1- 3- الأدب المقارن العربيّ: إلى أين؟
1- من الاندفاع إلى الركود
لماذا نكتب عن الأدب المقارن العربيّ تحديداً؟ هل من جديد حقيقيّ في هذا المجال، مما يستدعي أن نعرضه؟ أم انتهى هذا العلم وطويت صفحته، مما يوجب أن ننعيه ونؤبنه؟ أم تراجع إلى درجة تستدعي أن نلفت الانتباه إليه وندعو إلى وقف انهياره؟ وماذا يمكن أن يقول المرء في مقالة كهذه أكثر من عموميّات وبديهيّات؟ من الملاحظ أنّ الدراسات الأدبية المقارنة في الوطن العربيّ قد شهدت إبّان الأعوام العشرة الأخيرة ركوداً شديداً على الصعيدين الإنتاجيّ والتنظيميّ. فمن الناحية الإنتاجية لم يحقق الأدب المقارن العربيّ، بعد مرحلة الاندفاع التي عاشها في أوائل الثمانينيات وأواسطها، النقلة النوعيّة المرتقبة، لا نظريّاً ولا تطبيقياً، وقد اقتصر ما أنجزه المقارنون العرب على إعادة إصدار كتبهم القديمة في طبعات موسّعة وبعناوين جديدة (1) ، وعلى تأليف أبحاث صدرت في هذه الدورية أوتلك، وعلى ترجمة المؤلفات النظرية التي يفترض أن تكون قد ترجمت إلى العربية قبل وقت طويل. (2) أمّا على الصعيد التنظيميّ فقد استمرّت أزمة "الرابطة العربية للأدب المقارن"، تلك الأزمة المتمثلة في ربط الأمانة العامّة بالمقرّ الدائم، وفي عجزها عن أن توفق بين طابعها القوميّ وبين الواقع القطريّ للعالم العربيّ. لقد كان آخر مؤتمر عقدته الرابطة في عام 1989، أي قبل سبعة أعوام، ولم تنشأ جمعيات قطريّة للأدب المقارن إلاّ في بلد عربيّ واحد وهو مصر، ولم تتمكن الرابطة من تحقيق أي من طموحاتها العلمية وعلى رأسها إصدار مجلة عربية للدراسات الأدبية المقارنة. وباختصار فإنّ حركة الأدب المقارن العربي تبدو في التسعينيات واهنة كأنها في النزع الأخير. لماذا، ياترى؟ ألقلة عدد المقارنين في الجامعات العربية؟ لا نظنّ ذلك، فعددهم هو اليوم أكبر مما كان عليه في أيّ وقت مضى. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ كلية الآداب في جامعة حمص، وهي أصغر الجامعات السوريّة وأحدثها، تضمّ في صفوف هيئتها التدريسية سبعة متخصصين في الأدب المقارن. (3) ومن المؤكد أن هذه الجامعة لا تشكّل حالة استثنائية. فأساتذة الأدب المقارن أصبحوا متواجدين بأعداد وفيرة في الجامعات العربية كلّها. ولذلك لا يمكن إرجاع ما يشهده الأدب المقارن العربي من ركود إلى قلة عدد المقارنين. فهل يرجع ذلك الركود إلى أنّ هذا النوع من الدراسات الأدبية قد أفلس، ولم يعد لديه ما يقدّمه للأدب العربيّ والثقافة العربية؟ هل فقد الأدب المقارن أهميته المعرفية والعلميّة، وفقد بذلك جدواه، ولم نعد بحاجة إليه؟
2- حاجتنا إلى الأدب المقارن
إنّ جوابنا عن تساؤلات كهذه هو أنّ عكس ذلك صحيح. فالثقافة العربية لم تكن في يوم من الأيام أحوج إلى الأدب المقارن ودراساته ومقارباته من حاجتها إليه في هذه الأيام. لماذا؟
إنّ أبسط تعريف للأدب المقارن هو أنه ذلك النوع من الدراسات الأدبية الذي يتجاوز في تناول الظواهر الأدبية الحدود اللغوية والقومية والثقافية للآداب. وهذا التجاوز أو تلك الإطلالة إلى ماوراء الحدود القومية للآداب قد أمست في أيامنا هذه أمراً لاغنى عنه لدارسي الأدب. فالآداب قد أصبحت متداخلة ومتشابكة بصورة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، مما جعل من دراسة الظواهر الأدبية داخل الحدود القومية للآداب وبمعزل عن الامتدادات والتفاعلات الخارجية أمراً غير ممكن. هل يستطيع أحد أن يدرس الشعر العربي المعاصر دون أن يأخذ تفاعلاته الفنيّة والفكريّة مع الآداب الأجنبية في الحسبان؟ (4) وإذا كانت تلك حال الشعر العربي، وهي مسألة لاتقلّل من أهميته وإنجازاته، فما بالك بأدب الرواية والقصّة والمسرحية؟! إنها تنطوي على تأثر بالآداب الأجنبية متعدد الأشكال، وهذا لايضيرها أيضاً، بل يدلّ على حيويتها. فنحن نعيش في زمن غدا فيه الاكتفاء الذاتي للآداب ضرباً من الوهم. لقد مدّت الترجمة وتعلّم اللغات الأجنبية ودراسة الآداب الأجنبية والاطلاع عليها جسوراً بين الآداب لا سبيل إلى نسفها ولا إلى تجاهلها. وما دام الأمر كذلك فإنّ المنهج المقارن هو المنهج الأصحّ لدراسة الأدب في عالم اليوم. وهذا لا ينطبق على اتجاه مقارنيّ بعينه. بل ينطبق على الاتجاهات المقارنة كلها، بدءاً بالمدرسة التاريخية المعروفة بالمدرسة الفرنسية وانتهاء بالمدرسة التناصيّة، مروراً بالمدرسة النقديّة أو الأمريكية وبالمدرسة الماديّة الجدلية أو الماركسيّة.فإذا نظرنا إلى الأدب المقارن باعتباره العلم الذي يدرس "العلاقات الروحيّة الدولية" على حدّ تعبير المقارن الفرنسيّ غويار (5) ، نجد أنّ لنا مصلحة ثقافية كبيرة في أن نعرف ما يستقبله أدبنا من مؤثرات أدبية وفكرية أجنبيّة، ومايرسله إلى الآداب الأجنبية من مؤثرات أدبية وفكرية. إنّ مصلحتنا الثقافية تقتضي أن تكون علاقاتنا الأدبية بالعالم الخارجيّ علاقات متوازنة. بعيدة عن الانعزالية والتبعية. فاستقبال الآداب الأجنبية من قبلنا يعرّفنا بتلك الآداب وبشعوبها، وهذا مكسب ثقافيّ لنا. كذلك فإنّ استقبال أدبنا العربيّ في العالم من خلال الترجمة إلى اللغات الأجنبية يعرّف الأمم الأجنبية بثقافتنا ومجتمعنا وقضايانا ويبرز الوجه الحضاريّ لأمتنا. (6) وهذا أمر بالغ الأهمية. فأعداء الأمة العربية حريصون كلّ الحرص على إخفاء منجزاتها الحضاريّة والتعتيم على ثقافتها، وهم يسعون لتقديم العرب للعالم في صورة شعب همجيّ ليس له حضارة. وعندما يتعرّف العالم الخارجيّ إلى أدبنا مترجماً إلى اللغات الأجنبية، يصبح أكثر تفهمّاً لقضايانا وتعاطفاً معنا. إننا نعيش في عصر تحققت فيه نبوءة غوته المتعلقة بالأدب العالميّ. (7) فهذا العصر عصر "عولمة الثقافة". وفي هذا العصر تقدّم كلّ أمّة نفسها للعالم عبر أفضل ما لديها من إنجازات ثقافيّة. وعلى تلك الخلفية تحوّل التبادل الأدبي إلى شكل هامّ من أشكال التعارف بين الشعوب. وإذا نظرنا إلى الأدب المقارن باعتباره "علم العلاقات الأدبية الدولية" نرى أن هذا العالم يستطيع أن يقدّم لنا الشيء الكثير، وأن يساعدنا في صياغة علاقات أدبية متوازنة، تأخذ من الآداب الأجنبية أفضل وأجمل مافيها، وتقدّم للعالم الخارجيّ أجمل وأفضل ما في أدبنا من أعمال. لقد تحوّل التبادل الأدبيّ إلى مقوّم رئيس من مقوّمات حوار الثقافات. والأدب المقارن يساعدنا في أن نشارك في ذلك الحوار بنجاح.