السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الكتاب الثاني :
أسباب انتحال الشعر
**********
" 1 "
ليس الانتحال مقصورا على العرب
يجب أن يتعود الباحث درس تاريخ الأمم القديمة التي قدر لها أن تقوم بشيء من جلائل الأعمال ، وما اعترض حياتها من الصعاب والمحن وألوان الخطوب والصروف ، ليفهم تاريخ الأمة العربية على وجهه ويرد كل شيء فيه إلى أصله . وإذا كان هناك شيء يوخذ به الذين كتبوا تاريخ العرب وآدابهم فلم يوفقوا إلى الحق فيه ، فهو أنهم لم يلموا إلماما كافيا بتاريخ هذه الأمم القديمة ، أو لم يخطر لهم أن يقارنوا بين الأمة العربية والأمم التي خلت من قبلها ؛ وإنما نظروا إلى هذه الأمة العربية كأنها أمة فذة لم تعرف أحدا ولم يعرفها أحد ، لم تشبه أحدا ولم يشبهها أحد ، لم تؤثر في أحد ولم يوثر فيها أحد ، قبل قيام الحضارة العربية وانبساط سلطانها على العالم القديم .
والحق أنهم لو درسوا تاريخ هذه الأمم القديمة وقارنوا بينه وبين تاريخ العرب لتغير رأيهم في الأمة العربية ، ولتغير بذلك تاريخ العرب أنفسهم ، ولست أذكر من هذه الأمم القديمة إلا أمتين اثنتين : الأمة اليونانية والأمة الرومانية . فقد قدر لهاتين الأمتين في العصور القديمة مثل ما قدر للأمة العربية في العصور الوسطى . كلتاهما تحضرت بعد بداوة . وكلتاهما خضعت في حياتها الداخلية لهذه الصروف السياسية المختلفة . وكلتاهما انتهت إلى نوع من التكوين السياسي دفعها إلى أن تتجاوز موطنها الخاص وتغير على البلاد المجاورة وتبسط سلطانها على الأرض . وكلتاهما لم تبسط سلطانها على الأرض عبثا وإنما نفعت وانتفعت وتركت للإنسانية تراثا قيما لا تزال تنتفع به إلى الآن : ترك اليونان فلسفة وأدبا ، وترك الرومان تشريعا ونظاما .
وكذلك كان شأن هذه الأمة العربية ، تحضرت كما تحضر اليونان والرومان بعد البداوة ، وتأثرت كما تأثر اليونان والرومان بضروف سياسية مختلفة ، انتهى بها تكوينها السياسي إلى مثل ما انتهى التكوين الساسي لليونان والرومان إليه من تجاوز الحدود الطبيعية وبسط السلطان على الأرض ، وتركت كما ترك اليونان والرومان للإنسانية تراثا قيما خالدا فيه أدب وعلم ودين . وليس من العجب في شيء أن تكون العوارض التي عرضت لحياة العرب على اختلاف فروعها مشابهة للعوارض التي عرضت لحياة اليونان والرومان من وجوه كثيرة .
وفي الحق أن التفكير الهادئ في حياة هذه الأمم الثلاث ينتهي بنا إلى نتائج متشابهة إن لم نقل متحددة . ولم لا ؟ أليست هذه الإشارة التي قدمنها إلى ما بين هذه الأمم الثلاث من شبه تكفي لتحملك على أن تفكر في أن مؤثرات واحدة أو متقاربة قد أثرت في حياة هذه الأمم فانتهت إلى نتائج واحدة أو متقاربة !
ولسنا نريد أن نترك الموضوع الذي نحن بإزائه للبحث عما يمكن أن يكون من اتفاق أو افتراق بين العرب واليونان والرومان ؛ فنحن لم نكتب لهذا ، وإنما نريد أن نقول إن هذه الظاهرة الأدبية التي نحاول أن ندرسها في هذا الكتاب والتي يجزع لها أنصار القديم جزعا شديدا ليست مقصورة على الأمة العربية ، وإنما تتجاوزها إلى غيرها من الأمم القديمة ، ولا سيما هاتين الأمتين الخالدتين . فلن تكون الأمة العربية أول أمة انتحل فيها الشعر انتحالا وحمل على قدمائها كذبا وزوراً ، وإنما انتحل الشعر في الأمة اليونانية والرومانية من قبل وحمل على القدماء من شعرائها ، وانخدع به الناس وآمنوا له ، ونشأت عن هذا الانخداع والإيمان سنة أدبية توارثها الناس مطمئنين إليها ، حتى كان العصر الحديث وحتى استطاع النقاد من أصحاب التاريخ والأدب واللغة والفلسفة أن يردوا الأشياء إلى أصولها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا .
وأنت تعلم أن حركة النقد هذه بالقياس إلى اليونان والرومان لم تنته بعد ، وأنها لن تنتهي غدا ولا بعد غد ، وأنت تعلم أنها قد وصلت إلى نتائج غيرت تغيرا تاما ما كان معروفا متوارثا من تاريخ هاتين الأمتين وآدابهما . وأنت إذا فكرت فستوافقني على أن منشأ هذه الحركة النقدية إنما هو في حقيقة الأمر تأثر الباحثين في الأدب والتاريخ بهذا المنهج الذي دعوت إليه في أول هذا الكتاب ، وهو منهج (ديكارت) الفلسفي .
وسواء رضينا أم كرهنا فلا بد من أن تتأثر بهذا المنهج في بحثنا العلمي والأدبي كما تأثر من قبلنا به أهل الغرب . ولا بد من أن نصطنعه في نقد آدابنا وتاريخنا كما اصطنعه أهل الغرب في نقد آدابهم وتاريخهم . ذلك لأن عقليتنا نفسها قد أخذت منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية ، أو قل أقرب إلى الغربية منها إلى الشرقية . وهي كلما مضى عليها الزمن جدّت في التغير وأسرعت في الاتصال بأهل الغرب .
وإذا كان في مصر الآن قوم ينصرون القديم ، وآخرون ينصرون الجديد ، فليس ذلك إلا لأن في مصر قوما قد اصطبغت عقليتهم بهذه الصبغة الغربية ، وآخرين لم يظفروا منها بحظ أو لم يظفروا منها إلا بحظ قليل . وانتشار العلم الغربي في مصر وازدياد من يوم إلى يوم ، واتجاه الجهود الفردية والاجتماعية إلى نشر هذا العلم الغربي ؛ كل ذلك سيقضي غدا أو بعد غد بأن يصبح عقلنا غربيا ، وبأن ندرس آداب العرب وتاريخهم متأثرين بمنهج (ديكارت) كما فعل أهل الغرب في درس آدابهم وآداب اليونان والرومان .
ولقد أحب أن تلم إلماماً قليلا بأي كتاب من هذه الكتب الكثيرة التي تنشر الآن في أوروبا في تاريخ الآداب اليونانية أو اللاتينية ، وأن تسأل نفسك بعد هذا الإلمام ماذا بقى مما كان يعتقده القدماء في تاريخ الآداب عند هاتين الأمتين : أحق ما كان يعتقد القدماء في شأن الإلياذة والأودِسّا ؟ أحق ما كانوا يتحدثون به بل ما كانوا يؤمنون به في شأن (هوميروس) و (هيريودوس) وغيرهما من الشعراء القصصين ؟ أحق ما كان القدماء يتخذونه أساسا لسياستهم وعلمهم وأدبهم وحياتهم كلها من أخبار اليونان والرومان ؟ إن من اللذيد حقا أن تقرأ ما كتب (هيرودوت) في تاريخ اليونان ، و (تيتوس ليفوس) في تاريخ الرومان ، وما يكتب المحدثون الآن في تاريخ هاتين الأمتين . ولكنك لا تكاد تجد شيئا من الفرق بين ما كان يتحدث به ابن اسحاق ويرويه الطبري من تاريخ العرب وآدابهم ، وما يكتبه المؤرخون والأدباء عن العرب في هذا العصر . ذلك لأن الكثرة من هؤلاء المؤرخين والأدباء لم تتأثر بعدُ بهذا المنهج الحديث ، ولم تستطع بعدُ أن تؤمن بشخصيتها وأن تخلص هذه الشخصية من الأوهام والأساطير .
وإذا كان قد قدر لهذا الكتاب ألا يرضي الكثرة من هؤلاء الأدباء والمؤرخين فنحن واثقون بأن ذلك لن يضيره ولن يقلل من تأثيره في هذا الجيل الناشئ . فالمستقبل لمنهج (ديكارت) لا لمنهج القدماء .