شعر عمرو بن الأهتم جيد فهو لا يسلمك نفسه من أول مرة فكلما أعدت قراءته ازددت استمتاعاً به، شعر الزبرقان يجمع بين الجيد والرديء، وشعر عبدة بن الطبيب قوي الأسر متين النظم لا حشو فيه، أما شعر المخبل فهو أجودهم.
والملاحظ أن جل النصوص النقدية التي أوردناها هي من نوع الموازنات التي يحاول فيها النقاد المفاضلة بين شاعرين أو أكثر، وقد لاحظنا أيضاً أن النقاد يحكون الذوق في أحكامهم، وعجزوا عن تحديد خصائص الجودة أو تعليلها بالوقوف على السمات التي تميز شاعراً عن آخر، وأن مقاييسهم في المفاضلة غالباً ما تكون خارج نصية مما لا يساعد على تحديد مفهوم الشعرية عندهم. بل لا نجد في نقدهم أية إشارة إلى العناصر الأساسية التي يبنى عليها الشعر كالموسيقى (الوزن، القافية، الروي)، والصورة البلاغية (التشبيه، الاستعارة...)، اللغة (لفظاً ومعنى) وهو ما يعني أن هذه المصطلحات لم تكن معروفة آنذاك.
ثم ظهر في القرن الثاني للهجرة مصطلح "الفحولة" الذي تتلخص فيه جودة الشعر، والفحولة كما عرفها الأصمعي عندما سئل عن معناها قال: "يريد أن له مزية على غيره كمزية الفحل على الحقاق"(7) ومعنى هذا أن الفحولة تعني القوة. ومعيار الفحولة في تحديد جودة الشعر معيار غير واضح المعالم وبخاصة عند الأصمعي حيث يكاد يقتصر على الجانب اللغوي وحسب. فقد حصر الأصمعي الفحولة على الشعراء الجاهليين والمخضرمين، وهم عنده إما فحول أو غير فحول أما معاييره في الفحولة فتشمل:
1 ـ اللغة:
1 ـ يجب أن تكون لغة الشاعر لغة نجدية ولذلك يرى أن "عدي بن زيد وأبو دؤاد الأيادي لا تروي العرب أشعارهم لأن ألفاظهما ليست بنجدية"(8)
وعندما سئل عن أبي دؤاد قال صالح ولم يقل فحل" (99).
ب ـ يجب أن يكون الشاعر بدوياً. عندما سئل الأصمعي عن القحيف العامري قال: ليس بفصيح ولا حدة" (10) كما يرى أن العباس بن الأحنف ما يؤتى من جودة المعنى ولكنه سخيف اللفظ"(11).
ج ـ أن يكون الشاعر من أصل عربي، فالمولدون عنده ليسوا فحولاً. الكميت بن زيد ليس بحجة لأنه مولد ولم يلتفت إلى شعره"(12). وسئل عن مروان بن أبي حفصة فقال: كان مولداً، ولم يكن لـه علم باللغة"(13).
د ـ غلبة صفة الشعر على غيرها من الصفات، لذلك لم يعد عنترة بن شداد، وحاتم الطائي من الفحول لاشتهار الأول بالفروسية والثاني بالكرم.
هـ ـ أن يكون للشاعر عدد من القصائد الجياد. فعندما سئل عن المهلهل قال: ليس بفحل ولو قال مثل قوله: أليلتنا بذي حسم أنيري. خمس قصائد لكن أفحلهم"(14).
و ـ حلاوة الشعر: لبيد ليس من الفحول لأن شعره كأنه طيلسان طبري يعني أنه جيد الصنعة وليست له حدّة"(15).
مقياس الفحولة عند الأصمعي ـ كما يبدو ـ مقياس لغوي بالدرجة الأولى وهو مقياس غير كاف لتحديد جودة الشعر أو تحديد الشعرية.
أما الفحولة عند ابن سلام الجمحي فهي أكثر وضوحاً وأكثر موضوعية في فهم جودة الشعر، فهو لم يحصرها في الجاهليين والمخضرمين، بل امتد بها في الزمن إلى شعراء بني أمية وإن كان قد قسم الفحولة قسمين؛ قسم أول خاص بالجاهليين والمخضرمين وقسم ثانٍ خاص بالإسلاميين، وكل قسم وزع شعراءه على عشر طبقات متكافئين. وحاول أن يضع معايير فنية في توزيع الشعراء على الطبقات العشر الأولى والثانية، كما وضع معايير أخرى في توزيع الشعراء داخل الطبقة الواحدة. واصطلحنا على أن نسمي الأولى معايير الترتيب الخارجي، والثانية معايير الترتيب الداخلي. فمن معايير الترتيب الخارجي ما يلي:
1 ـ اللغة: فقد أخر رتبة عدي بن زيد إلى الطبقة الرابعة من الجاهليين والسبب في تأخيره أنه "كان يسكن الحيرة ويراكن الريف فلان لسانه وسهل منطقة"(16) وهو في هذا يشبه الأصمعي ولكن بأقل حدة.
2 ـ أن يكون للشاعر عدد من القصائد الجياد، فالأسود بن يعفر "له واحدة رائعة طويلة لاحقة بأجود الشعر ولو كان شفعها بمثلها قدمناه على مرتبته"(17) علماً أنه من فحول الطبقة الخامسة.
3 ـ غزارة الشعر: فهو يرى أن شعراء الطبقة الرابعة "مقلون وفي أشعارهم قلة فذاك الذي أخرهم"(18) وكذلك شعراء الطبقة السابعة.
4 ـ تنوع الأغراض: يقول: "وكان لكثير من التشبيب نصيب وافر وجميل مقدم عليه وعلى أصحاب النسيب جميعاً في التشبيب، ولـه في فنون الشعر ما ليس لجميل وكان جميل صادق الصبابة وكان كثير يتقول، ولم يكن عاشقاً"(19) ومع ذلك وضع الشاعر كثير في الطبقة الثانية من الإسلاميين وجميل بن يعمر في الطبقة السادسة ذلك أن كثير نوع في أغراض الشعر في حين اقتصر جميل على النسيب.
أما معايير ابن سلام الجمحي الداخلية التي تميز كل شاعر عن الآخرين داخل الطبقة الواحدة، نذكر منها ما يميز شعراء الطبقة الأولى من الجاهليين بعضهم عن بعض. فامرؤ القيس "سبق العرب إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب واتبعته فيها الشعراء استيقاف صحبه في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وشبه النساء بالظباء، والبيض، وشبه الخيل بالعقبان، والعصي، وقيد الأوابد، وأجاد التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعاني، وكان أحسن أهل طبقته تشبيهاً"(20). فأهم ما يميز الشاعر امرئ القيس عن شعراء طبقته أن له قدم سبق فيطرق بعض المعاني وتفوقه في عقد التشبيهات.
أما ما يميز النابغة عن شعراء طبقته أنه كان "أحسن ديباجة شعر وأكثرهم رونق كلام وأجزلهم بيتاً كأن شعره كلام ليس فيه تكلف"(21). شعر النابغة يتميز بمتانة نسجه، وحسن حكمه وصفائه وجزالة لغته، وشعره مطبوع خال من التكلف.
وأما ما يميز زهير أنه كان "أحصفهم شعراً وأشدهم مبالغة في المدح وأكثرهم أمثالاً في شعره"(22). ما يميز زهير أنه أكثرهم تنقيحاً لشعره وأكثرهم مبالغة في مدحه وأكثرهم أمثالاً سائرة.
في حين أن الأعشى هو أكثرهم عروضاً وأذهبهم في فنون الشعر وأكثرهم طويلة جيدة وأكثرهم مدحاً وهجاء وفخراً ووصفاً"(23).
بعد هذا العرض الذي استخلصنا فيه معايير ابن سلام الجمحي في وضع طبقات الشعراء نسأل هل هذه المعايير ـ وهي معايير ـ في مجملها ـ خارج نصية فهي تتعلق بقدرات الشاعر على غزارة الإنتاج، وتنوع الأغراض وفصاحة اللسان أكثر مما تتعلق بتحليل النص الشعري والوقوف على جمالياته.
أما معايير الترتيب الداخلي فهي معايير داخل نصية، وهي لذلك أكثر نجاحاً في تحديد سمات الشعرية، حيث نلاحظ أن جل صفات الجودة عند الشعراء الأربعة صفات تتصل ببنية الشعر؛ فشاعرية امرئ القيس تتميز بالقدرة على التعبير بالصورة، بل تفوق على أقرانه في عقد التشبيهات، والتعبير بالصورة بخاصة الصور التشبيهية من أكثر الجماليات التي احتفل بها النقاد القدماء.
وشاعرية زهير بن أبي سلمى تتميز بقوة البناء نتيجة إحكامه وتنقيحه لشعره، كما تميز بتطعيم شعره بالحكم والأمثال السائرة، والمبالغة في معاني المديح، وهي كلها صفات جودة في الفكر النقدي العربي.
هذه الصفات هي مقاييس جودة متأصلة في النقد العربي القديم. كما وردت في طبقات ابن سلام عبارات أخرى أكثر دلالة على شعرية الشعر مثل (الابتداع، الرقة، قرب المأخذ، حسن الديباجة، الرونق، عدم التكلف، الحلاوة)، وهي تشير إلى اللذة التي يثيرها الشعر في المتلقي، وهي جانب من جوانب حد الشعر، فعادة يعرف الشعر ببنيته أو بوظيفته، وابن سلام جمع بين البنية والوظيفة في تحديد جماليات الشعر.
والحق أن ابن سلام قد اعتمد في طبقاته على الجمع والتصنيف أكثر مما اعتمد على تحليل النصوص وهو عمل ليس بالهين إذ يعكس وعياً وإدراكاً للعناصر المكونة للشعر وخصائصه الجمالية.
وقد فتح هذا الكتاب أعين النقاد على قضايا ومصطلحات ومعايير نقدية تتصل مباشرة بحقيقة الشعر وحده وجمالياته فظهرت بعد ذلك مؤلفات متخصصة تنطوي على نظر نقدي أكثر نضجاً، وإدراكاً للشعرية العربية. فظهر في القرن الرابع الهجري وما تلاه عمود الشعر العربي كما ظهرت في هذه المرحلة تعريفات كثيرة للشعر تبين عمق الفكر النقدي العربي في التحليل.
يتعذر علينا في هذا المبحث استقراء كل ما كتب للوقوف على البنية الفكرية العربية في إدراكها للشعرية، فهذا يتطلب وقتاً وجهداً كبيرين لا تسمح به الظروف الحالية ـ أمني نفسي بأن أحقق هذه الغاية مستقبلاً ـ وأقتصر في هذا المبحث على مصدرين اثنين أعتقد أنهما يمثلان خلاصة ما توصل إليه النقد العربي القديم في تحديد الشعرية العربية؛ هما عمود الشعر وتعريفه.
أعتقد أن عمود الشعر أو كما يحلو لبعض المعاصرين تسميته "نظيرة عمود الشعر" (24) تمثل عناصر الشعر وجمالياته في الفكر النقدي العربي حتى القرن الرابع الهجري على الأقل، أول من خلصها في نص واحد هو القاضي عبد العزيز الجرجاني في قوله: "وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته وتسلم السبق لمن وصف فأصاب وشبه فقارب وبده فأغزر ولمن كثر سوائر أمثاله وشوارد أبياته، ولم تكن تحفل بالتجنيس والمطابقة ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريض"(25)