" 5 "
طَرَفة بن العبد - المُتَلَمِّس
وشاعران آخران من ربيعة نقف عندهما وقفة قصيرة هما طرفة ابن العبد والمتلمِّس . وإنما نجمعهما لأن القصص جمعهما من قبل .
فقد زعموا أن المتلمِّس كان خال طرفة . ولم يقف جمع القصص بينهما عند هذا الحدّ بل قد جمعهما في الشيء القليل الذي نعرفه عنهما ؛ ذلك أن لطرفة والمتلمِّس أسطورة لهج بها الناس منذ القرن الأوّل للهجرة . وهم يختلفون في روايتها إختلافاً كثيراً ولكنا نتخير من هذه الروايات أيسرها وأقربها إلى الإنسان :
زعموا أن هذين الشاعرين هجوا عمرو بن هند حتى أحنقاه عليهما ، ثم وفدوا عليه فتلقاهما لقاء حسنا وكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين وأوهمهما أنه كتب لهما بالجوائز والصِّلات ؛ فخرجا يقصدان إلى هذا العامل . ولكن المتلمِّس شك في كتابه فأقرأه غلاما من أهل الحِيرة فإذا فيه أمر بقتل المتلمِّس ، فألقى كتابه في النهر ، وألحّ على طرفة في أن يفعل فعله فأبى ؛ وأفترق الشاعران : مضى أحدهما إلى الشام فنجا ، ومضى الآخر إلى البحرين فلقى الموت . وكان طرفة حديث السنّ لم يتجاوز العشرين في رأي بعض الرواة ولم يتجاوز السادسة والعشرين في رأي بعضهم الآخر . وقد كثرت الأحاديث حول هذه القصة وأضيفت إليها أشياء أعرضنا عن ذكرها لظهور انتحال فيها وغضب عمرو بن هند على المتلمِّس حين هرب إلى الشام وأفلت من الموت فأقسم لا يطعم حَبَّ العراق . واتصل هجاء المتلمِّس له .
والرواة المحققون يعدون هذين الشاعرين من المقلين . بل لم يرو ابن سلاّم للملتمس شيئاً ولم يسم له قصيدة . فأما طرفة فقد قال ابن سلاّم عنه في موضع إنه هو وعَبيد من أقدم الفحول ولم يبق لهما إلا قصائد بقدر عشر . وأستقلّ ابن سلاّم هذه القصائد على الشاعرين وقال إنه قد حمل عليهما حمل كثير . وقد رأيت أنه حين أراد أن يضع عبيدا في طبقته لم يعرف له إلا بيتا واحدا . فأما طرفة فقد عرف له المطولة وروى مطلعها هكذا :
لَخوْلةَ أطلالُ ببرقة ثهمـــِد = وقفتُ بها أبكي وأبكي إلى الغدِ
1 | لَخـوْلـةَ أطــلالُ ببـرقـة ثـهـمِـد وقفتُ بها أبكي وأبكي إلى الغدِ |
وعرف له الرائية المشهورة :
* أصحوت اليوم أم شاقتك هر *
وعرف له قصائد لم يدل عليها . وقال إنه أشعر الناس بواحدة . يريد المعلقة . وبين يدينا ديوان لطرفة يشتمل هاتين القصيدتين وقصيدة أخرى مشهورة ، وهي :
سائلوا عنا الذي يعرفنا بِخَزَازَى يوم تَحلاق اللمم
ثم مقطوعات أخرى ليست بذات غَناء . وأنت إذا قرأت شعر طرفة رأيت فيه ما ترى في أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ولا سيما المضربين منهم من متانة اللفظ وغرابته أحيانا ، حتى لتقرأ الأبيات المتصلة فلا تفهم منها شيئاً دون أن تستعين بالمعاجم . ولكنك مضطر إلى أن تلاحظ أن هذا الشعر أشبه بشعر المضريين منه بشعر الرّبعيين ؛ فنحن لم نجمع شعراء ربيعة عفوا ، وإنما جمعناهم فيما تحدّثنا به إليك في هذا الكتاب إلى الآن لأن بينهم شيئاً يتفقون فيه جميعاً ، هو هذه السهولة التي تبلغ الإسفاف أحياناً ؛ لا نستثني منهم في ذلك إلا قصيدة الحارث حلّزة . فكيف شذ طرفة عن شعراء ربيعة جميعاً فقوى متنه واشتدّ أسره وآثر من الإغراب ما لم يؤثر أصحابه ودنا شعره من شعر المضريين ؟
وأنظر في هذه الأبيات التي يصف بها الناقة :
وإنى لأُمضي الهمَّ عند إحتضاره = بعوجاء مِرْقالٍ تـروح وتغتدي
أمونٍ كألـــــــواح الأران نصْأتُهـا = على لاحب كأنـه ظهر بُرْجُد
جَمَاليةٍ وَجْنـــاء ترِدي كــأنهـــــا = سَفنّجـــــةُ تَبْرِي لأزعَر أربَد
تُباري عِتاقــاً ناجيــــاتٍ وأتبعت = وظيفـــاً وظيفا فوق مَوْرٍ معبَّد
تربعت القُفَّين في الشّوْل ترتـعي = حدائـــــــقَ مَوْليّ الأسِرة أغيد
تَرِيع إلى صـــوت المُهيب وتتقي = بذي خُصَلٍ روعاتِ أكلفّ مُلْبِد
كأنّ جناحَيّ مَضْرَحيّ تكنّـــَفــــا = حفافيــه شكّا في العسيب بِسْرَد
1
2
3
4
5
6
7
| وإنى لأُمضي الهمَّ عند إحتضاره بعوجـاء مِرْقـالٍ تـروح وتغـتـدي أمــونٍ كـألـواح الأران نصْأتُـهـا علـى لاحـب كـأنـه ظـهـر بُـرْجُـد جَمَالـيـةٍ وَجْـنـاء تــرِدي كـأنـهـا سَفنّـجـةُ تَـبْــرِي لأزعَـــر أربَـــد تُبـاري عِتاقـاً ناجـيـاتٍ وأتبـعـت وظيفـاً وظيفـا فـوق مَـوْرٍ معـبَّـد تربعت القُفَّين في الشّوْل ترتعـي حـدائـقَ مَـوْلـيّ الأسِـــرة أغـيــد تَرِيع إلى صوت المُهيـب وتتقـي بذي خُصَـلٍ روعـاتِ أكلـفّ مُلْبِـد كــأنّ جنـاحَـيّ مَضْـرَحـيّ تكنَّـفـا حفافيه شكّا فـي العسيـب بِسْـرَد
|
وهو يمضي على هذا النحو في وصف ناقته فيضطرنا إلى أن نفكر فيما قلناه من أن أكثر هذه الأوصاف أقرب إلى أن يكون من صنعة العلماء باللغة منه إلى أي شيء آخر . ولكن دع وصفه للناقة واقـــرأ :
ولست بحــلاّل التَــــِلاع مخافــةً
ولكن متى يسترفِـــدِ القــــومُ أرفـــد
فإن تبغـــني في حَلْقــــــة تلقـــــني
وإن تلتمسني في الحوانيــت تصطد
متى تأتني أصبحك كأســـاً رويّةً
وإن كنت عنها ذا غنى فـاغن وازدد
وإن يلتقِ الحي الجميــــعُ تُلاقني
إلى ذروة البيت الشريـــف المصمَّد
نداماي بيضُ كالنجـــــوم وقَينـــةُ
تروح إلينـــا بيــــــن بـــــُرْدٍ ومجسَدِ
رحيبُ قِطابُ الجيب منها رفيقةُ
بجَـــسّ النـــدامى بضــّةُ المتجـــــرّد
إذا نحـن قلنا أسمعينا أنبرت لنــا
على رِسْلهـــا مطروقــــة لم تشــــدّد
إذا رجّعتْ في صوتها خلتَ صوتها
تجــــــاوُبَ أظــآرَ علـــى رُبَع رَدِيفسترى في هذه الأبيات لينا ولكن في غير ضعف ، وشدّة ولكن في غير عنف . وسترى كلاماً لا هو بالغريب الذي لا يفهم ، ولا هو بالسُّوقي المبتذل ، ولا هو بالألفاظ قد رصفت رصفا دون أن تدل على شيء . وأمض في قراءة القصيدة قستظهر لك شخصية قوية ومذهب في الحياة واضح جلي : مذهب اللهو واللذة يعمِد إليهما من لا يؤمن بشيء بعد الموت ولا يطمع من الحياة إلا فيما تتيح له من نعيم بريء من الإثم والعار على ما كان يفهمها عليه هؤلاء الناس :
وما زال تَشْرابي الخمـورَ ولذّتي = وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتْلَــــدِي
إلى أن تحامتني العشيـرةُ كلهـــــا = وأُفـــــــردت إفرادَ البعير المعَّبــد
رأيت بني غَبـــــراءَ لايُنكرونـني = ولا أهــلُ هذاك الطِّرافِ الممـــدّد
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى = وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلّدي
فإن كنتَ لا تستطيع دفـــع منيتي = فدعني أبادرها بمـا ملكت يــدي
ولولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتى = وجدّك لم أحفـــِلْ متى قام عُوّدي
فمنهن سبقي العـاذلاتِ بشربـــــة = كُمَيْتٍ متى ما تُعــــْلَ بالماء تزبد
وكَرِّى إذا نـادى المضافُ محنَّبـا = كِسيِد الغضا نبّهتـــه المتـــــــورَّد
وتقصير يـــــوم الدَّجْن معجــــِبُ = ببهكَنةٍ تحت الخِبــــاء المعمّــــــَد
1 2 3 4 5 6 7 8 9 | وما زال تَشْرابي الخمـورَ ولذّتـي وبيعي وإنفاقـي طريفـي ومُتْلَـدِي إلـى أن تحامتنـي العشيـرةُ كلـهـا وأُفــردت إفــرادَ البعـيـر المـعَّـبـد رأيـت بنـي غَـبـراءَ لايُنكرونـنـي ولا أهـلُ هـذاك الـطِّـرافِ المـمـدّد ألا أيهذا الزاجري أحضـر الوغـى وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلّدي فإن كنتَ لا تستطيـع دفـع منيتـي فدعنـي أبادرهـا بمـا ملكـت يـدي ولولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتـى وجدّك لم أحفِـلْ متـى قـام عُـوّدي فمنهـن سبقـي العـاذلاتِ بشـربـة كُمَيْتٍ متى مـا تُعْـلَ بالمـاء تزبـد وكَرِّى إذا نـادى المضـافُ محنَّبـا كِسـيِـد الغـضـا نبّهـتـه الـمـتـورَّد وتقصـيـر يــوم الـدَّجْـن مـعـجِـبُ ببهكَـنـةٍ تـحـت الخِـبـاء المـعـمَّـد |
في هذا الشعر شخصية بارزة قوية لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منتحلة أو مستعارة . وهذه الشخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد بنية الحزن واليأس والميل إلى الإباحة في قصد واعتدال . هذه الشخصية تمثل رجلاً فكر وألتمس الخير والهدى فلم يصل إلى شيء ، وهو صادق في يأسه ، صادق في حزنه ، صادق في ميله إلى هذه اللذات التي يؤثرها . ولست أدري أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل آخر ؟ وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذ الشعر . بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر ؛ وإنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا إنتحال ، وأن هذا الشعر لا يشبه ما قدّمناه في وصف الناقة ولا يمكن أن يتصل به ، وأن هذا الشعر من الشعر النادر الذي نعثر به من حين إلى حين في تضاعيف هذا الكلام الكثير الذي يضاف إلى الجاهليين
تقبلوا مني فائق التقدير والاحترام