دراسة تحليلية " تجليات المأساة في شعر الخنساء"
(الجزء الثاني)
بقلم: السيد خا لد عبد اللطيف
الخنساء تعلم علم اليقين كما نصحها أهل الخير والصبر،أن الله استرد وديعته،ولاراد لقضائه فالموت مصير كل حي فلم البكاء؟
لقد رثت الخنساء أخاها صخرا،لكنها في قصائد أخرى جمعت بين كل من رثتهم من أحبتها إذ تقول:
أبكي عمرا بعين عزيرة* قليل اذا نام الحلي هجودها
وصنوي لا أنسى معاوية الذي* له من سراة الحرتين وفودها
وصخرا ومن ذا مثل صخر إذا غدا* ساحته الأبطال قزم يقودها(14)
في هذه الابيات الثلاثة،رثت الخنساء أخويها صخرا ومعاوية وأباهاعمرا،لكي تؤكد للشاعرة هند بنت عتبة بأنها أعظم العرب مصيبة/فموت الاب فاجعة،وفقدان صخر كارثة،ورحيل معاوية مأساة لا تعادلها كل مآسي الدنيا.
ظلت الخنساء في جل أشعارها مهووسة بالبكاء وذرف الدموع/وسكب العبرات،متنقلة بين الوادي والجبل،والصحراء والواحة،وبين كل هذه الأمكنة المختلفة،تتذكر كل عائلتها الذين فقدتهم الواحد تلو الآخر،صخر ومعاوية وعمرا وأولادها الأربعة .
وقد خلف موتهم حسرة في نفي الخنساء،ومن مثلهم في الناس معاوية بأصله الشريف،وصخر البطل الصنديد وعمر الاب العربي الأصيل.
لقد أرادت الخنساء أن تجسد لنا في قصائدها مطولات شعرية رثائية بامتياز،تمتح من معجم المأساة والفاجعة والكرب الشديد والخطب العظيم.
الخنساء لا يشبهها شاعر في الرثاء،باكية طول الدهر،وكل من سمع بكاءها يبكي معها،نائحة تفيد فن النواح،هائمة على وجهها في الفيافي والكثبان شاكية/مشتكية/داعية مدعوة لطقوس البكاء والنحيب.
الخنساء مدعوة الى الانخراط في رباط الأحزان،وفضاءات النحيب،وشق الجيوب.
لقد وظفت كلمة البكاء في الديوان 96 مرة تقريبا.
يذكرني طلوع الشمس صخرا* وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي* على اخوتهم لقتلت نفسي
ولكن لا أزالا أرى عجولا* وباكية تنوح ليوم نحس(15)
التذكر هو صمام الأمام بالنسبة للخنساء في استمرار حزنها،إنه الطاقة الكبرى التي تتقد همة الشاعرة من عدم النسيان.
التذكر بالنسبة للخنساء،بلسم لروحها،إنه الشرارة المتقدة على الدوام والتي تمنح لتماضر بنت عمرو( أي الخنساء) قوى خفية على مواصلة الحزن والاستمرار في رثاء صخر.
تتحدث الخنساء عن عدم قتلها لنفسها لأن أحزانها قد تقاسمته معها مجموعة من الباكين على من فقدوا أحبتهم وذويهم.
لكن الخنساء رأت في في بكاء(العجول)/ الثكلى اللواتي فقدن أبناءهن وفلذات أكبادهن علامة نحس مؤشر خيبة على استمرار مسلسل الفجائع الى ما لا نهاية.
وذكر الخنساء للعجول دليل على همنية النزعة التشاؤمية لدى الخنساء،فهي لم تعد في هذا العالم غير توالي الفجائع، وتوالد النكسات وتناسل المآسي،وبروز المصائب ورزايا الدهر،إنها حرب لا تبقي ولا تذر.
تعددت مستويات الرثاء عند الخنساء درجات تزداد حدة،ومع اختلاف هذه المستويات نسجل بنية إيقاعية حزينة يمكن اثباتها من خلال طغيان الحروف المهموسة في الديوان خصوصا حرف السين.
وإذا أحصبنا توظيفها لحرف السين نجده قد هيمن بنسبة 70/ من الديوان،فمنذ بداية القصائد الى آخرها نجد حرف السين والهاء والفاء والحاء.
ويجمع نقاد الشعر على آن الحروف المهموسة ترتبط إيقاعيا بدلالات الحزن والألم والبكاء وهذه الحروف المهموسة نجدها أكثر في بحور شعرية بعبنها مثل:
ـ البحر الطويل
-البحر المديد
- البحر البسيط.
وقد استأنست الخنساء بالبحرين الطويل والبسيط في رثاء ابيها واخوتها وابنائها مفضلة هذين البحريين الشعريين على باقي البحور الشعرية للأسباب التالية:
1/ لتماشي هذين البحرين القويين في إيقاعا تهم الحزينة مع نفسيتها المدمرة كليا.
2/معرفة الخنساء مسبقا أن هذين البحرين لا يستعملهما إلا فحول الشعراء.
3/ كون هذين البحريين ومنذ الأبيات الأولى يؤجج صدر الخنساء ويقويها على متابعة نظم القصائد.
تقول الخنساء:
لا خير في عيش وإن سرنا* والدهر لا تبقى له باقيه
كل امرئ سر به أهله* سوف يرى يوما على ناحية(16)
لقد تأكدت الخنساء أن الزمان لا يوثق به،والحياة بكل ملذاتها وأطايب عيشها آيلة الى الزوال،وأن صفاء العيش ينغصه كدر الموت،وبهاء الشباب يفسده مجيء الشيب،وتاج الصحة يهدمها معول الأسقام،وشساعة القصور ورحاب الضيعات يخربها ضيق القبر،ونور الدنيا تفسده ظلمة اللحود،فأي مسار يختار الإنسان في هذه الدنيا،ولكأن الخنساء تعي قول زهير بن أبي سلمى:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته* يوما على آلة حدباء محمول.
لاشيء يسر في هذا الدنيا الغادرة،اليوم على ظهرها وغدا في بطنها والعاقل من اتعظ والحكيم من اتخذ العبرة من الراحلين كل يوم الى دار البقاء.
لاشيء يفرح في هذه الدنيا،الخنساء اقتنعت بهذه الرأي،موت صخر وموت الاب والأبناء اكبر رزية ،فماذا تبقى للخنساء غير الأحزان واليأس والبكاء.
الخنساء وحدها تعرف ماذا يعني أن يبقى الإنسان لوحده دون عائلة،أن يحثث كل ما من شأنه أن يخلق لها السعادة.
ما قيمة كل حي الى الموت يؤول؟ هذا ما تطرحه الخنساء في صبحها ومسائها.
وأعز ما يعتبره الانسان مصدر سعادته يخطفه الموت خطفا،وينتزعه نزعا من بين أهله وأحبته وهم يبصرون.
قال تعالى"فلولا إذا بلغت الحلقوم،وأنتم حينئذ تنظرون،ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون" سورة الواقعة الآية83/84/85 . (17)
الخنساء تعلم علم اليقين أن الموت حق،وأن كل إنسان له نهاية مهما عمر طويلا.
فالحياة مهزلة والجاهل من وثق في عهودها،واطمأن الى الخلود بها،فهي دار الزوال والعائش فيها كالضيف أو الطيف ليست له إقامة.
تقول الخنساء:
ألا ليت أمي لم تلدني سوية * وكنت ترابا بين أيدي القوابل
وخرت على الأرض السماء فطبقت* ومات جميعا كل حاف وناعل
غداة غدا ناع لصخر فراعني* وأورثني حزنا طويل البلابل.(18).
من شدة الحزن والبكاء واللوعة،تمنت الخنساء لو أن أنها لم تلدها مستوية الخلق لا عيب فيها،ومن شدة الجزع الأكبر تمنت الشاعرة لو أنها ماتت وهي بين أيدي القوابل.
إن صيغة التمني عند الخنساء ترقى الى مستوى/عدمي موغلة في التشاؤم والسوداوية،فالخنساء قد وصلت بها درجة اليأس الى تمني الموت أو التحول الى تراب.
كل شيء بالنسبة للخنساء ميت،الحافي والناعل،فالحياة لا تمنحك بقدر ما تنزع منك أعز الأشياء إليك،إنها بالوعة تبتلع كل شيء،وتأتي على الأخضر واليابس.
الموت توأم الغدر،والمنية رفيقة الجزع،والردى يصاحب الألم والتوجع.
اصعب يوم في حياة الخنساء هو اليوم الذي وصلها فيه نعي صخر.
فاسوأ الأخبار،لما علمت الخنساء أن صخرا قد مات،صدمتها كانت أكبر، ومأساتها لا تعادلها مأساة،وموته تسبب لها في حزن طويل لا يتوقف نزيفه، ونهر كبير من الدموع تصب صببيا لا ينقطع.
خبر الموت هو الفاجعة الكبرى،والألم الصعب الذي يتقد في قلب الخنساء ويحرقها،هو الموت الذي لا يرحم،وقساوته أنه اختار صخرا أعز الاخوة على الخنساء وأقربهم إلى قلبها.
لعل ما يميز شعر الخنساء من خلال هذه الدراسة التحليلية لديوانها،هو احتفاؤها بنزعة الحزن،وحاولنا أن بين تجليات المأساة في شعرها من خلال موقعها كشاعرة رثاء عاشت تجارب مريرة قطبها الموت ومركزها تداعيات الفاجعة بكل مسمياتها،وثأتيرها على التجربة الشعرية للخنساء.
وعن شعر التجربة يقول: روبير لانكبوم
" تختلف الإستجابة الموحدة،عند التجلي،عن الإستجابة للشعر العادي في كونها تقوم على انفكاك أصلي للفكر عن الشعور،ثم يتم إنجازها بالظفرعلى ذلك التفكك.في الشعر التقليدي تنتمي
الا ستجابة الموحدة إلى الشاعرباعتبارها أداته العادية،وبوصفها استجابة مناسبة لحقيقة موضوعية تضم الواقعة والقيمة،أما في التجلي فتنبثق كذروة لفعل مسرحي لا تلبث الا برهة فقط،وبعدها نعود إلى عالم الإدراك العادي حيث نترك للتساؤل إن كانت الفكرة التي حملناها من التجربة صحيحة.إنه بهذا الفصل بين لحظة الا ستبصارالأكيدة والفكرة الا شكالية التي نجردها منها،وبانعدام التوازن الجديد بينهما،نتمكن من أن نميز تميزا واضحا الشكل الأدبي الحديث،وهو شكل لا يحاكي الطبيعة ولا نسقا من الأفكارعن الطبيعة،وإنما يحاكي بنية التجربة ذاتها: فهو شعر التجربة"(19)
ولعل أجمل الشعر وأعذبه فنيا هو أصدقه وتمثيله للواقع،وتجسيدة للمعاناة الإنسانية في ابرز صورها،فمن لم يعش الألم ويجرب المأسي لن يمتلك القلب المرهف والإحساس الرقيق والمشاعر الصادقة،والخنساء من خلال صدماتها عاشت هذه المراتب من الحزن،وعانت ويلات الفراق والرحيل،وذاقت من الآلام والأحزان مالم يذقه إنسان،وتجرعت غصص الفاجعة الكبرى في أعلى مستوياتها وأعتى لحظاتها.
الخنساء شاعرة محنكة استلهمت شاعريتها من تجربتها الذاتية،فصورت ألامها في حلة فنية متميزة،فنظمت اشعارا تدمي القلب،وتججد المواجع على كل من ابتلي بموت الأخ أو الام أو الحبيب.
شعر الخنساء عبارة عن صور واقعية تضم عدة إشارات قوية الى من اغتر بهذه الدنيا وجعلها أكبر همه.
الحياة غادرة لا يمكن الركون البها،وما عانته الخنساء من ويلات دليل صدق على أن الدنيا لا يؤمن جانبها،ولا يمكن الركون إليها.
لقد جسدت الخنساء في ديوانها رؤية جديدة للإنسان والكون والعالم،وعبرت عن هذا الرؤية من خلال زفرات وآهات لا يستسيغ مرارتها إلا من كابد المعاناة
وأصابه القرح الشديد.
بعد سنوات طويلة من الحزن والالم والرثاء،نتساءل هل توقفت عيون الخنساء عن البكاء؟ هل ضعفت همتها بعد تكرار الحزن الطويل والعبرات المسترسلة،
لنقرأ هذا المقطع لعله يجيب عن بعض تساؤلاتنا.
" قيل إن عمر بن الخطاب دخل البيت الحرام فرأى الخنساء تطوف بالبيت محلوقة الرأس تبكي وتلطم خذها وقد علقت نعل صخرفي خمارها.فوعظها فقالت: إني رزئت فارسا لم يرزأ أحد مثله.
فقال: إن في الناس من هو أعظم مرزئة منك،وإن الإسلام قد غطى ما قبله،وإنه لا يحل لك لطم وحهك وكشف رأسك.
فكفت عن ذلك وقالت ترصي أخاها معاوية وأخاها صخرا:
هريقي من دموعك أو أفيقي * وصبرا،وإن أطقت،ولن تطيقي
وقولي إن خير بني سليم * وفارسهم بصحراء العقيق
وإني والبكاء من بعد صخر* كسالكة سوى قصد الطريق(20)
الخنساء من خلال حوارها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم تتوقف عن الرثاء والبكاء والدليل هو انها نظمت أشعارا في حضرته.