وذكر أنه رعب منه ، ولكن ذلك دون الرعبة الأولى ، فرجع إلى أهله فتزمل ، وتدثر ( أي تغطى بالثياب).
ثم أنزل الله عليه قوله - تعالى - : { يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر }
أي قم يا أيها الذي تدثر بثيابه ، فأنذر الناس بالقرآن ، وبلغهم دعوة الله ، وطهر ثيابك من أدران الشرك ، واهجر الأصنام.
ثم حمي الوحي بعد ذلك ، وتتابع ، وبلَّغ - صلى الله عليه وسلم - دعوة ربه ، حيث أمره وأوحى إليه بأن يدعو الناس إلى عباده وحده ، وإلى دين الإسلام الذي ارتضاه الله ، وختم به الأديان ؛ فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن.
فاستجاب له أو من استجاب له خديجة من النساء ، وأبو بكر الصديق من الرجال ، وعلى بن أبي طالب من الصبيان ، ثم توالى دخول الناس في دين الله ، فاشتد عليه أذى المشركين ، وأخرجوه من مكة ، وآذوا أصحابه أشد الأذى ، فهاجر إلى المدينة ، وتتابع عليه نزول الوحي ، واستمر في دعوته ، وجهاده ، وفتوحاته ، حتى عاد إلى مكة ظافراً فاتحاً .
وبعد ذلك أكمل الله له الدين وأقر عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين ، ثم توفاه الله وعمره ثلاث وستون سنة ، أربعون منها قبل النبوة ، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً.
وبه ختم الله الرسالات السماوية ، وأوجب طاعته على الجن والإنس ؛ فمن أطاعه سعد في الدنيا ، ودخل الجنة في الآخرة ، ومن عصاه شقي في الدنيا ، ودخل النار في الآخرة.
وبعدما توفاه الله - عز وجل - تابع أصحابه مسيرته ، وبلغوا دعوته ، وفتحوا البلدان بالإسلام ، ونشروا الدين الحق حتى بلغ ما بلغ الليل والنهار.
ودينه - عليه الصلاة والسلام - باق إلى يوم القيامة ؛ فما القول في أمي نشأ بين أميين ، قام بذلك الإصلاح الذي تغير به تاريخ البشر أجمعين ، في الشرائع ، والسياسات ، وسائر أمور الدنيا والدين؟ وامتد مع لغته في قرن واحد من الحجاز إلى آخر حدود أوربا وأفريقيا من الغرب ، و إلى حدود الصين من جهة الشرق حتى خضعت له الأمم ، ودالت له الدول ، وأقبلت إليه الأرواح قبل الأشباح ، وكانت تتبعه في كل فتوحه الحضارة والمدنية ، والعدل والرحمة ، والعلوم العقلية والكونية على أيدي تلك الأمة الحديثة العهد بالأمية ، التي زكاها القرآن ، وعلمها أن إصلاح الإنسان يتبعه إصلاح الأكوان ؛ فهل يمكن أن يكون هذا إلا بوحي من لدن حكيم عليم ، وتأييد سماوي من الإله العزيز القدير الرحيم؟
رابعا: من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - :
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكرم الخلق أخلاقا ، وأعلاهم فضائلَ وآداباَ ، امتاز بذلك في الجاهلية قبل عهد النبوة ؛ فكيف بأخلاقه بعد النبوة وقد خاطبه ربه - تبارك وتعالى - بقوله : له { وإنك لعلى خلق عظيم } .
لقد أدبه ربه ، فأحسن تأديبه ، ورباه فأحسن تربيته ، فكان خلقه القرآن الكريم ، يتأدب به ، ويؤدب الناس به ، فمن أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أحلم الناس ، وأعدلهم ، وأعفهم ، وأسخاهم.
وكان يخصف النعل ، ويرقع الثوب ، ويعين أهله في المنزل ، ويقطع اللحم معهن .
وكان أشد الناس حياءً ، لا يثبت بصره في وجه أحد.
وكان يجيب الدعوة من أي أحد ، ويقبل الهدية ولو قَلَّت ، ويكافىء عليها.
وكان يغضب لربه ، ولا يغضب لنفسه ، وكان يجوع أحياناً فيعصب الحج على بطنه من الجوع ، ومرة يأكل ما حضر ، ولا يرد ما وجد ، ولا يعيب طعاماً قط ، إن وجد تمراً أكله ، وإن وجد شواء أكله ، وإن وجد خبز بر أو شعير أكله ، وإن وجد حلوا أو عسلا أكله ، وإن وجد لبنا دون خبز اكتفى به ، وإن وجد بطيخاً أو رطباً أكله.
وكان يعود المرضى ، ويشهد الجنائز ، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس.
وكان أشد الناس تواضعا ، وأسكنهم من غير كبر ، وأبلغهم من غير تطويل ، وأحسنهم بشراً ، لا يهوله شيء من أمور الدنيا.
وكان يلبس ما وجد ، فمرة شملة ، ومرة جبة صوف ، فما وجد من المباح لبس.
يركب ما أمكنه ، مرة فرساً ، ومرة بعيراً ، ومرة بغلة شهباء، و مرة حماراً ، أو يمشي راجلاً حافياً.
يجالس الفقراء ، ويؤاكل المساكين ، و يكرم أهل الفضل في أخلاقهم ، ويتألف أهل الشرف في البر لهم ، ويصل ذوي الرحم من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم.
لا يجفو على أحد ، يقبل معذرة المعتذر إليه ، يمزح ولا يقول إلا حقاً ، يضحك من غير قهقهة ، يسابق أهله ، ترفع الأصوات عليه فيصبر.
وكان لا يمضي عليه وقت في غير عمل لله - تعالى - أو فيما لابد له منه من صلاح نفسه.
لا يحتقر مسكيناً لفقره وزمانته ، ولا يهاب ملكاً لملكه ، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء مستوياً ، قد جمع الله له السيرة الفاضلة ، والسياسة التامة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
نشأ في بلاد الفقر والصحارى في فقره ، وفي رعاية الغنم يتيما لا أب له ، فعلمه الله - تعالى - جميع محاسن الأخلاق والطرق الحميدة ، وأخبار الأولين والآخرين ، وما فيه النجاة والفوز في الآخرة ، والغبطة والخلاص في الدنيا.
ما كان يأتيه أحد إلا قام معه في حاجته ، ولم يكن فظَّاً ، ولا غليظاً ، ولا صخاباً في الأسواق ، وما كان يجزي السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح.
وكان من خلقه أن يبدأ من لقيه بالسلام ، ومن قادمه لحاجة صابره حتى يكون القادم هو المنصرف.
وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر.
وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة ، ثم أخذ بيده فشابكه ، ثم شد قبضته عليه.
وكان أكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعا ، ويمسك بيديه عليهما ، ولم يكن يعرف مجلسه من مجلس أصحابه ؛ لأنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس.
وما رؤي قط ماداً رجليه بين أصحابه ؛ حتى لا يضيق بهما على أحد إلا أن يكون المجلس واسعاً لا ضيق فيه.
وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليس بينه وبينه قرابة يجلسه عليه.
وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته ، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل.
وما استصفاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه ، وكان يعطي من جلس إليه نصيبه من وجهه ، وسمعه ، وحديثه ، ولطيف محاسنه ، وتوجيهه.
ومجلسه مع ذلك مجلس حياء ، وتواضع ، وأمانة.
وكان يدعو أصحابه بكناهم ، إكراماً لهم ، واستمالة لقلوبهم ، وكان يكني من لم تكن له كنيه ، وكان يكني النساء اللاتي لهن أولاد ، واللاتي لم يلدن يبتدىء لهن الكنى ، وكان يكني الصبيان فيستلين قلوبهم.
وكان أبعد الناس غضباً ، وأسرعهم رضاً ، وكان أرأف الناس بالناس ، وخير الناس للناس ، وأنفع الناس للناس.
وكان يحب اليسر ، ويكره العسر ، و لا يشافه أحداً بما يكره.
ومن رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه.
هذه بعض أخلاقه وشمائله - صلى الله عليه وسلم - .
وبعد أن تبين لك أيها القارىء الكريم شيء من سيرة النبي ، ودعوته ، وأخلاقه ، إليك هذه الصفحات التي تعرفك بالإسلام الذي جاء به - صلى الله عليه وسلم-.
شهادة فيلسوف نصراني على صدق رسالة النبي
كل عاقل منصف لا يسعه إلا التصديق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أن الأمارات الكثيرة شاهدة ناطقة.
ولا ريب أن شهادة المخالف لها مكانتها؛ فالفضل-كما قيل-ما شهدت به الأعداء.
وفيما يلي شهادة للفيلسوف الإنجليزي الشهير "توماس كارليل" حيث قال في كتابه (الأبطال) كلاما طويلا عن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب به قومه النصارى، ومن ذلك قوله
( لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب، وأن محمداً خدّاع مزوِّر.
وإن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول مازالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبةٌ وخدعة؟!
أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً، ولو أن الكذب، والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم مثل هذه القبول، فما الناس إلا بُلْهٌ مجانين، فوا أسفا! ما أسوأ هذا الزعم، وما أضعف أهله، وأحقهم بالرثاء والرحمة.
وبعد، فعلى من أراد أم يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات أن لا يصدّق شيئا البتة من أقوال أولئك السفهاء؛ فإنها نتائج جيل كفر، وعصر جحود وإلحاد، وهي دليل على خبث القلوب، وفساد الضمائر، وموت الأرواح في حياة الأبدان.
ولعل العالم لم ير قط رأياً أكفر من هذا وألأم، وهل رأيتم قط معشر الإخوان، أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً؟ وينشرها علناً؟
والله إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب، فهو إذا لم يكن عليماً بخصائص الجير، والجص، والتراب، وما شاكل ذلك- فما ذلك الذي يبنيه ببيت، وإنما هو تل من الأنفاق، وكثيب من أخلاط المواد، نعم، وليس جديرا أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرناً يسكنه مائتا مليون من الأنفس، ولكنه جدير أن تنهار أركانه، فينهدم؛ فكأنه لم يكن))
إلى أن قال
( وعلى ذلك فلسنا نعد محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متصنعاً، يتذرع بالحيل، والوسائل إلى بغيته، ويطمح إلى درجة ملك أو سلطان، أو إلى ذلك من الحقائر.
وما الرسالة التي أداها إلا حق صراح، وما كلمته إلا قول صادق، صادر من العالم المجهول.
كلا، ما محمد بالكاذب، ولا المُلفِّق، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة؛ فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله، و((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)).