" 3 "
مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي
على أني أحب أن يطمئن الذين يكلفون بالأدب العربي القديم ويشفقون عليه ويجدون شيئا من اللذة في أن يعتقدوا أن هناك شعرا جاهليا يمثل حياة جاهلية انقضى عصرها بظهور الإسلام ؛ فلن يمحو هذا الكتاب ما يعتقدون ، ولن يقطع السبيل بينهم وبين هذه الحياة الجاهلية يدرسونها ويجدون في درسها ما يبتغون من لذة علمية وفنية . بل أنا ذاهب إلى أبعد من هذا ، فأزعم أني سأكتشف لهم طريقا جديدة واضحة قصيرة سهلة يصلون منها إلى هذه الحياة الجاهلية ، أو بعبارة أصح : يصلون منها إلى حياة جاهلية لم يعرفوها ، إلى جاهلية قيمة مشرفة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة التي يجدونها في المطولات وغيرها مما ينسب إلى الشعراء الجاهليين .
ذلك أني لا أنكر الحياة الجاهلية وإنما أنكر أن يمثلها هذا الشعر الذي يسمونه الشعر الجاهلي . فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير ، لأني لا أثق بما ينسب إليهم ؛ وإنما أسلك إليها طريقا أخرى ، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته ، أدرسها في القرآن . فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي . ونص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه . أدرسها في القرآن ، وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الذين عاصروا النبي وجادلوه ، وفي شعر الشعراء الآخرين الذين جاءوا بعده ولم تكن نفوسهم قد طابت عن الآراء والحياة التي ألفها آباؤهم قبل ظهور الإسلام . بل أدرسها في الشعر الأموي نفسه . فلست أعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية . فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة والشماخ وبشر بن أبي حازم .
قلت : أن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية . وهذه القضية غريبة حين تسمعها ؛ ولكنها بديهية حين تفكر فيها قليلا . فليس من اليسير أن نفهم الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة هي هذه الصلة التي توجد بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه . وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا على أسراره ودقائقه . وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدا كله على العرب . فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه ، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر . إنما كان القرآن جديدا في أسلوب ، جديدا فيما يدعو إليه ، جديدا فيما شرع للناس من دين وقانون ، ولكنه كان كتابا عربيا ؛ لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره ، أي في العصر الجاهلي . وفي القرآن رد على الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من الوثنية ، وفيه رد على اليهود ، وفيه رد على النصارى ، وفيه رد على الصائبة والمجوس . وهو لا يرد على يهود فلسطين ، ولا على نصارى الروم ، ومجوس الفرس ، وصائبة الجزيرة وحدهم ، وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها . ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر ، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه ، وضحوا في سبيل تأييده ومعارضته بالأموال والحياة .
أفترى أحدا يحفل بي لو أني أخذت أهاجم البوذية أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر ؟ ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية ، وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية ، وأُحفظ المسلمين حين أهاجم الإسلام . وأنا لا أكاد أعرض لواحد من هذه الأديان حتى أجد مقاومة الأفراد ثم الجماعات ، ثم مقاوم الدولة نفسها تمثلها النيابة والقضاء . ذلك لأني أهاج ديانات ممثلة في مصر يؤمن بها المصريون وتحميها الدولة المصرية . وكذلك كانت الحال حين ظهر الإسلام : هاجم الوثنية فعارضوه الوثنيون ، هاجم اليهود فعارضه اليهود ، هاجم النصارى فعارضه النصارى , ولم تكن هذه المعارضة هينة ولا لينة ، وإنما كانت تقدر بمقدار ما كان لأهلها من قوة ومنعة وبأس في الحياة الاجتماعية والسياسية . فأما وثنية قريش فقد أخرجت النبي من مكة ونصبت له الحرب واضطرت أصحابه إلى الهجرة . وأما يهودية اليهود فقد ألبت عليه وجاهدته جهادا عقليا وجدليا ، ثم انتهت إلى الحرب والقتال . وأما نصرانية النصارى فلم تكن معارضتها للإسلام إبان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية . لماذا ؟ لأن البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية ، إنما كانت وثنية في مكة ، يهودية في المدينة . ولو ظهر النبي في الحيرة أو في نجران للقى من النصارى هاتين المدينتين مثل ما لقى من مشركي مكة ويهود المدينة .
وفي الحق أن الإسلام لم يكد يظهر على مشركي الحجاز ويهوده حتى استحال الجهاد بينه وبين النصارى من جدال ونضال بالحجة إلى اصطدام مسلح ، أدرك النبي أوله وانتهى به الخلفاء إلى أقصى حدوده .
فأنت ترى أن القرآن حيث يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات إنما يتحدث عن العرب وعن نحل ديانات ألفها العرب . فهو يبطل منها ما يبطل ، ويؤيد منها ما يؤيد . وهو يلقى في ذلك من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من السلطان على نفوس الناس . وإذن فما أبعد الفراق بين نتيجة البحث عن الحياة الجاهلية في هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين والبحث عنها في القرآن !
فأما هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة ومن الشعور الديني القوى والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية ؛ وإلا فأين تجد شيئا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة ! أو ليس عجبا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين ! .
وأما القرآن فيمثل لنا شيئا آخر ، يمثل لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال . فإذا رأوا أنه قد أصبح قليل الغناء لجأوا إلى الكيد ، ثم إلى الاضطهاد ، ثم إلى إعلان الحرب التي لا تبقى ولا تذر .
فتظن أن قريشا كانت تكيد لأبنائها وتضطهدهم وتذيقهم ألوان العذاب ثم تخرجهم من ديارهم ثم تنصب لهم الحرب وتضحي في سبيلها بثروتها وقوتها وحياتها لو لم يكن لها من الدين ل ما يمثله هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ؟ كلا ! كانت قريش متدينة قوية الايمان بدينها . ولهذا الدين وللايمان بهذا الدين جاهدت ما جاهدت وضحت ما ضحت . وقل مثل ذلك في اليهود ؛ وقل مثله في غير أولئك وهؤلاء من العرب الذي جاهدوا النبي عن دينهم .
فالقرآن إذن أصدق تمثيلا للحياة الدينية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي . ولكن القرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها ؛ وإنما يمثل شيئا آخر غيرها لا نجده في هذا الشعر الجاهلي ، يمثل حياة عقلية قوية ، يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظا عظيما . أليس لبقرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون النبي بقوة الجدال والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة ! وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون ؟ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون ان يوفقوا الى حلها : في البعث ، في الخلق ، في امكان الاتصال بين الله و الناس ، في المعجزة وما إلى ذلك .
أفتظن قوما يجادلون في هذه الاشياء جدالا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصحابه بالمهارة ، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ! كلا ! لم يكونوا جهالا ولا أغبياء ولا غلاظا ولا أصحاب حياة خشنة جافية ؛ وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة .
ومهما يجب أن نحتاط ، فلم يكن العرب كلهم كذلك ؛ وإنما كانوا كغيرهم من الأمم القديمة وككثير من الأمم الحديثة منقسمين إلى طبقتين : طبقة المستنيرين الذي يمتازون بالثروة والجاه والذكاء والعلم ، وطبقة العامة الذين لا يكاد يكون لهم من هذا كله حظ .
القرآن شاهد بهذا . أليس يحدثنا عن أولئك المستضعفين الذين كفروا طاعة لسادتهم وزعمائهم لا جهادا في الرأي ولا اقتناعا بالحق ، والذين سيقولون يوم يسألون : (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) . بلى ! والقرآن يحدثنا عن جفوة الأعراب وغلظتهم وامعانهم في الكفر والنفاق وقلة حظهم من العاطفة الرقيقة التي تحمل الإيمان والتدين . أليس هو الذي يقول : (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله) . أليس قد شرع للنبي أن يتألف قلوب الأعراب بالمال ! بلى . فالقرآن إذن يمثل الأمة العربية على أنها كغيرها من الأمم القديمة ، فيها الممتازون المستنيرون الذين كان النبي يجادلهم ويجاهدهم ؛ وفيها العامة الذين لم يكن لهم حظ من استنارة أو امتياز والذين كانوا موضوع النزاع بين النبي بالمال أحيانا .
والقرآن لا يمثل الأمة العربية متدينة مستنيرة فحسب ، بل هو يعطينا منها صورة أخرى يدهش لها الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الاسلام ، فهم يعتقدون أن العرب كانوا قبل الاسلام أمة معتزلة تعيش في صحرائها لا تعرف العالم الخارجي ولا يعرفها العالم الخارجي ، وهم يبنون على هذا قضايا ونظريات ، فهم يقولون إن الشعر الجاهلي لم يتأثر بهذه المؤثرات الخاجية التي أثرت بالشعر الإسلامي : لم يتأثر بحضارة الفرس والروم . وأنى له ذلك ! لقد كان يقال في صحراء لا صلة بينها وبين الأمم المتحضرة . كلا ! القرآن يحدثنا بشيء غيرهذا ، القرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بما حولهم من الأمم بل كانوا على اتصال قوي قسمهم احزابا وفرقهم شيعا . أليس القرآن يحدثنا عن الروم وما كان بينهم وبين الفرس من حرب انقسمت فيها العرب إلى حزبين مختلفين : حزب يشايع أولئك ، وحزب يناصر هؤلاء ! أليس في القرآن سورة تسمى الروم وتبتدئ بهذه الايات : (آلم غابت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء) .
لم يكن العرب إذن كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين ؛ فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الروم والفرس . وهو يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ..) وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم ، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس .
وسيرة النبي تحدثنا أن العرب تجاوزوا بوغاز باب المندب إلى بلاد الحبشة . ألم يهاجر المهاجرون الأولون إلى هذه البلاد ! وهذه السيرة نفسها تحدثنا بأنهم تجاوزوا الشام وفلسطين إلى مصر . فلم يكونوا إذن معتزلين ، ولم يكونوا إذن بنجوة من تأثير الفرس والروم والحبش والهند وغيرهم من الأمم المجاورة لهم . لم يكونوا غير دين ولم يكونوا جهالا ولا غلاظا ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى الأمم الأخرى ، كذلك يمثلهم القرآن .
وإذا كانوا أصحاب علم ودين ، وأصحاب ثروة وقوة وبأس ، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة متأثرة بها مؤثرة فيها ، فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية لا أمة جاهلة همجية . وكيف يستطيع رجل عاقل أن يصدق أن القرآن قد ظهر في أمة جاهلية همجية !
أرأيت أن التماس الحياة العربية الجاهلية في القرآن أنفع وأجدى من التماسها في هذا الشعر العقيم الذي يسمونه الجاهلي ! أرأيت أن هذا النحو من البحث يغير كل التغيير ما تعودنا أن نعرف من أمر الجاهليين !
**************
.