقة مادية، كنقش على حجر أو طين ولكنها استمرت من سلعة إلى سلعة، وفي كل مرة كانت تتجدد، إلى أن وصلت إلينا وسوف تصل إلى الأجيال القادمة فالقادمة إلى أبد الآبدين.‏

سل نفسك الآن: أي السلعتين أجدى وأنفع، وأي السلعتين براغماتية حقاً، وأي السلعتين تحقق الإكتناز الروحي والسعادة المادية، وأي السلعتين تؤدي إلى التعاسة والإفقار: السلعة التي تبقى عشرات السنوات أم السلعة التي تبقى عشرات الألوف من السنوات، تناضل وتكافح لخلق النفس البشرية الصافية، عماد كل توازن حقيقي، ومنطلق كل حياة مطمئنة، بعيدة عن الجشع والحقد والقمع..؟؟‏

جهابذة الاقتصاد السياسي يزعمون أن السلعة تسد حاجة إنسانية، فأي سلعة هذه، وأي زعم هذا إذا كانت لا تمكث سوى سنوات؟ فهل تغيرت الحاجة بهذه المدة القصيرة، أم أنها هي التي أوهمت عقولنا بهذه الحاجة؟... السلعة الحقيقية، السلعة البراغماتية حقاً التي تعود بالنفع العملي هي السلعة الأدبية التي لو لم تكن البشرية بحاجة إليها لما عاشت حية ناضرة مشرقة تتعطش إليها النفوس كل هذه المدة المديدة. إنها السلعة الوحيدة المبرأة من العيوب، التي يحق لها أن تزعم أنها تسد حاجة بشرية. وما يزعمه الاقتصاديون من أن السلعة المادية تسد حاجة بشرية لا يصح إلا من باب واحد فقط، وهو أن هذه السلعة تخلق الشحناء بين الناس فيتقاتلون عليها، فنتوهم أنها تسد حاجة. وهذا الوهم مرده إلى النفس المريضة التي تآكلت بسبب الخضوع لمشاعر غير إنسانية في مقدمتها الملكية السرطانية. إن أي سلعة مادية هي سلعة ضارة ومفسدة إن لم تخضع لقوانين الاقتصاد الأدبي. وإذا أردنا أن نقدر أهمية أي سلعة، ومقدار الحاجة إليها، فما علينا إلا أن نقيس عمرها الزمني، فالسلعة التي لا تمكث إلا قليلاً هي السلعة النافلة، والسلعة التي يطول مكثها هي السلعة التي تفيد الناس والتي يحتاجها الناس.‏

وعندما نقول السلعة فإننا نعني تلك المادة التي تخرج إلى السوق بعد أن تمر بيد الإنسان، ولا نعني منتوج الطبيعة التي لا تعرف الضن ولا الكلال والتي بالمجان تأخذ وبالمجان تعطي... بهذا نكون قد وضعنا مقياساً من أهم المقاييس لتقدير أهمية السلعة ومدى حاجة الناس إليها: إنه العمر الزمني.‏

سوف نبين فيما بعد أن هذا العمر الزمني للسلعة الأدبية لا يسير بوتيرة واحدة عبر التاريخ من القوة والفاعلية، لكن الحاجة إلى السلعة تظل قائمة حتى عندما تكون فاعلية السلعة قليلة، لكن هذا بحث آخر.‏

كل منتوجات الطبيعة كانت خاضعة للاقتصاد الأدبي. كانت سلعاً أدبية، لكنها بعد ما ظهرت الملكية الشيطانية فقدت براءتها وانتقلت من الاقتصاد الأدبي إلى الاقتصاد السياسي، وبدلاً من أن تتجلى بجوانبها الإيجابية صارت ضارة مثل كل شيء بيد الاقتصاد السياسي، فانتقلت بذلك من تلبية الحاجة الإنسانية إلى تلبية الشهوة الذئبية.‏

4- الأزمة:‏

أشرنا من قبل أن أنجلز ربط بين الانتاج والأزمة في دورة متناوبة تمتد من ثماني سنوات إلى اثنتي عشرة سنة. فالإنتاج المادي في ظل أي اقتصاد سياسي معرض للأزمة، حتى صارت السلعة المادية والأزمة شيء واحد. يفسرون الأزمة تفسيراً مادياً، فهي ناجمة من وجود السلع في السوق حيث يكون الطلب أقل من العرض. وحتى لا تشكل السلعة المادية أزمة يجب أن يتوازن العرض مع الطلب (ترى متى حدث هذا التوازن في كل تاريخ البشرية؟). ومثل هذا التوازن مستحيل استحالة شبه مطلقة، ولهذا يلجأ أصحاب السلع إلى إتلاف المنتوج ليقل العرض أو إلى الدعاية والإعلان ليزداد الطلب. وكلا الأمرين جريمة، فالاقتصاد السياسي هو اقتصاد جرائمي في حقيقته.‏

لن نخوض في مسألة تصدير الإنتاج والحروب الخارجية والاستعمار والأمبريالية... فهذه مسائل مللنا منها ومن سماعها وصرنا نحفظها عن ظهر قلب. لكن كل ما نريد قوله هو أن الأزمة مرتبطة بالسلعة الخاضعة للاقتصاد السياسي سواء في النظام الرأسمالي أو في النظام الإشتراكي، هنا مضاربة وهناك سوق سوداء ، هنا يستغلك القطاع الخاص وهناك يستغلك القطاع العام.‏

الاقتصاد السياسي هو اقتصاد مرضي ظهر بعد انحراف النفس البشرية، وبسبب الأمراض التي تنشرها السلعة المادية. وقد بذل هذا الاقتصاد كل جهده للتخلص من الأمراض/ الأزمات التي تتكرر بصورة دورية منذ القرن التاسع عشر، بسبب الضخ المستمرّ للسلع بعد ظهور الآلات الميكانيكية والأوتوماتيكية. وهي اليوم أشد خطراً من السابق بكثير لأن المركبات السيبرنيتيكية والكومبيوترية باتت من الضخامة بحيث لم تعد تسمع نصيحتنا، فهي تتمرد حتى على مخترعيها وأصحابها والقائمين عليها. إن توقفت عن الانتاج تخلفت وإن أنتجت دمرت. ومع ضخامتها فإنها تتميز بعمرها القصير جداً فما تنصرم فترة قليلة على عملها حتى تعقبها مركبات أصغر بفعالية اكبر تزيدها دقة وسرعة، وتتحول من أداة إنتاج إلى سلعة تعرض للبيع بأرخص الأثمان، ثم لا تجد من يشتريها في بعض الأحيان. إنها في هذه الحالة تتحول من معين إلى عبء.‏

ليس علينا أن نناقش هنا مثل هذه المشكلات، ولا أن ننشيء مقابر هائلة لاستقبال المركّبات التي أحيلت على المعاش، فلنبق في بحثنا الأساسي وهو طريقة الخلاص من الأزمات المتكررة.‏

حاول الاقتصاد السياسي إيجاد حل لهذه المشكلة التي تشبه المعادلة المستحيلة. إن كل هم الاقتصاد السياسي هو تقديم طريقة للسيطرة على ما يسمى فوضى الإنتاج (في الرأسمالية) أو شحه وندرته (في الإشتراكية).‏

ومنذ ظهور الأزمات وحتى اليوم لم ينجح الاقتصاد السياسي في العثور على حل أو على طريقة يرضخ لها الانتاج أو تنصاع لها الآلات الحديثة التي تغدو في بعض الأحيان عبئاً على أصحابها.‏

لن نتطرق إلى ما قدمه آدم سميث أو كينز أو مالتوس أو تايلر أو ماركس وأنجلز أو لينين... من أساليب الخلاص من الأزمة الدورية، لأننا لا نؤمن بأن من الممكن إيجاد طريقة مجدية على يد الاقتصاد السياسي أو الاقتصاديين أو رجال الأعمال أو العلماء... علينا أن نقدم طريقتنا التي نراها الطريقة الوحيدة المجدية.‏

لنقارن بين السلعة المادية والسلعة الأدبية ونتساءل: لماذا كلما أنتجنا سلعة مادية وقعنا في الأزمة بينما كلما أنتجنا السلعة الأدبية تخلصنا من الأزمة نوعاً ما، أو خففنا من وقعها وتخريبها؟‏

كلما تراكمت السلعة المادية اشتدت الأزمة. وهذا شيء غير موجود إطلاقاً في السلعة الأدبية التي كلما ازدادت خففت الأزمة. وربما قال القاريء في نفسه هذا نوع من اللعب بالألفاظ، فمتى كان الأدب منقذاً؟... ولا لوم على هذا القول لأننا ربينا بعقلية الاقتصاد السياسي.‏

لننظر في بلدان العالم من أعظمها وأضخمها وأكثرها صناعة إلى أضألها شأنا وأصغرها عدداً وأقلها صناعة، ماذا نلاحظ؟‏

نلاحظ أن البلدان التي تستهلك السلعة الأدبية هي التي تخف معاناتها من الأزمة الاقتصادية. لنأخذ سويسرا والدانمارك والسويد والنرويج وهولاندا... فهي من أعظم البلدان استهلاكاً للأدب. قد يعجب القاريء ويقول أين أميركا اللاتينية التي يكاد أدبها يغطي الكرة الأرضية، بينما لا نكاد نسمع بالأدب السويدي أو الأدب السويسري على سبيل المثال؟‏

هنا علينا أن نميز بين الإنتاج الأدبي والاستهلاك الأدبي ، فأميركا اللاتينية منتجة حقاً لكنها غير مستهلكة، ونسبة القراء فيها هي من أقل النسب بعد أفريقيا وأطراف آسيا. فعلينا ألا ننخدع بهذا الانتشار، فما يقرأ في أوروبا من أدب أميركا اللاتينية يعادل أضعاف أضعاف ما يقرأ في بلدانها كلها. إن أعظم منتج في العالم لأدب الأطفال -مثلاً- هم السكندنافيون، فمن منا اطلع على هذا الأدب الجميل والعظيم في آن معاً؟... قلة لا تكاد تذكر، بينما يستهلك هذا الأدب ضمن الدائرة السكندنافية استهلاكاً كاملاً أو شبه كامل. إن ما تنتجه الدانمرك من أدب الأطفال فقط يعادل ما تنتجه أفريقا وأميركا اللاتينية مئات الأضعاف، وهو أدب يستهلك داخل الدانمرك وجوارها، ويبدو أنهم لا يشبعون، ففي كل يوم عشرات الكتب الجديدة.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:31 pm

لو صنفنا الدول المستهلكة للانتاج الأدبي لكانت دول الدائرة السكندنافية في الطليعة، ليس في هذا القرن المشرف على الوداع فحسب، بل منذ القديم والقديم جداً. وهي تولي أدب الأطفال الاهتمام الأول والأكبر، وتنفق الدولة على ذلك من الأموال ما لو وضعتها في المصارف العالمية لعادت عليها بفائدة كبرى جداً. بيد أنها في عملها هذا تجني فائدة مادية لا تعادلها فائدة في العالم، فقد سارت هذه البلدان طوال الحقب الماضية التي نسميها حقب الأزمات والأمراض الاقتصادية مسيرة بعيدة كل البعد عن الجائحات المالية والضائقات الاقتصادية. إنها دول لم تعرف الفقر المادي في حياتها، لأنها لم تعرف الفقر الأدبي. إنها بلدان لم تعرف في حياتها ثورة سياسية ولا أزمة اقتصادية خانقة. إنها بلدان بلا ثورات وشعوب بلا ضائقات وأزمات، وبلا انفجارات سكانية، فلا حاجة بها إلى عقد مؤتمر للسكان، والتصدي للمتشددين والفاتيكان في اعتراضاتهم التي لا تنتهي.‏

لنحاول تفسير ذلك، ماذا نجد؟... نجد أن السبب لا يكمن في طريقة الانتاج المادي (الطريقة الرأسمالية المعتدلة، أو الديمقراطية الاشتراكية) فقد كانت هذه الدول راقية قبل هذه الطريقة، ولا يكمن في الشركات الخاصة، التي تتبرع لأدب الأطفال، فهي مثلها مثل غيرها تسعى إلى الربح الوفير في الزمن القصير، ولا يكمن في موقعها الجغرافي، فهناك بلدان باردة لا تستطيع تجنب أبسط الأزمات المادية...‏

لن نتابع هذا الأسلوب في تقصي النفي وملاحقته، سنقول باختصار أن السبب يرجع بالدرجة الأولى إلى الاستهلاك الأدبي. والأهم في ذلك هو تلك العناية الموجهة إلى أدب الأطفال. إنه يحتل المكانة الأولى من دون منازع.‏

سأعرج الآن على مثال آخر واضح وهو اليونان التي كانت من أعظم بلدان العالم انتاجاً واستهلاكاً للأدب، فكانت في قمة الأمم توازناً. ثم تراجعت بعد سقوط القسطنطينية وصارت في آخر سلم المنتجين والمستهلكين، فتخلفها كان بسبب أهمالها للاستهلاك الأدبي. هذه الدولة المعتزة بماضيها الأدبي المجيد حقاً انكبت على الانتاج الأدبي واستهلاكه منذ السبعينات وبلغت في ذلك مبلغاً كبيراً في أوائل التسعينات حتى بلغ عدد الكتب المترجمة إلى اليونانية فقط ما ينوف على خمسة وعشرين ألف كتاب.‏

لنلاحظ الآن تطورها الاجتماعي والمادي. إنها صارت أقرب إلى التوازن، فقد تراجعت نسبة النمو السكاني وتقدمت نسبة الانتاج المادي، بل صارت بحاجة إلى عمالة أجنبية في موانيها، وتجنبت الأزمة المالية ومرت بعض الأزمات الاقتصادية عليها مروراً عابراً، كأزمة السبعينات وأزمة الثمانينات.‏

في ابحاث سابقة أكدنا ان ما نسميه البناء التحتي والبناء الفوقي بحاجة إلى إعادة نظر، وها نحن نكرر هذا التأكيد فنقول إن البناء التحتي هو الأدب والأخص أدب الأطفال. الأدب وحده ينتج سلعاً لا تؤدي إلى أزمة، بل إنه كلما أنتج أكثر جنّبنا الأزمات أكثر. وكلما استهلكنا هذا الأدب تخلصنا من وقعها لأن من المستحيل تنحية مكابدة الحياة تنحية نهائية.‏

لقد كانت الماركسية من أهم النظريات التي أكدت على ضرورة بناء القاعدة المادية التحتية للاقتصاد. وذهبت إلى أن القاعدة المادية هذه كفيلة بانتاج البناء الفوقي من أدب وفن وفلسفة وغير ذلك من الأمور المعروفة لنا جيداً عن الماركسية. وأعتقد أن هذه النظرة هي النظرة القاتلة لأن القاعدة المادية لا تبدأ بالمادة بل بالروح، بتهيئة النفس البشرية لملكية القناعة ومملكة التسامح، فماذا جرى عندما نجحت الثورة الشيوعية؟‏

عودوا إلى تاريخ هذه الثورة ولاحظوا كيف أنها أهملت القاعدة المادية التي نؤكدها ونلح عليها، ووطدت القاعدة المادية التقنية، فبدأت بذلك من خارج النفس البشرية. لقد غرقت في الدعاية الإعلامية وفي الأدب السياسي المحض الذي يزيد من انقسام المجتمع. إن الثورة الشيوعية أشبه بديك نزل إلى الحلبة بحثاً عن خصوم. وانصرمت السنون والثورة غافلة عن الانتاج الأدبي، وغارقة في الانتاج السياسي بل إن أدب الأطفال لم يظهر إلا في السنوات المتأخرة من عمر الثورة التي كتبت بيديها بطاقة نعوتها. كانت ثورة سياسية لا علاقة لها بالأدب. كانت تبحث عن الخلافات، فإذا تحدث مفكر في آخر الأرض، بحثت عن النقاط التي تختلف فيها معه، وجردته من عواطفه الإنسانية, وأظهرته كأنه معاد لبني البشر لا لشيء إلا لأنه وجه بعض الانتقادات إليها. كانت ثورة تريد أن تفرض نفسها لا أن تبني مجتمعاً سليماً، وهذا شأن كل حركة تقوم على الوحدانية.‏

قد يظن القاريء أن السلعة الأدبية والسلعة المادية ضدان لا يلتقيان. ربما أخطأ واستوحى هذا الظن من كلامنا الذي يعلق الآمال على السلعة الأدبية. ولإزالة سوء التفاهم في هذه النقطة نقول أن الأمر على النقيض مما قد يتوهم القاريء. إن الخلاف بيننا وبين غيرنا ينحصر فقط في النظرة إلى البناء التحتي: هل هو بناء مادي أم بناء أدبي؟ وفي الوقت الذي جرفت فيه المادة نفوسنا فأوهمتنا أنها أساس كل شيء، فإنني أقف مخالفاً لهذه الأطروحةالتي اعتبرها بليدة ومدمرة. وحتى لا أطيل أكتفي بعرض ظاهرة نعرفها جميعاً: هي علاقة المادة بالإنسان. فالاقتصاد السياسي يقول إن السلعة المادية هي الأساس وهي التي تقولب أفكارنا ومعنوياتنا. أما نحن فنقول إن الاقتصاد الأدبي هو الأساس وإليك الدليل.‏

في كل عصور الإنتاج المادي كان العنصر المدمر، العنصر الذي يخلق الأزمة، العنصر الذي يلوم غيره مع أنه المسبب الأول هو الإنسان. الآلات والسلع المادية حيادية تعمل من دون نوايا مسبقة لذلك لا يمكن أن تحدث أزمة. الإنسان هو الذي يحدث الأزمة ويوقع الخراب. ولنقترب أكثر أدخل أي مؤسسة انتاجية تجد أن ربها هو الذي يتحكم بها وهو الذي يأمر بالانتاج السلعي الذي يغرق الأسواق، أو يأمر بوقف الانتاج لتعطيش السوق.‏

لنقترب أكثر ولندخل إحدى مؤسسات القطاع العام نلاحظ أن هذه المؤسسة مهما كانت ضخمة ومنتجة وشغالة فإنه يكفي أن يديرها موظف بعيد عن الأدب حتى تتخلف وتنهار. إن موظفاً سيئاً واحداً كفيل بتدمير مؤسسة بكاملها، ورجل دولة سيء يودي بنظام حكم كامل. فالعنصر الحاسم في الانتاج ليس الآلة ولا السلعة ولا الاستهلاك ولا العرض ولا الطلب ولا الرأسمال الثابت ولا الراسمال المتغير... إنه الإنسان فقط. الإنسان وحده العنصر الحاسم. اتفقنا؟... لنتابع.‏

كيف "نصنع" هذا الإنسان؟ هل نصنعه بالعلم؟... إذن قد ينتج لنا الذرة المدمرة لا الذرة الشافية؟ هل نصنعه بالاقتصاد السياسي؟... إذن يدخل في جو المنافسة والمضاربة والسعي الحثيث لتحطيم الآخرين؟... هل نصنعه بالثقافة الاجتماعية؟... إذن سوف ينحاز لطبقته وفئته ويرى في البقية الأخرى من المجتمع خصوماً له... هل... وهل...؟ السلسلة لا تنتهي فعلينا وقفها والعودة إلى أفضل طريقة "نصنع" بها الإنسان المثالي. إنها طريقة الاقتصاد الأدبي، إنها الإنتاج الأدبي الغزير مثل أمطار الطوفان من دون كارثة، لا الإنتاج السياسي ولا الإنتاج الديني ولا الإنتاج المذهبي أو الطائفي ولا الإنتاج العرقي أو الجغرافي... لا يوجد سوى الأدب أو الأدب وحده فقط ولا شيء سواه، لأن ما سواه متمم وليس الأساس.‏

عندما نحصل على الإنسان المستهلك للأدب منذ طفولته وحتى دخوله ميدان الإنتاج المادي، نحصل على التوازن الحقيقي، وعلى الاستمرارية ونتجنب الأزمات، أو تمر علينا مروراً سريعاً بوطأة أخف. إن الإنسان الذي لا يستهلك الأدب منذ طفولته اشبه بالأحمق الذي يرفع الحجر للبناء فيسقطه على قدمه.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:31 pm

أعرف ماذا يجول في اذهانكم. تقولون أن الأزمة في حقيقتها أزمة أخلاق. سأوافق معكم، لكن كيف نبني الأخلاق؟ هل نبنيها بالمهارة الوظيفية أم بالعظات الدينية التي لم تنقطع يوماً واحداً؟ أم بالخطب القومية العارمة أم بفرض عاداتنا وتقاليدنا على أبنائنا؟... كيف؟... كيف؟‏

لا يمكن بناء أخلاق حقيقية إلا بالأدب, لأن الأدب هو السلعة الوحيدة التي تولد ولادة طبيعية والتي تستهلك استهلاكاً عفوياً من غير لجوء إلى فرض أو ابتزاز أو استغلال أو خديعة أو قمع أو إثارة حروب محلية أو عالمية.‏

القاعدة المادية تعتمد على الإنسان، والإنسان إن لم يعتمد على الأدب في بناء شخصيته فإن من العبث الإدعاء اننا أقمنا قاعدة تحتية للتقدم، فنظل أسرى السلع المادية التي تنقلب علينا فنخدمها بدلاً من أن تخدمنا، وتتحول من مارد ينصاع لأوامرنا إلى وحش يفترسنا ويثير المصاعب والفتن والثورات والحروب بمختلف أنواعها. وعندها سنظل نسمع صيحة هتلر: الزبدة أوالمدفع، هذه الصيحة التي لم تنقطع طيلة تاريخ الاقتصاد السياسي. إن كل دولة ترددها ولكن بطريقة مختلفة. هذه الصيحة ستبقى تطن في آذاننا ما لم نعمد إلى إنتاج السلعة الأدبية، القاعدة المادية الحقيقية لكل تطور. واي إنتاج؟ إنتاج يغرق البيوت والغرف ويدخل إلى المطابخ، ويمسك بالإنسان طفلاً ويظل معه طيلة حياته. إن السلعة الأدبية هي وحدها القاعدة التحتية، والبناء الأساسي لكل محاولة إنتاجية.‏

5- التلوث:‏

خضوع السلعة للاقتصاد السياسي جعلها مصدراً لتلوّث البيئة. عندما يحصل الإنسان على حاجاته من الطبيعة فإنه لا يلوث الطبيعة، ولكنه عندما يحصل عليها من يد الاقتصاد السياسي فإنها تصبح خطراً على مصير البشرية بكاملها. لقد بلغت السلعة حدّاً من الخطورة بحيث أن الدول الصناعية تستأجر أرض الدول المتخلفة لدفن النفايات السامة والمشعة. وبالطبع لم تلجأ هذه الدول إلى استئجار أراضي الدول المتخلفة إلا بعد أن ضاقت أراضيها وجوها وبحارها عن استيعاب هذه النفايات، أو أنها ترمي غيرها بالطاعون لتبقى في حرز منه.‏

يبدو أن الاقتصاد السياسي يأخذ بنظرية لافوازيه القائلة بأنه لا يوجد في الطبيعة شيء يفنى ولا شيء يخلق، فاحتراق الحطبة لا يعني زوالها بل تحولها من شكل إلى شكل، بحيث يبقى حجم الطبيعة ووزنها وجوها واحداً. لكنه بعد هذه المسيرة المشينة تبين له أن هذا التحويل يخل بالتوازن البيئي الطبيعي والحيواني، وأنه سيقود إلى كارثة إذا استمر. والمشكلة الكونية التي تشغل بال المختصين اليوم هي كيف نوقف جماح هذا التلوث، وكيف يمكن أن نعيد التوازن ولو بنسبة ضئيلة إلى الطبيعة.‏

حتى الآن لم يصلوا إلى طريقة مثلى للتخلص من نفايات السلعة الاقتصادية. إذا أحرقت لوثت الجو وإذا رميت لوثت المياه والبحار، وإذا طمرت لوثت التربة. ولا يقتصر الأمر على النفايات الموجودة التي تنقل أحياناً في صناديق رصاصية إلى عرض المحيطات وتلقى في أعماقها، بل أنه يتعدى ذلك بكثير، فقد لوحظ أن نسبة ازدياد النفايات تسيرطرداً مع نسبة التقدم الاقتصادي وازدياد السكان، وعلى هذا فإن نسبة تراكم النفايات تعادل عشرات أضعاف الكميات التي يجري التخلص منها. أليس هذا هو المارد الذي حذر منه الأدب، وقال انه قد ينقلب على صاحبه؟ كانوا يقولون خيال في خيال ووهم في وهم، فإذا الخيال حقيقة، وإذا الوهم واقع. ولو أن أديباً كتب في القديم عن خطورة هذه النفايات التي تتركها السلع الاقتصادية لما صدقه أحد، فقد دخلنا اليوم واقعاً يعتبر أبعد من الخيالات ومن التصورات مهما كانت مغالية. إن البشرية تواجه الكارثة الحقيقية.‏

مشكلة التلوث لا حلّ لها. إنها مثل مشكلة الانفجار السكاني. حاول الاقتصاد السياسي وقدّم كلّ ما في وسعه ففشل. والحل الوحيد لمشكلة التلوث -ولكل المشكلات الأخرى من سكانية وغير سكانية- يكون بوضع السلعة المادية تحت إرشاد الاقتصاد الأدبي، أي تحويلها إلى سلعة أدبية، وعندئذ يتغير الدافع إلى انتاجها، والهدف من تسويقها، ولا تظهر السلع الملوثة للبيئة أبداً، فالاقتصاد الأدبي يلبي حاجات الناس من غير أن يخلق في نفوسهم حاجات نافلة لا تلزمهم، كما يفعل الاقتصاد السياسي. إن ما يفعله الاقتصاديون اليوم هو البحث عن سلع جديدة ينتجونها مهما كانت ملوثة للبيئة، ولا شرط لهم غير أن تحقق لهم ربحاً وفيراً فقط. ويروجون لهذه السلع عن طريق تحكمهم في وسائل الإعلام الضخمة المحيطة بنا من جميع الجهات. إن الاقتصاديين أنتجوا آلة كهربائية لتقشير الثوم وفرم البصل، وراحوا يعلنون في وسائل الإعلام عن الفوائد التي تجنيها ربة المنزل من هذه الاختراعات الجديدة (تصون اليدين وتحمي الأظافر... وغير ذلك من الأكاذيب الإعلامية) فكانت النتيجة أن رب المنزل صار عبداً لهذه الآلات، ينقلها كل شهر أو كل أسبوع إلى مركز الصيانة ويدفع عنها ما يزيد عن ضريبتها، لاعناً الساعة التي أغرى فيها الشيطان حواءه بها. ولو رحنا نعدد مثل هذه الاختراعات التي صارت عبئاً لما انتهينا، فتصوروا أنهم صاروا يقدمون لنا فرشاة أسنان تعمل على الكهرباء والبطارية. إنها الاختراعات المرهقة للمواطن باستنفادها لقدرته الشرائية والاختراعات الملوثة بسبب النفايات التي تتركها خلفها، والتي سعى المختصون لإيجاد مقابر لها فلا يجدون، ويخشون أنها لن تدفن إلا وهم معها، فما أشبهها بطفل أميدية.‏

في مسرحية يوجين يونسكو "أميدية" يرزق البطل بطفل ميت غبّ زواجه. يهمل الجثة باديء الأمر ريثما يجد مدفناً لها. ولكنه يلاحظ أن الجثة تتعفن وتنمو نمواً شرساً حتى تسد المداخل ناشرة عفونتها في كل أرجاء البيت. يحاول عبثاً إخراج الجثة من المنزل للتخلص من نتنها، ولا يرى مفراً في النهاية سوى أن يرميها من النافذة، ولكنه يسقط معها. ويبدو أن التلوث يشبه هذه الجثة التي لا مدفن لها، والتي سوف تمسك بنا فندفن معها.‏

قد تظنون أن ما أحدثكم به خيال أدبي. إذن اطلعوا على تقارير هيئة الأمم للوقوف على مدى ما وصلت إليه نسبة التلوث من الخطورة، وعلى مقدار ما ينفق من أموال للتخلص من "الجثة الملوثة".‏

أما عندما تخضع السلعة للاقتصاد الأدبي فإن الخطوة الأولى سوف تكون وقف التراكم، تليها خطوة التخلص من النفايات تدريجياً وليس كما يفعلون اليوم. إن التخلص الفوري يرهق الطبيعة ولا يفسح لها مجال إعادة التوازن، في حين أن التخلص التدريجي يتيح للطبيعة هضم هذه النفايات. بهذه النظرة الأدبية يمكن أن تعالج تلك المشكلات. أما كيف يتم إخضاع السلعة للاقتصاد الأدبي فله كلام في غير هذه المناسبة.‏

إن تلوث البيئة يبدأ من النفس البشرية، فبحسب دوافع هذه النفس يكون التلوث. وبما أن النفس منساقة وراء الملكية الجشعة، فإن من العبث ضبط السلعة الملوثة. وكل اقتصاد لا يضبط النفس فإن من المستحيل الحديث عن "مباديء" يمكنها أن توقف التلوث أو تتجنب الأزمات حتى لو كانت هذه المباديء أضعاف ما هي عليه في الاقتصاد السياسي الحالي.‏

نحن لسنا بحاجة إلى وعي علمي أو وعي اقتصادي، بل نحن قبل كل شيء بحاجة إلى وعي أدبي لأنه الأساس الضابط لكل وعي علمي أو اقتصادي أو اجتماعي أو فلسفي أو سياسي أو أخلاقي... فبهذا الوعي وحده يمكن ترسيخ القاعدة الأساسية التي تضبط كل الخطوات الأخرى من علمية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فلسفية أو سياسية أو أخلاقية. وما لم تتوطد هذه القاعدة الأدبية فإن البشرية ستظل تتخبط وتتصارع وتسير إلى بؤس دائم ودمار مؤكد أشبه بالدمار الذي حدثتنا عنه الميثولوجيا الاسكندنافية في أعقاب انتصار القوى الشريرة. إنهم يطلقون على هذا الدمار اسم "اغناروك" أي يوم القيامة.‏

نقاط كثيرة تطرح نفسها هنا، بيد أن ما طرحناه من النقاط يعطي الدلالة الأولية، وهي ما نرمي إليه. إن التوسع في الاقتصاد الأدبي له مناسبة أخرى.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:32 pm

الفلز الأدبي

يتكون الفلز الأدبي من عناصر كثيرة لا حدود لها، من أبسط المخلوقات وحتى الجن والعفاريت والعوالم الكونية، بل والعوالم الأخرى، ولكن ضمن عملية المثلجة (الارتقاء فنياً إلى الميثولوجيا حيث صورة المجتمع المنشود). الفلز الأدبي هو أعظم احتياطي انتاجي في العالم، وهو الاحتياطي الذي لا ينضب. ولكن قبل ذلك دعنا نبحث عن المنجم الذي منه نستخرج هذا الفلز ونهيئه.‏

المنجم الذي منه نستخرج هذا الفلز هو "الخيال الأدبي". وحتى تكون السلعة المادية ذات رسالة روحية أدبية، لابد من أن تخضع للخيال الأدبي. نعم للخيال الأدبي الذي يتعامل مع الجنيات والحوريات وأماليد غابة لم ترها عين وألحان سيرينات لم تسمع بها أذن... ومع ذلك فإنه واقعي كل الواقعية لأن هدفه خلق مجتمع حقيقي ذي معادلة إنسانية تحفظ التوازن وتنتزع الشهوة الذئبية من الانتاج المادي. فما هذا الخيال الأدبي؟‏

الخيال الأدبي ليس العوالم الأخروية ولا الكائنات الوهمية ولا أشباح الغابة... هذه وسائل يستخدمها الأدب استخداماً. الخيال الأدبي هو صورة المجتمع كما يجب أن يكون، لا بأخلاقه المعنوية وحسب، بل أيضاً بطريقة انتاجه المادي. وحتى يكون حديثنا سهلاً سوف نجعل المجتمع مجتمعين: المجتمع الوهمي والمجتمع الواقعي، فالأول هو المجتمع الذي نعيش فيه والثاني هو الجتمع الذي نريد أن نعيش فيه، الأول وهمي لأنه يتغير باستمرار، والثاني واقعي لأنه ثابت والنضال من أجله هو أرقى مهمة إنسانية، الأول لا يثبت على شيء: ترى مؤسسات ضخمة ومنظمات قوية ولكنها في حقيقتها وهم في وهم لأنها - كما يقول دانتي سوف تزول، وتقوم مؤسسات ومنظمات بديلة، لكنها هي الأخرى سوف تزول، فنحن نتعامل مع الوهم وندعوه واقعاً، وهذه خطيئة من أشد الأخطاء الإنسانية. أما المجتمع الأدبي فإنه المجتمع الواقعي لأنه سوف يثبت لأن علاقاته سليمة. وهكذا فإننا نتعامل مع العابر ونسميه واقعاً، ونتعامل مع الثابت ونسميه خيالاً، وهي مغالطة تخالف أبسط مباديء المنطق.‏

بعد أن بينا أن الخيال الأدبي هو الواقع، وأن الواقع الاقتصادي هو الوهم، ننظر في هذا الخيال لنعرف طريقة انتاجه. فهو أضخم مكنة إنتاج عرفتها البشرية، تنتج سلعاً ذات هدف إنساني لا يتغير مدى الدهور، وهي ملتزمة بالمجتمع الواقعي المنشود.‏

إن الهدف هو الذي يحدد نوعية الإنتاج. وبما أن هدف الخيال الأدبي هو خلق مجتمع الفرح فإنه ولا شك يقدم صورة لمجتمع صحي سليم ليس فيه بغضاء ولا صراع ولا اقتتال ولا استغلال... وهذه المواصفات ناجمة من أهداف الانتاج الأدبي الذي يعمل على تطويع الإنتاج المادي لأهدافه. لا شك أنه مضطر إلى التعامل مع المجتمع الوهمي القائم والآيل إلى الانهيار، فهو يستخدم بعض مظاهر هذا المجتمع الوهمي وإن كانت عابرة، لكن استخدامه لعناصر هذا المجتمع يرقى بها إلى النمذجة حتى تصير صالحة للفن الأدبي وتخدم هدفه، أي أنه يمثلجها (يجعلها اسطورية بمعنى أنه ينتزعها من عالمها ويخضعها لمقتضيات الفن الأدبي وهي مقتضيات اسطورية).‏

والاسطورة هي بالضبط المجتمع الواقعي الذي يجب أن يحل محل المجتمع الوهمي العابر الذي نعيش فيه. والاسطورة هي الحلم الإنساني، والحلم هو الواقع الذي نريده، فهو ليس فردياً بل رغبة جمعية. ولهذا كانت الأحلام واحدة لدى جميع البشر، وبالتالي فالاسطورة واحدة لدى جميع البشر. ووظائف الاسطورة كثيرة يهمنا منها التفسير والتحذير والتدبير، وهذه الوظائف متآزرة فيما بينها، فعندما نقع على اسطورة تفسر لنا نشأة الكون نلاحظ أن هذا التفسير يشتمل على التحذير والتدبير، فتفسير النشأة مثلاً يطلعنا على ضرورة الحذر من الكائنات المتوحشة التي تفسد توازن الكون والمجتمع وتعلمنا كيف ندبر الأمور لنخلق الانسجام في كوننا ومجتمعنا. ففي الاسطورة التفسيرية نلاحظ أن الكون المنظم الذي نراه اليوم قد نشأ من الكاوس، أي العماء الفوضوي، بعد حرب ضروس ضد المخلوقات الشريرة التي لا تعيش إلا بالفوضى والتي تقف في وجه كل تنظيم.‏

وفي الأسطورة التحذيرية نلاحظ أن النجاح لا يكون إلا بالتغلب على الوحوش المريعة، سواء كانت من الطيطان القدماء أو من أرباب الاحتكارات المحدثين، فتركز هذه الأسطورة همها في التحذير من هذه الوحوش، أي الظواهر المعيقة أمام إقامة التوازن والانسجام في الكون والحياة.‏

وفي الأسطورة التدبيرية نلاحظ تأكيداً على العناصر الجميلة التي تقدم باعتبارها مثلاً جمالية عن طريقها يمكن إشاعة الاحساس بالجمال، وهذه أهم خطوة في التربية الجمالية التي إن توطدت هيأت الجو للانتصار على الاقتصاد السياسي ومفاسده.‏

لو نظرنا في كل الأساطير لوجدنا أنها كلها تدور في هذه الأطر التي أشرنا إليها، وهناك أطر أخرى ليس هنا المكان المناسب حتى للإشارة إليها. إن الأسطورة بحاجة إلى مؤلفات خاصة لأنها أعظم فلز أدبي يمكن أن نعتمد عليه في بناء الأسس التي عليها يجب أن تقوم الحياة والعلاقات البشرية. إن الأسطورة هي الهداية للانتقال من العالم الوهمي الذي نعيشه إلى العالم الواقعي الذي ننشده ومن دونها لا يمكن أن نحقق هذه النقلة النوعية.‏

لماذا يرتبط الاقتصاد الأدبي بالأسطورة دائماً؟‏

لسبب بسيط جداً وهو أنه يسعى إلى تقديم الصورة الأمثل بتفسيراتها وتحذيراتها وتدبيراتها ومن دون مثلجة ما يجري بين البشر لا يمكن تقديم هذه الصورة، فالمثلجة هي الارتفاع بالأحداث والشخصيات البشرية إلى مستوى الأسطورة، حيث تتم عملية النمذجة، سواء كانت هذه النمذجة إيجابية أو سلبية. وهذه أهم عملية في عمليات الاقتصاد الأدبي، لأنها العملية الواقية من الانجراف وراء انحرافات البشر، فالفلز البشري لا يكتسب جدارته إلا بالمثلجة، فيتحول إلى فلز أسطوري، إذ قد يخدعنا الفلز البشري بأن الثروة -مثلاً- أساس المجتمع، أما الخيال الأدبي فلا يخطيء، إذ كل أساطيره ترى في الثروة مفسدة. وما يقال عن الثروة يقال عن بقية عناصر الاقتصاد السياسي.‏

باختصار نقول إن من المستحيل أن نبني مجتمعاً واقعياً بالاعتماد على فلز الاقتصاد السياسي. إن ما قام به ماركس وانجلز ولينين هو الاعتماد على هذا الفلز معتقدين أنه يحمل في أحشائه جرثومة دماره من جهة، وأن فشله يؤدي إلى قيام طريقة جديدة سليمة لانتاجه، لكن الذي حصل هو أن قذارة هذا الفلز ظلت مختبئة في النفس البشرية، وبعد زعمهم أنهم قضوا عليه قضاء مبرماً خرج من مخبئه وانتشر من جديد، فهو كالسرطان إن بقيت منه خلية صغيرة عاد بطريقة جديدة إلى الانتاج.‏

إن كل ما أرادته الماركسية تحقق في الاتحاد السوفياتي من تغيير طرائق الانتاج وتوزيع الثروة وغير ذلك من عناصر الاقتصاد السياسي الأخرى. لكن شيئاً واحداً لم يتحقق وهو النفس البشرية. كانت نفساً خالية من الأدب، والنفس بلا أدب لا يمكن إلا أن تعيد طرائق الانتاج التي تخدم الاقتصاد السياسي. ليس هذا وحسب، بل نجد أيضاً أنهم كافحوا الاقتصاد الأدبي فزعموا أن هذا أدب قديم وإن ذاك أدب لا يتلاءم مع الطرائق الجديدة في الحياة. منعوا انتاج دستويفسكي... دستويفسكي الذي رأى أن الجريمة لا تجتث بالعقاب بل بتطهير الروح، بالتسامح والتضحية. وصموه بالرجعية فانهاروا وظل شامخاً. لقد كان الاقتصاد السوفياتي معادياً للاقتصاد الأدبي، فعلى يديه تحول الأدب الفني إلى أدب سياسي دعائي، أي إلى خادم للاقتصاد السياسي، وكانت النتيجة أن زعماء الاشتراكية تحولوا اليوم إلى أغنى أغنياء العالم. إن كل معالجة بوسائل الاقتصاد السياسي سوف تؤدي إلى هذه النتيجة الوخيمة، بل إن هذه النتيجة تتحول إلى عقبة جديدة أمام التحرر الإنساني فقد تراجع الاتحاد السوفياتي مئات السنين خلفاً، على الرغم من الركام الهائل الذي يملكه من الأسلحة.‏

إن لم نعتمد على الفلز الأدبي، وإن لم نرب صغارنا على الأسطورة، فإن من العبث العثور على حل يعيد التوازن إلى الحياة والطبيعة ويحقق الانسجام في العلاقات.‏

كل الأساطير هي من إنتاج الخيال الأدبي، ومعنى ذلك أنها كلها تصب في هدف واحد وهو إقامة المجتمع الواقعي والإجهاز على المجتمع الوهمي الذي نعيشه، فهي كلها فلز صالح لإعادة الصياغة وفق المتغيرات المستجّدة في كل العصور، من غير تمييز بين ميثولوجيا وأخرى، من هندية وفارسية وسومرية وإغريقية ومكسيكية، ولكن قد تستخدم عناصر أكثر من عناصر أخرى، فالأدب الحديث مثلاً يتجه إلى الأخذ بالميثولوجيا السكندنافية فيما يتعلق بالدمار الكوني والنهايات البشرية، بيد أنه لم يفقد الصلة -فيما عدا ذلك- بالميثولوجيات الأخرى على تنوعها، لأنها جميعاً لا تختلف إلا بالأدوات التعبيرية، فهي موضوعة لإقامة مجتمع واقعي مستقر، بعيد عما يجري في مجتمعنا الوهمي العابر، مجتمع الاقتصاد السياسي، بل إن بعض الأساطير تكاد تكون واحدة كالطوفان والنار والعالم السفلي والعالم العلوي ونشأة الحياة وخلق الإنسان، وغير ذلك مما لا يتسع المقام للتعريج عليه.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:33 pm

الواقع الاجتماعي

الأدب الحديث يشن حملة شعواء على الواقع الاجتماعي. إنه يدينه ويرفضه ويفكّكه بتحليل نقدي لا يرحم، ولا يفتأ يهاجم كل مظاهره ويبين أنه مجتمع وهمي عابر. ونحن نميز بين لأدب القديم والأدب الحديث بشمولية الإدانة فقط وليس بشيء آخر، فاستراتيجية الأدب لم ولن تتغير في يوم من الأيام.‏

لماذا هذه الإدانة الشاملة في الأدب الحديث للواقع الإنساني؟‏

لأن الاقتصاد السياسي أحرز في هذا العصر انتصارات صاعقة، فقد مدّ يده إلى كل شيء وحوّله إلى سلعة تباع وتشرى، فوصل إلى كل ما هو لصيق بالأدب كالموسيقى والرياضة والرسم، بل امتد حتى إلى بعض أطراف الأدب.‏

كان الأدب القديم يرى بعض الإيجابيات في مجتمعه الوهمي العابر فيستخدمها بإدخالها في حيز الأسطورة ويجعلها خالدة كالكائنات الأسطورية سواء بسواء. أما الأدب الحديث فيبدو أنه نفض يده من هذا الفلز ولم يعد يجد فيه إلا فلزاً يصوغ منه النموذج السلبي وحسب.‏

إن كلمة مجتمع هي كلمة معقدة وغامضة، على عكس ما تبدو لنا أول الأمر، فالمجتمع فرد وأسرة وارتباطات وفئات وطبقات ومؤسسات ومنظمات وأديان ومذاهب ودولة وحكومات وموظفون وجباة وسجون ومعتقلات وأسواق وصفقات واستغلال واستثمار ولكن عندما نقول أو نسمع هذه الكلمة نفهم منها الطابع العام للحياة في زمن معين. فكل مجتمع بهذا المعنى هو طابع عام ولكنه وهمي لأنه عابر وسوف يتغير مهما كان محافظاً. إن الثورة الصناعية عصفت بما كان يعتبر انكليزياً صميماً، بل إن امتداد انكلترا إلى المستعمرات غيّر الكثير مما هو انكليزي أصيل.‏

يشكل المجتمع بالنسبة للأدب فلزاً متغيراً، وهذا الفلز يضفي على الأدب الجدة والطرافة باستمرار. وعندما نقول عن أدب انه جديد فإننا لا نقصد سوى أنه تعامل مع المفرزات الجديدة للمجتمع وعاف المفرزات القديمة المنقرضة أو الآيلة إلى الانقراض. إن الأدب في هذه الأيام لا يستطيع أن يحدثنا عن أسرة ريفية في بيت صغير مع بقرة وخروفين وعدة نعجات. يبدو الأمر غريباً وغير مقبول ولكنه يحدثنا عن أسرة جديدة تهيمن كالطاغوت، أو أسرة تتحمل عناء هذا الطاغوت، عن ملوك الاحتكارات، وعصابات القتل الصامت.‏

فلز الواقع الاجتماعي يمد الأدب بكل ما هو متغير، فروايات ديفو لاقت إقبالاً لأنها رصدت هذه المتغيرات، ولولا نمو الاقتصاد السياسي ونشوء طبقة جديدة وبروز دور المرأة لما اطلعنا على مغامرات روبنسون كروزو ولا على الحياة الصاخبة لمول فلاندرز.‏

قد تطول أحياناً فترة العلاقات الاجتماعية الناجمة عن طريقة الانتاج فيظن بعض الأدباء أنها علاقات أبدية، ويعمدون إلى معاملتها كأنها القاعدة الأساسية لصياغة العلاقات. إن مثل هذا الانتاج الأدبي يصاب بالركود والكساد ثم الإغفال والنسيان، حالما تتغير العلاقات الاجتماعية، فشرط الانتاج الأدبي الحقيقي هو حذف الزمن عن طريق المثلجة، أي جعل الميثولوجيا مقياساً ورائزاً مبدئياً فالروائي عندما يتعامل مع الواقع العابر عليه أن يمثلجه فيكون استخدامه لعناصر هذا الواقع استخداماً واعياً، بحيث يعرف القارىء أنه أمام مجتمع وهمي لابد أن يتغير في يوم من الأيام، لسبب بسيط هو أنه لا يتطابق مع الميثة الأولية التي أنتجها الخيال الأدبي، والتي أودع فيها تصوره لمجتمع بعلاقات سليمة وبترشيد اقتصادي بعيد عن الشهوات الذئبية.‏

معظم المفكرين رصدوا العلاقة بين الأدب والمجتمع كالمنظر الماركسي بليخانوف وعالم الجمال شارل لالو والناقد الأدبي دافيد ديتشز وكثير من أمثالهم، وقد انتهوا إلى نتائج متقاربة نوعاً ما وإن كانت اتجاهاتهم مختلفة. ومما أجمعوا عليه أن الأدب يتأثر بالمجتمع ومنه يستمد كثيراً من الفلز الأولي ، وبعضهم ركز على الطبقات ، وبعضهم ركز على التغيرات الشمولية ، وبعضهم ركز على المؤسسات والأنظمة الأيديولوجية... والمعروف أن رصد مثل هذه الشبكة ليس بالأمر السهل، وإسهامات هؤلاء المفكرين تعد جهداً كبيراً في هذا المجال.‏

وحتى لا نقع في تلك الشبكة المربكة نقسم الفلز الاجتماعي إلى قسمين: قسم سريع العبور وقسم بطيء العبور، فالقسم الأول هو المؤسسات والنظم والعلاقات المرتبطة بالاقتصاد السياسي كالثروة والمصنع والسلعة والسوق، والقسم الثاني هو تلك الإيديولوجيات التي تطوى كثيراً من المؤسسات الاقتصادية وتبقى صامدة في وجه الزمن مدة أطول كالدين مثلاً، فكيف يتعامل الخيال الأدبي مع هذا الفلز؟‏

فيما يتعلق بالفلز السريع العبور، فإن الخيال الأدبي يتخذه مثالاً على تردي الاقتصاد السياسي وتخلف البشر، فالثروة مدانة لأنها مفسدة، والقانون الذي يحكم الثروة في النتيجة الحاسمة ليس الاقتصاد السياسي، بل دولاب الحظ، كما يقول دانتي، ولو أن الثروة دائمة لكانت الأسر الغنية القديمة ماتزال تمتلكها حتى هذه الأيام، وليس غريباً أن يستولي لص واحد على ثروة مؤسسة بكاملها فيؤدي بها إلى الدمار، وليس نادراً أن تؤدي وفاة رب أسرة إلى طمر أسرار الثروة معه وقد درجت العادة اليوم أن اللصوص يهربون أموالهم إلى الدول الأجنبية فيودعونها بأرقام سرية فتموت بموتهم... أشياء وأشياء كثيرة لا تقتصر على الثروة وحدها بل تشمل كل عناصر الاقتصاد السياسي، وقد بلغ الأمر ببعض الأدباء أن يتخلوا عما ورثوه من ثروة، لأنها لا تنسجم مع طبيعتهم كتولستوى مثلاً.‏

موقف الأدب من الفلز السريع واضح، وهو اتخاذه نموذجاً لتشويه العلاقات الاجتماعية. كل الأدباء ساروا في هذا الاتجاه، بيد أن أونوريه دي بلزاك يعتبر أغزرهم إنتاجاً وأدأبهم على تقصي آثار هذا الفلز الذي يفرزه الاقتصاد السياسي. وإذا كان دانتي قد كتب رائعته "الكوميديا الإلهية " في ثلاثة أجزاء ، وجعل همه الدخول إلى قلعة العقائد الدينية ، فإن بلزاك كتب الكوميديا الانسانية وجعلها في مئة وتسعين جزءاً أو زهاء هذا الرقم، وكما طاف دانتي ممالك الآخرة طاف بلزاك ممالك الدنيا، فلم يبق ظاهرة لفتت نظره إلا خاض فيها، من الحب والزواج حتى الحروب وانهيار الدول، من حياة الطفل الصغير إلى حياة العاهل الكبير، وقد ساعده في ذلك النمو في وسائل الانتاج وما أحدثه من تغير في العلاقات الاجتماعية، فقد كانت هذه العلاقات الجديدة ثورة كاملة، كأنما أوروبا تودع عالمها القديم. إن سانشو بانزا، تابع دون كيشوت كان "ميالاً" إلى الثروة والسطلة، ومع ذلك كان محباً لمعلمه وسيده ويحترم مثله وقيمه. في الملهاة الإنسانية جعل بلزاك إبطاله من السانشوبانزات، وقد تحولت ميولهم إلى حقيقة، يهيمنون على كل شيء، على كل مقاليد الأمور تقريباً، ولكن لم يعد في قلبهم ذرة من الاحترام للمثل والقيم، فقد تلاشت أبسط المشاعر الإنسانية في أعقاب الثورة الصناعية الأولى وهيمنة الاقتصاد السياسي على كل فروع الانتاج المادي.‏

أما تعامل الأدب مع الفلز البطيء، وعلى الأخص الدين، فإنه مختلف، إذ في هذه الحالة يخضع الدين لتجربة الأنماط الأولية التي تشكلت عبر أجيال وأجيال، فما كان منه متفقاً مع هذه الأنماط دخل الأدب وصار رمزاً من الرموز، وما خضع منه للاقتصاد السياسي اتُخذ نمطاً سلبياً. فقبل المسيحية مرت المجتمعات الأوروبية بأديان وأديان، لم يبق منها إلا الشذرات التي اختارها الأدب لدلالتها النمطية. أين الفيثاغورية والغنوصية والباخية والديمترية والميثرية والأورفية والأوزيريسية وغيرها من الأديان؟... كلها تلاشت وتراجعت ولم يبق منها إلا ما صوره الأدب، أي لم يبق منها إلا ما كان فلزاً أدبياً، لأن الأدب يُسقط من الدين ما لا يتفق والتطور الروحي للإنسان كنزعة التعصب والانغلاق والكراهية التي يكنّها دين للأديان الأخرى، فالأديان تخضع للنظرة الأدبية كغيرها من الظواهر الاجتماعية. إنها فلز عابر وإن كانت حركته بطيئة تستمر أحياناً مئات الأجيال، وكل أدب لا تتحقق فيه مقومات الإبداع ينسى حتى لو كان تحت مظلة الدين، فنحن اليوم لا نذكر الأدب الذي انضوى كلياً تحت راية المسيحية بينما نذكر الأدب الذي امتص من المسيحية رحيقها وترك قشورها اليابسة التي استخدمها الاقتصاد السياسي. وربما كانت مسرحية موليير "طرطوف" في القرن السابع عشر مثالاً واضحاً لموقف الأدب من الدين. إن طرطوف -بطل المسرحية- يمثل نموذجاً سلبياً لرجل الدين، فهو ابن الاقتصاد السياسي الذي أدخل إلى المجتمعات أخلاقاً جديدة من نفاق ومنافسة وجشع وتهافت على الثروة. فأدب الدين المسيحي لم يصمد أمام الاقتصاد السياسي الجارف، إذ خضع لقوانينه وانجرف في تياره والقيم الانسانية -وهي متقاربة في كل الأديان- استخدمت كأي مادة من مواد الاقتصاد السياسي، والوجه الإنساني للدين هو الذي نجده في الأدب وليس في الكتب الدينية وما أكثرها في العصور الوسطى. إن الوجه الإنساني لديمتر وباخس وأثينا وأبولو والمسيح يتجلى في الأدب. إن الجانب الذي يقره الأدب هو الجانب الإنساني، والجانب الذي يرفضه هو الجانب الذي سوف يزول مهما طال الزمن. إن الأدب يرفض موقف موسى عندما صرع مصرياً تنازع مع يهودي من دون أن يقف على سبب النزاع، بينما يقدر موقف ابن الخطاب تقديراً عالياً عندما عاقب ابن قائد كبير لأنه ساط مصرياً سبقه في الحلبة. إن دين صلاح الدين الأيوبي لم يحل دون تقدير الأدب لمواقفه التي تناقلها الغرب والتي تدل على إنسانية التعامل مع الأغراب.‏

لقد كان الاقتصاد السياسي أسوأ ما عرفته البشرية، فهو الذي أطلق الشهوة الذئبية التي تدوس كل القيم الإنسانية. وقد أشاربلزاك إلى ذلك بجهبذية في المقدمة التي كتبها لكوميدياه. يقول: فزوجة تاجر هي جديرة بأن تكون زوجة أمير، وغالباً ما تكون زوجة أمير أقل قدراً من زوجة فنان، فللحالة الاجتماعية مفاجآتها التي تسمح بها الطبيعة، إذ أن الطبيعة مضاف إليها المجتمع، فوصف الأنواع الاجتماعية هو على الأقل ضعف وصف الأنواع الحيوانية... فلدى الحيوانات لا يوجد إلا القليل من المآسي، فبعضها يهاجم بعضها الآخر، وهذا كل شيء، أما البشر فبعضهم يهاجم أيضاً بعضهم الآخر، لكن الاختلاف في درجة الذكاء هو ما يجعل المعركة أكثر تعقيداً (مدخل إلى قراءة بلزاك ص165 ترجمة ميشيل خوري وزارة الثقافة، دمشق 1993).‏

ولا أدري لماذا قال المجتمع ولم يقل الاقتصاد السياسي، ولو فعل لكان أكثر تحديداً لأن دخول الاقتصاد السياسي بهذه القوة وسيطرته على المجتمع هو الذي يجعل الدنيء بماله يستحوذ على أرقى النساء ثقافة وأدباً، مما يدخل الاضطراب والتشويش في المجتمع. إنه يفكك الأسرة، الخلية الأساسية لكل مجتمع. لقد صار المال هو الذي يقرر الفضائل والرذائل، وهو الذي يقلب الفضيلة إلى رذيلة، ويجعل من الرذيلة صنماً للعبادة.‏

هذه هي النقطة التي أردنا إبرازها، أما سواها فقد عالجه كثير من المفكرين والنقاد في كتبهم.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:34 pm

الأنماط الأولية

هل الاقتصاد الأدبي خاضع -كما هو شائع خطأ- للخيال الفردي؟... هنا سوف نعود إلى مثال ورد في الفقرة السابقة، وهو مثال يتجلى في موقفين: موقف موسى الذي انحاز لابن دينه وصرع المصري من غير تحقق وموقف ابن الخطاب الذي انتصر للمصري بعد التحقق من دعواه، وهو ليس ابن جنسه ولا ابن دينه، فعاقب ابن جنسه وابن دينه وابن فاتح مصر أيضاً. ونعود إلى هذا المثال لأننا ذكرناه فقط، وإلا فما أكثر الأمثلة. لنفرض أن أديباً محترماً جن في لحظة وانساق وراء خياله الفردي، بدلاً من خياله الأدبي -ومثل هذا التحول لا يتحقق إلا إذا أصيب الأديب في مخه، أو إذا شرب من خمرة باخوس ما يتجاوز حدود المتعة وعالم الوجد الأدبي- وراح يهذي ويقدم لموسى صورة زاهية، كأن يجعله بطلاً من أبطال اليهود ورئيساً دينياً حقيقياً ينتصر لجنسه ودينه، ويرى في قتل المصري عملاً رائعاً، ومأثرة بطولية، أو يرى في عمل ابن الخطاب عملاً مرفوضاً، لأنه لم ينتصر لابن جنسه وابن دينه على ذلك الغريب الذي لا يمت بصلة إليه. ماذا نقول في هذا الأديب؟‏

سنقول إنه مجنون ابن مجنون، أو على الأقل نقول أنه لا علاقة له بالأدب ولا بالخيال الأدبي.‏

وسوف ننظر في مثال آخر، وهو مثال إيجابي هذه المرة وهو رواية توماس مان "يوسف وأخوته". إن توماس مان يهودي بغض النظر عن إيمانه أو عدم إيمانه، ويوسف يهودي أيضاً، لكن توماس مان لم يقدم لنا يوسف زعيماً دينياً متعصباً، بل قدمه في ملحمته الطويلة بطلاً إنسانياً ذاق العذاب ولم يتخل عن موقفه الإنساني، فقد رمي في الجب من قبل إخوته، ثم دخل مصر وخدمها بكل إخلاص مثلما خدم إخوته عندما تعرف عليهم.‏

الخيال الأدبي ليس متسيّباً ولا يقع أسير النزوات الفردية أو الخيالات الذاتية مهما كانت راقية وكل انسياق وراء الذاتية يجعل الأدب نافلاً، أو وثيقة من الوثائق التي قد تفيد الفلسفة أو علم النفس أو علم الاجتماع... لكنها لا يمكن أن تدخل حيز الأدب.‏

الخيال الأدبي له أطر وتقاليد وقوانين لا يستطيع الخروج عليها، فهو يسير وفق الأنماط الأولية ولا يستطيع مخالفتها. والأنماط الأولية هي اللوحة التي وضعتها البشرية من أجل خلاصها، وهي التي تقدم لنا ما سبق أن ذكرناه، أي التفسير والتحذير والتدبير.‏

سبق وأشرنا إلى أننا أمام نوعين من الفلز: الفلز الأسطوري الذي يتألف من الكائنات الهيولية والخيالية والفلز الواقعي الذي يتألف من الواقع الإنساني الذي هو أشبه بالرمال المتحركة ويتغير باستمرار. ومن هذين الفلزين تتشكل الأنماط الأولية التي هي العمود الفقري للاقتصاد الأدبي الذي يرمي إلى توجيه النشاط المادي للإنسان، بحيث تنشأ علاقات صحية وسليمة، وخطوة خطوة يمكن - إذا اتعظ البشر واهتدوا بالاقتصاد الأدبي- أن يقوم المجتمع الواقعي بدلاً من المجتمع الوهمي، والذي يقبع الاقتصاد السياسي خلف وهميته ويعمل باستمرار على تدميره.‏

قلنا إن الكائنات الميثولوجية تشكل طرفاً والكائنات الإنسانية ضمن واقعها من جبال وبحار وكهوف وغابات تشكل الطرف الآخر. ومن تفاعل هذين الطرفين تتكون الأنماط الأولية التي قد نعتقد خطأ أنها أنماط خيرة وأنها أشبه بالمواعظ الدينية التي ترشد الإنسان إلى الطريق القويم. ونصحح هذا الاعتقاد المغلوط فنقول إن الأنماط الأولية ليست خيرة وليست شريرة وإنما فيها الخير والشر ولكن بطريقة فنية. فالأم كنمط أولي لا تكون دائماً الأم المُضحّية ولا الأم الحنون، فقد عرفنا أنماطاً أولية ظهرت فيها الأم المتوحشة والأم المفترسة، وإذا كان الأب قد ظهر في بعض الأنماط قاتلاً لأبيه أو لأبنائه، مثل زيوس مثلاً، فإنه ظهر في أنماط أخرى بطلاً مضحياً في سبيل البشرية، فالرب اودن السكندنافي لم يقترف جريمة لا بحق أبيه ولا بحق أبنائه، بل وهب نفسه لإسعاد البشرية، وقد قام بمغامرة خطيرة فقد على أثرها أحدى عينيه، وهي المغامرة التي قام بها لإحضار خمرة الميد ومنحها للبشر التعساء من أجل إسعادهم. ولهذه الخمرة ميثة دالة فيما يتعلق بالأنماط الأولية:‏

رأى اودن أن البشرية تغرق في جهالة مطبقة وحزن دفين. وهذه حالة لا تصلح لاستمرار البشرية فلابد من توفير الرونات والميد لها حتى تستمر . الرونات هي ألواح المعرفة والميد هي خمرة الشعر. المعرفة تهدي الإنسان في شؤونه المادية والخمرة تبعث فيه البهجة وتجعله شاعراً، أي كريماً سموحاً يتغاضى عن خطايا الآخرين ولا يعرف قلبه غلاً ولا حقداً ولا ضغينة. وقد سعى اودن وتعذب من أجل ذلك، فعلق على شجرة ريح صخرية تسع ليال وطعن بحربة. وبالمعرفة اهتدت البشرية، لكنها ظلت تتعذب فالمعرفة تعني إقامة الحق، وبالحق لا تسعد البشرية، لابد لها من المسامحة والرحمة وتجاوز الأخطاء والإساءات، فغامر اودن مرة أخرى وسرق من عند العمالقة خمرة الميد التي تجعل من يشربها شاعراً يحسن لمن أساء إليه ويتجاهل حقه ويمنح المغفرة للخطاة... وبهذه الطريقة تستمر البشرية وترتقي الحياة. ولكن -للأسف- لم يشرب كل الناس من خمرة الميد، ولذلك فإن شاربيها من المنتجين الأدبيين هم القلة في البشرية، إنهم الذين شربوا من خمرة الميد فعرفوا فنّ صناعة الفرح والتعزية. وعندما يذوق الناس جميعاً من هذه الخمرة يصلون إلى المغفرة التي جعلها لنا دستويفسكي قانون الوجود البشري، وبذلك تشيع السعادة التي يجدها المرء في المسامحة لا في الانتقام وفي العطاء لا في الأخد، وليس كما يفعل الاقتصاد السياسي الذي يرى أن السعادة تزداد بمقدار ما تزداد الثروة... فهو يجعل الحياة الإنسانية -كما يرى بلزاك- أدنى من حياة البهيمة.‏

هذه الميثة عن اودن هي ميثة أولية نجدها في كل الميثولوجيات، وبالأخص الإغريقية، وسوف نعرج عليها عندما نوجز تاريخ الاقتصاد الأدبي في بحث لاحق، ولكن بإخراج إغريقي مختلف، وهي ميثة بروميثوس ووصيته لابنه ديوكاليون ببناء فلك يقيه من طوفان الآلهة، حتى إذا علا الموج وطغى رسا الفلك على قمة البرناس ومن هذه القمة يتعلم ديوكاليون الفن والأدب من ربات الفنون والآداب في ذلك الجبل، وبذلك ينقل إلى البشرية وسيلة الخلاص الحقيقية.‏

هذا النمط الأولي للأب المضحي الذي يمثله اودن يقابله الأب القاتل، من أمثال كرونوس أو زيوس. فكل نمط أولي يقدم لنا جانباً من الاقتصاد الأدبي، ونحن ملزمون بالسير عليه. إن الأب غوريو الذي قدمه لنا بلزاك لا يختلف عن النمط الأولي لاودن الذي قدمته الميثة السابقة. والنمط الأولي للأب القاتل الذي قدمه لنا سوفوكليس في صورة لايوس، الذي خشي أن يغتصب العرش ابنه أوديب فأمر بقتله، لا يختلف عن ميثة كرونوس الذي كان يبتلع كل ولد ذكر حتى يظل رب الأرباب في جبل الأولمب. وعندما يكتب أديب متأخر، ولو في هذه الأيام عن الأب يجد نفسه ضمن الأنماط الأولية التي قدمها الاقتصاد الأدبي في آثار عظيمة ماتزال تفعل فعلها.‏

هذه الأنماط الأولية ليست مقتصرة على الشخصيات الميثولوجية والإنسانية، فمن الممكن استخدام مظاهر الطبيعة كفلز أدبي فتتحول إلى رموز مثلما تحول كرونوس أو زيوس أو اودن، وهي رموز متعددة الدلالة ولا تقتصر على دلالة واحدة أو دلالتين. فالنار أو الشمس، قد تبدو في نمط أولي مانحة للحياة، وقد تبدو في نمط أولي آخر محرقة، وقد تظهر في نمط مسببة لمنغصات وفي نمط آخر واهبة للبهجة. فكما نجد الأم المدنسة تقابل الأم المقدسة، كذلك نجد النار المدنسة تقابل النار المقدسة. وقد تقصى غاستون باشلار صورة النار في النفس الإنسانية بدراسة غنية دقيقة وانتهى إلى تعدد الأنماط (النار في التحليل النفسي، ترجمة نهاد خياطة، دار الأندلس، بيروت 1984).ما يقال عن النار يقال عن البحر والجبل والكهف والغدير والنهر والغابة والصليب والهلال، وغيرها كثير جداً. ومهما تعددت هذه العناصر، فإن الاقتصاد الأدبي يصوغ منها أنماطاً أولية شديدة الأسر لا يمكن تخطّيها أو الخروج من تحت مظلتها من دون أن نكون قد خرجنا من الاقتصاد الأدبي نهائياً ودخلنا تحت مظلة... أي مظلة؟... لا أعرف ولكن ليس مظلة الأدب بالتأكيد.‏

خلاصة ما نقوله أن الأديب لا يستطيع أن يفعل ما يعاكس الأنماط الأولية، وحتى لو استطاع إطلاق العنان لخياله الذاتي فإنه سوف يجد نفسه مقيداً بالأنماط الأولية لأنها تشكل نظاماً عالمياً للأدب. ولو فرضنا ما لا يجوز فرضه وهو أن الأديب خالف هذه الأنماط فإن الناتج لن يُصنَّف في سجلات الأدب، إذ أن الانتاج الأدبي وقتئذ يصبح أشبه ببرج بابل: ألسنة كثيرة ولا أحد يفهم على الآخر. إن وجود نظام عالمي للأدب هو الذي يجعلنا نفهم ما كتبه شاعر من الشعراء قبل آلاف السنين، أما لو خالف هذا النظام فسوف ينسى لأن صلتنا به سوف تنقطع، مثلما انقطعت صلتنا بكثير من الظواهر الاجتماعية القديمة. إن الأنماط الأولية تلغي الزمن وتحذفه ولا تخضع للمتغيرات الاجتماعية إلا بمقدار ما تستفيد من دلالتها على أنها عابرة فقط، أما خلف ذلك فهناك نظام كبير جداً ومتماسك جداً من الصعب أن نتمرد عليه.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
نسمة أمل
~~~~~~~~~~~~~
~~~~~~~~~~~~~
نسمة أمل


عدد الرسائل : 8001
أوسمة ممنوحة : فصول في علم الاقتصاد الأدبي 01-10-10
السٌّمعَة : 1
نقاط : -2
تاريخ التسجيل : 05/08/2007

فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty
مُساهمةموضوع: رد: فصول في علم الاقتصاد الأدبي   فصول في علم الاقتصاد الأدبي Empty2008-04-09, 2:36 pm

الصياغة الفنية والحرية

أول ما يتبادر إلى ذهن القارىء هو أننا إذا كنا خاضعين لهذا النظام الشامل والقويّ، فأين الحرية، حرية الانتاج الأدبي؟ أليس غياب الحرية هو غياب للتجديد؟ وغياب التجديد ألا يعني تكرار الأنماط الأولية بصياغة فنية قديمة لا تجديد فيها؟‏

إن الرد على هذه الأسئلة لا يكون بالحوار النظرى ولا بالنقاش، وإنما بالواقع الأدبي العالمي، فأي كاتب، في أي بلد من بلدان هذه الأيام يكتب بأسلوب يختلف كل الاختلاف تقريباً عن أسلوب أسلافه، وأسلوبنا نحن العرب في هذه الأيام يختلف عن أسلوب الجاحظ والهمذاني والقاضي الفاضل، بل إننا نختلف عنهم ونختلف معهم، ففي مجال النقد ليس من الضروري أن نأخذ برأي الجاحظ في الألفاظ والمعاني... أشياء وأشياء نختلف فيها عنهم ونختلف فيها معهم، ولكن لا يمكن أن توجد قيمة أدبية يمكن أن نختلف فيها معهم، والقيمة الأدبية هي الأخلاق الأدبية، أي اللوحة التي نقدمها من أجل مجتمع واقعي والخلاص من المجتمع الوهمي الذي نحن فيه.‏

على إن هامش الحرية في الانتاج الأدبي لا يقتصر على الصياغة الفنية فحسب، بل يصل أيضاً إلى الأنماط الأولية، لأننا عندما نخضعها للصياغة الفنية في أيامنا نزيحها قليلاً عما كانت عليه، أو نعدل بعض جوانبها، أو نأخذ جزءاً منها ونتوسع فيه. وهذا ما نأخذه من الفلز الاجتماعي، فمن المستحيل اليوم أن نجعل بطلنا فوق صهوة جواده وبيده الرمح الطويل وهو يجوب شوارعنا. ولكن عندما ننتج هذا البطل لا نستطيع أن نجعله مخالفاً للبطل القديم، فنحن مضطرون أن نجعله شهماً نبيلاً كريماً يمتلك قدرة على التضحية... وربما قدمنا بطلاً سلبياً، وفي هذه الحالة نرى أنفسنا مضطرين إلى إضفاء صفات أخرى عليه تخدم النمط الأولي الذي ننتجه من جديد.‏

لقد أعاد غوركي إنتاج النمط الإيجابي للأم، فاستخدم لغة جديدة من مفرزات عصره، واعتمد أسلوباً حديثاً، كما أنه لم يقدم النمط الأولي بكل جوانبه، بل اقتصر على بعضها، فالنمط الأولي في إعادة انتاجه هو وليس هوفي آن معاً.‏

إن جيمس جويس أعاد انتاج الأوديسة في "يوليسيز" لكن لا نستطيع القول أن يوليسيز هي أوديسة هوميروس، فالاختلافات كثيرة وكبيرة، لكن النمط الأولي على الرغم مما أصابه من انزياح وتعديل وشيء من التشظي يظل واحداً، وهو عودة البطل إلى وطنه. الفرق أن بطل هوميروس استطاع أن يعيد ترتيب بيته، بينما بطل جويس يفصح عن فشله في إعادة ترتيب البيت، ففي هذا العصر صار التيار أقوى من البطل، فالاقتصاد السياسي بات اخطبوطاً قوياً أقوى من أي بطل فردي.‏

إعادة انتاج الأنماط الأولية هو هامش الحرية الذي يتحرك فيه الأديب، سواء في الأسلوب أو الفلز الاجتماعي أو حتى الأركان الميثولوجية للنمط، إذ تخضع لشيء من الانزياح والتعديل والتشظي لتكون مقبولة من العصر، فهي من جهة زمنية ومن جهة أخرى غير زمنية. إن الأنماط الأولية تكون زمنية من حيث الفلز الاجتماعي وغير زمنية من حيث أنها تسير وفق التقليد الأدبي الذي لم يتغير مدى كل هذه العصور المنصرمة، إنه نظام عالمي كبير ومتماسك وواسع جداً.‏

وهذا ما يجب أن يعيه النقد الأدبي في محاولته خلق مدارس قومية في النظرية الأدبية، فهذا أمر صعب بل مستحيل لأن الأدب نظام عالمي، فأنت لا تستطيع أن تتحدث عن النظرية الأدبية الفرنسية أو الألمانية أو الإنكليزية أو العربية أو الإيطالية أو الأميركية. يمكن أن تتحدث عن مدارس عالمية. إن البنيوية في هذا العصر ليست فرنسية ولا سلافية ولا أميركية ولا سويسرية... إنها اتجاه له أنصاره ومريدوه حتى في العالم العربي، وعلى الأخص في تونس والمغرب. النظرية الأدبية تحمل معالم قومية لكنها لا يمكن أن تكون قومية، إلا إذا اعتبرنا اللغة والأسلوب كدلالتين على القومية. والأدب إنساني لأنه عبارة عن تكرار مستمر للأنماط البشرية الأولية، ولهذا نقرأ آداب الأمم ونستمتع بها ونحس كأنها تنطق بلساننا، بل إننا أحياناً نصرخ بأن الشخصية الفلانية تشبه فلاناً وفلاناً عندنا. في الأدب لا تستطيع أن تقول "النظرية الألمانية في الأدب" كما تقول "النظرية الألمانية في القومية". إن الأمور في الأدب مختلفة كل الاختلال.‏

***‏

إن الأدباء يناضلون من أجل إحلال الاقتصاد الأدبي محل الاقتصاد السياسي في معركة يائسة مثل أبطال الإسغارد بقيادة اودن. لا يستطيعون التخلف، فذلك أمر ليس بيدهم، لأن الأدب هو المكوّن لنزوعهم. ولكنهم يبررون نضالهم وخوضهم المعركة ضد الاقتصاد السياسي بأنهم يناضلون من أجل مجتمع واقعي، بل إن التاريخ البشري عرف أرقى العصور يوم كان الاقتصاد الأدبي هو المشرف والمدبر للانتاج المادي. كان الناس قديماً لا يستطيعون العمل إلا بإشراف الاقتصاد الأدبي، فالفلاحة والبذار والتعشيب والحصاد والدراسة ونقل المحصول إلى الأهراء، وعصر الزيتون أو تخمير الكرمة... كل ذلك كان يتم بمصاحبة الأغاني والأناشيد والرقصات والموسيقى الخاصة بكل عمل ولكل مناسبة. كان الإنسان يعمل وهو مفعم بالنعمة الروحية والفرح الداخلي، فحتى البناء والصيد والقنص إنما كان يتم ضمن إطار أدبي فني من دبكات ورقصات وأفراح مشتركة. لقد فقد الاقتصاد الأدبي السيطرة في هذه الأيام لصالح الاقتصاد السياسي، فحتى أغاني البحارة لم نعد نسمعها على الرغم من طول ساحلنا.‏

إن ابعاد الاقتصاد الأدبي عن الانتاج المادي يعني نزع الفرح من العمل. عملنا في هذه الأيام صار بلا غبطة ولا محبة ولا بهجة. صرنا آلات، ومن هنا يحق للمنتج الأدبي أن يفخر بأنه ينتج بفرح لأنه ينتج لكل الناس من أجل خلق عالم نعمل فيه ونتألم ولكن بفرح. إن في مقدور الإنسان أن ينتج أطفالاً، ولكنه لا يستطيع أن يفخر بذلك فكل الحيوانات تفعل فعله، لكنه يرفع رأسه شامخاً إذا انتج الأدب، والمأثرة كل المأثرة أن يجعل هذا الاقتصاد الأدبي مشرفاً على الانتاج المادي، فبذلك يكون قد أعاد الفرح إلى العمل، وهو أمر -لو تعلمون- ليس سهلاً ولكنه يظل أعظم إنجاز إنساني في العصر الحديث وأعظم مفخرة.‏

فصول في علم الاقتصاد الأدبي فصول مختارة من رؤى كاسندرا بريام - حنا عبود




منقول للقائذة

تقبلوا مني فائق التقدير و الاحترام
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://al-forsan.yoo7.com/
 
فصول في علم الاقتصاد الأدبي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات الفرسان :: اسرة الفرسان التعليمية :: الفرسان للتعليم-
انتقل الى: