أبو الطيب المتنبي في الشعر العربي المعاصرالمــدخـــل
لعلَّ من نافلة القول اليوم محاولة إثبات العلاقة بين الشاعر العربي المعاصر وتراث أمّته؟ فقد قام بهذه المهمّة عددٌ من الباحثين (1)، ممّن تلمّسوا مظاهرَ حُضور التُراث العربي في قصائد شعرائنا المعاصرين، خاصة شعراء الحداثة منهم، فأشاروا إلى المصادر التُراثية لهؤلاء الشعراء وهي:
-التراث الديني: القرآن الكريم، الكتاب المقدّس، الأحاديث الشريفةِ وغيرها.
-التاريخ العربي (الإسلامي وماقبل الإسلامي): الأحداث التاريخيّة، الشخصيّات، أسماء المدن وغيرها.
-التراث الشعبي: الحكايات، التقاليد الشعبيّة، الأغنيات والمواويل الشعبية، ألعاب الأطفال
-التراث الأدبي: شعراً ونثراً.
-الموروث الأسطوري للمنطقة العربيّة: فرعوني، سوري، بابلي وآشوري وسومري، جاهلي، وغيرها.
وقد رصَدَ بعض هؤلاء الباحثين (2) طرق وتقنيات استحضار هذا التُراث، حتى وصلَ الأمرُ بأحدهم لأن يقول: "إن الشعر المعاصر عنيَ بالتراث- دعك الآن من ثورتهِ على أشكالِه وقوالبه ولغتهِ ومجازاته- فلكل عصر مفاهيمه وطرائقه في التعبير- كما لم يعنَ بهِ شعرٌ من قبل، لقد استكشف آفاقه وطاقته وفجّر من خلال النص هذه الآفاق والطاقات، وأعادهُ إلى ضمير العصر حيّاً نابضاً، يتجاوب أو ينفعل ويفعل بهِ الإنسان"(3).
وهو محقٌ فقد وصلَ الشعر العربي المعاصر إلى هذا الأمر بعد سنوات طويلةٍ من التطور، وبجهدِ مجموعةٍ هامةٍ موهوبةٍ من الشعراء إبداعاً ونقداً، بالإضافة لتظافر جهود هؤلاء وتفاعلها مع بعض المشاريع الفكريّة والنقدية لعددٍ هامٍ من المفكرين، واشتداد حركةِ الترجمة والمثاقفةِ وحوار الحضاراتِ، في إطارِ تغيّرات تاريخية وسياسيّة واجتماعيّة، مرّت بها المنطقة العربيّة منذُ بدايةِ هذا القرن حتى الآن.
وسيبدو لنا هذا الأمر جليّاً من خلالِ متابعة الأعمال الإبداعيّة والنقديّة لمجموعة من شعرائنا المعاصرين حيثُ سنرى أن التراث لدى هؤلاء "ليسَ تركةً جامدة، ولكنهُ حياة متجدّدة، والماضي لا يحيا إلا في الحاضر، وكل قصيدة لا تستطيع أن تمد عمرها إلى المستقبل لا تستحق أن تكون تراثاً، ولكل شاعرٍ أن يتخيّر تراثهُ" (4).
وسنرى أنهم رأوا في التراث نهراً يتجهُ من الماضي نحو المستقبل وهو بذلك "يكتسب أصالةً جديدة في مساره، مُميّزاً بين دلالاتهِ الثابتة التي تمثل الانقطاع والدلالات المتغيّرة التي تكفل التواصل" (5).
وسنسمع أحدهم يُعلن "حاولنا أن نحدث ثورةً تجعل الشعر الحديث ينفصلُ عن التراث الشعري العربي، بقدرِ ما يتصل به، وكان كل منّا يحاول الانطلاق مما يراه عناصر حيّة في التراث، وأعتقد أن كل نهضة شعرية، في أمةٍ تحملُ تراثاً شعرياً عريقاً مُتراكماً، لابُدَّ لها من العودة إلى الينابيع الأصلية التي كانت مصدر كل نهضة في الماضي، وهذهِ العودة تختلفُ عَمّا يُدعى بالسلفية الشعرية، وذلك أنها ليست عودة لإحياء الأنماط والنماذج التي استقرّت في قوالب جامدة بل إلى الينابيع التي تفجّرت فيها روح حيويّة تولدُ أنماطاً ونماذج، ولهذا كان في شعرنا مايشبه الاستلهام لروح الفطرة في الشعر العربي" (6).
حتى أولئك الشعراء الذين يقولون: "العربي لا يحب المغامرة، لا يتجرأ. التراث العربي في الأخير الأخير تراث جثث. نحن نقدّس الجثة. عندما يولد لنا ولد لا نهتم بهِ، كما نهتم بالجثّة. إننا لا نعرفُ الدفن" (7).
نراهم يعلنونَ بعدَ قليل أن هناكَ جزءاً حيّاً هاماً من تراثنا "والحيُّ لا يُدفن" (8).
لقد فهمَ شُعراؤنا كما يعبّر بلند حيدري أن الحداثة الأصيلة إنما "تنمو وتخرج من التراث، وتضيف إليه، كما خرجت الانطباعيّة من الرومانسيّة، وكما خرجتِ السُرياليّة من الرومانسيّة أيضاً... " (9).
ولا يفوتُ أدونيس أن يؤكد أن "المجددين لم يلحّوا على التجديد، إلا لأنّهم أجادوا في فهم أسلافهم" ثُمّ يضيفُ بعد ذلك: "الواقع أننا نفهم آثارنا القديمة أكثر من أي وقتٍ مضى، والصلةُ اليوم بيننا وبين أسلافنا جوهريّة لا شكليّة، وعميقة لا سطحيّة" (10).
ويؤكّدُ أمل دنقل "أن العودة إلى التراث هي جزء هام من تثوير القصيدة العربيّة، وهذا الاستلهام للتراث يلعبُ دوراً هاماً في الحفاظ على انتماء الشعب لتاريخه. ولكن يجب التنبه إلى أن العودة للتراث، لا يجوز أن تعني السكن فيه، بل اختراق الماضي كي نصل إلى الحاضر استشرافاً للمستقبل" (11).
ويقولُ حسب الشيخ جعفر: " في أي شعرٍ عالمي، لدى أية أمّة، الأساس هو التراث، لم نجد يوماً ما شاعراً مهمّاً جاء منقطعاً عن جذورهِ أبداً. أنتَ تستطيع أن تلاحظ هذا جيداً في إضافة السيّاب، نازك. عبد الصبور. لم تجئْ هذهِ الإضافة إلا عبرَ عناقهم الحار مع التراث الشعري العربي" (12).
ونستطيع أن نستمرَ طويلاً في تقديم آراء نقديّة ونصوص إبداعيّة لشعراء مُعاصرين من أجيال مختلفة تبيّن أنهم يمتلكون مواقف ناضجة واعية من التراث مدفوعينَ بمجموعة من الدوافع الفكرية والاجتماعيّة والنفسيّة والفنيّة، التي تآزرت و استطاعت أن تجعل واحدهم يتعامل مع تراث أمته كينبوع غني للقيم الروحيّة الإنسانية، القادرة على رفد الشعر بمزيدٍ من الحيويّة والأصالة، وتخليصه من العفوية الساذجة، والارتقاء بهِ فنياً ووجدانياً وفكرياً، لكن هذه الدراسة لا تسعى -كما ألمحتُ أعلاه- إلى إثبات علاقة قائمة أصلاً بين الشاعِر العربي المعاصر وتراث شعبه؛ بقدرِ ماتطمح إلى إضاءة جانب هام من هذا العنوان العريض، وهو مسألة استدعاء الشخصيّات التراثية في القصيدة؛ وذلك من خلالِ استدعاء شخصيّة واحدة على غايةٍ من الأهميّة في تاريخنا الأدبي هي شخصيّة أبي الطيّب المتنبي.
لماذا اخترتُ هذا الموضوع للدراسة؟
لأنني أولاً أراهُ جديداً، ولم يعطَ حقّهُ من البحث خاصة في الجانب التطبيقي.
وثانياً: لأن مسألة استلهام الشخصيات التراثية هي أحد الأشكال الأكثر رقيّاً من الناحيّة الفنيّة للتعامل مع التراثُ؛ وإن كانت قد بدأت على ما أعتقد بسبب تضيق الخناق على حُريّة التعبير في الوطن العربي؛ بالإضافة للدافع القومي الكامن وراء استحضار الكثير من شعرائنا لتلك الشخصيات كرد فعلٍ على ما تعرّضَ ويتعرّض له الوطن العربي من احتلالٍ وتقسيم ونهبٍ لثرواتهِ وما إلى ذلك... مع أننا لا نستطيع أن نغفَل تأثير الشعر الأوربّي على شُعرائنا في هذا الباب خاصةً الروّاد؛ حيثُ راحوا يستخدمون الأساطير كشكلٍ من أشكال التعبير، فاستخدموا: سيزيف وأوليس وبرومثيوس وأوديب وأورفيوس وغيرها من رموز الميثولوجيا الأوربيّة، وشيئاً فشيئاً حَلّت مجموعة من رموزنا التُراثية (إسلاميّة ومسيحيّة وسواها) مكان هذه الرموز في قصائد الجيل الثاني ومن تلاه؛ فأصبحنا نرى: علي بن أبي طالب، والحسين، مريم، إلعازر، المسيح، الحلاّج، زرقاء اليمامة، المتنبي، كليب، مهيار، الحجّاج، عثمان، الرشيد، صقر قريش، وغيرها من الرموز.
حتى أن قارئ الشعر بدأ يُلاحظ أن أكثر الشعراء رغبةً في خلق رموزهم الخاصة بهم دون نبش التاريخ والتُراث، كانوا في لحظات معيّنة و تحت تأثير حالاتٍ وجدانيةٍ واجتماعيةٍ وسياسية مختلفة يجدونَ الرمز التُراثي أو الشخصيّة التراثية يتسللانِ إليهم ويأخذان بأيديهم (13) نحوَ غاياتهم.
أما لماذا اخترتُ المتنبي دون سواه؟
فلسببين أحدهما موضوعي يتمثّلُ بأهميّة المتنبي كشاعرٍ وكشخصيّة محيّرةٍ فريدةٍ في تاريخنا الأدبي، ولأهميّة المرحلة التاريخيّة التي عاش فيها؛ بالإضافة لحضورهِ الكثيف في قصائدنا منذُ الثلثِ الثاني من هذا القرنِ حتى الآن.
والسبب الثاني ذاتي: فقد كتبتُ ذات يوم قصيدة (14) استلهمتُ فيها هذه الشخصيّة، وكنتُ أظن أن من فعلوا ذلكَ قبلي؛ ليسوا بتلك الكثرة وعلى رأسهم: البياتي والبردوني وأمل دنقل ومحمود درويش، ولكنني وبعد أن نشرتُ قصيدتي بدأتُ أنتبه؛ أن عدداً كبيراً من الشعراء تعامَلَ مع المتنبي، فصرتُ أبحثُ عن هذهِ القصائد وأحاول أن أعللَ نفسي بأنني لمستُ جانباً لم يلمسهُ الآخرون، حتى كانت هذهِ الدراسة المتواضعة.