وظيفة الشعر في الأدب العربي القديم
١ شباط (فبراير) ٢٠٠٧ ، بقلم
أحمد اتزكنرمت تمتد جذور وظيفة الشعر إلى عمق الثقافة والحضارة ، إن لم نقل إلى الذهنية التي أنتجت هذه الثقافة، وتختلف هذه الوظيفة حسب العصور والثقافات، وتتعدد حولها الإجابات بتعدد المداخل النقدية، انطلاقا من إشكالية يلخصها السؤال المركزي التالي: عم نبحث في الشعر، هل نبحث فيه عن المعارف العامة ، أم الحكمة، أم اللغة، أم التاريخ والأنساب، أم الفن والجمال؟ وما العوامل المتحكمة في تحولات الوظيفة الشعرية وتبدلها في مختلف مراحل الشعر ؟
و من أقدم الإجابات عن هذا السؤال المركزي تلك التي أطلقها أفلاطون، حين شيد من خياله مدينته الفاضلة، فاستبعد منها الشعراء، ظناً بأنهم جديرون بأن يملأوا عقول الناس بالأوهام والخرافات وأن يصرفوهم عن جد العمل إلى هزل القول، فكان الشعر مع أفلاطون بلا وظيفة، اللهم إلا إذا كان أناشيد تتقدم صفوف المحاربين، ترن أصداؤه في ظلال راياتهم.(1)
أما المعلم الأول أرسطو فقد ربط وظيفة الشعر بالطبيعة الإنسانية في بحتها عن المتعة والإحساس بالجمال، فقال:"يبدو أن الشعر-على العموم- قد ولَّده سببان وأن دينك السببين راجعان إلى الطبيعة الإنسانية، فإن المحاكاة أمر فطري موجود للناس منذ الصغر، ثم إن الالتذاذ بالأشياء المحكية أمر عام للجميع".(2)
أما حين نعرج على الثقافة العربية القديمة، فنجد للشعر وظائف متعددة بحسب الخلفية الثقافية والمقياس النقدي الموجه لرؤية الناقد، فهذا الجاحظ )ت255 هـ (يعبر عن ذلك، بقوله: " طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يتقن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا يتقن إلا ما اتصل بالأخبار، وما تعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلاَّ عند الأدباء الكتاب كالحسن بن وهب، ومحمد عبد الملك الزيات"(3).
وفي ذلك نجد إشارات واضحة إلى مقاييس معرفية مختلفة تحدد وظيفة الشعر، فالأصمعي )ت210 هـ (بحكم مرجعيته اللغوية جعل وظيفة الشعر الاحتفال بالجزل والغريب من اللغة وبأخبار العرب وأيامهم، كما هو الشأن في شعر امرئ القيس وزهير والنابغة.أما الأخفش العالم اللغوي والنحوي الصارم فيصل وظيفة الشعر بتيسير تعلم قواعد اللغة العربية والانضباط إليها، لذلك أخرج من حرم الشعر كل بيت شعري ينتهك قواعد سيبويه، وهجومه على شعر بشار خير دليل على ذلك. أما أبا عبيدة فقد قصر وظيفة الشعر على نقل الأخبار والأيام والأنساب، في حين نجد الجاحظ، وهو يَعُدُّ أصناف النقاد واستغلالهم للشعر خدمة لأهدافهم من نحو وغريب وشاهد ومثل، يذهب بوظيفة الشعر بعيدا عن الاستشهاد به في التقعيد للغة أو فهم القرآن والحديث إلى الاحتفال بأفانين اللغة والتطريب للترويح عن النفس عند الكتاب الشعراء، الذين يبدعون الشعر صدقا وهواية لا احترافا، كابن وهب والزيات، ممن لا يحتفل بهم التاريخ الرسمي للأدب.
وحري بنا إذا، أمام تعدد وظائف الشعر في التراث النقدي للأدب العربي، أن نبحث في الخلفيات الثقافية والمعرفية المتحكمة في توجيه الشعر وتحديد وظيفته في كل فترة من فترات هذا التراث.
أولا: وظيفة الشعر في المرحلة الجاهلية
يؤكد ابن رشيق في كتابه العمد أن القبيلة العربية إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، وصُنعت الأطعمة، واجتمعت النساء، يلعبن بالمزاهر، كما يصنعن في الأعراس(4). والواقع أن الشاعر في العصر الجاهلية يوجد بيولوجيا في موضع من تجب حمايته، فهو" شخص منزلته تفوق منزلته البشر عموما، "(5) أو قل، إنه"نبي قبيلته وزعيمها في السلم وبطلها في الحرب"،(6) ووظيفته الأساسية والطبيعية، أن يكون لسان عشيرته، " يحمي عرض بني قبيلته ويخلد بلاءهم ويشارك في المعارك راشقا العدو بسهام شعرية لها قوة خارقة للعادة"،(7) ويصنع معرفتها و علمها، فيتغنى بأمجادها وأيامها وأنسابها وبمعتقداتها، ويحمي شرف الدم والعرق، إنه مرآة تنعكس عليها الصورة المثالية للجماعة القبلية.
ولهذا نظر عرب الجاهلية إلى الشاعر نظرتهم إلى الكائن النوراني، وأنزلوا الشعراء منزلة الأنبياء في الأمم، لأنهم " لم يكن في أيديهم كتاب يرجعون إليه، ولا حكم يأخذون به"(8) ، فكان الشعر ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون،(9) لما فيه من حكمة وعمل في قلوب الملوك والأشراف، وتأثير في نفوس أهل البأس والنجدة، وفعل في عقول أهل الأنفة والكرم. وصار الشعراء فيهم بمنزلة الحكام، يقولون فيرضى قولهم، ويحكمون فيمضي حكمهم، أمثال عمر بن كلثوم والحارث بن حلزة والنابغة .
ولكن هذه المكانة المرموقة للشاعر والوظيفة التوجيهية للشعر لم تستمرا طويلا، إذ أصاب التغير والتحول العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية على السواء، خاصة مع ظهور مراكز الثراء القبلي والمرتبطة بالسلطة والقوة وأهمية اللسان الناطق باسمها والمعبر عنها. فدخلت العلاقة بين الشعراء و سادات القبائل أفق الربح والخسارة، "وعرف أمثال زهير بن أبي سُلمى عطايا هرم ابن سنان التي وإن لم تفسد زهيرا فقد أفسدت غيره على نحو النابغة والأعشى (10) " ممن جعلوا المديح على قدر العطية، والأوصاف على قدر النوال. وبدأ التحول من وظيفة الشعر الذي يتحد بالمجموع من القبيلة، هاديا إياها ما يراه سبيلها القويم، إلى صورة الشاعر الذي يتحد بمصالحه الخاصة ويسعى وراء المال والجاه، متنقلا بين مواطنه، فوضعت بذلك الأسس الأولى لوظيفة التكسب بالشعر، وساعد على ذلك تنافس شيوخ القبائل الكبرى وملوكها في توظيف الشعر لتأكيد مكانتهم والدفاع عن مصالحهم.
ثانيا: وظيفة الشعر في مرحلة ما بعد الجاهلية
إذا كان الشاعر خلال المرحلة الجاهلية مخصوصا بالرعاية والجزاء والتشريف مقابل الخدمات التي يؤديها داخل عشيرته وقبيلتيه، فمع "مجيء الإسلام يصبح الشاعر مدافعا عن العشيرة الدينية ومضطلعا، خلال حكم الأمويين، بمهمة الدعاية للعائلة الحاكمة أو الأحزاب المعارضة"، (11) فنمط الشاعر القبلي تراجع في بداية الأمر لصالح الدعوة الإسلامية، فكان دور الشاعر هو التصدي لخصوم الدعوة، والإشادة بالقيم الدينية الجديدة، ووصف الفتوح، ورثاء الشهداء، ومثل هذه التجربة شعراء كثيرون، منهم: حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وعبد الله بن رواحة.
وسيتراجع دور الشاعر ثانية خلال الحكم الأموي، حين سعى إلى البحث عن المجد والثروة، إذ كانت السلطة تغذق على المداحين من مال ونعم، مما فرض على الشاعر التخلي عن قناعاته الشخصية أو أن يكيفها بكثير من المرونة لكي يحصل على التشجيع والحماية والفائدة من العائلة الحاكمة أو من الأحزاب المعارضة، فقد كان لكل حزب سياسي شاعر يتحدث بلسانه، ويدافع عن أحقيته في الخلافة، فكان الأخطل شاعر الأمويين، والكميت شاعر الهاشميين، والطرماح شاعر الخوارج، وتلخصت بذلك وظيفة الشعر خلال هذه المرحلة، في التعبير عن المعايير الثقافية السائدة، وهو مقابل ذلك مخصوص بالرعاية والجزاء.
كما أن حياة البذخ والانحلال التي كانت قائمة خلال العصر الأموي، والتي كان ينغمس فيها الشعراء ساعدت على إضعاف الروابط القديمة، وعلى التغيير الذي طرأ على وظيفة الشعر، خاصة وأن محيط الأسر والعشائر الحاكمة قد تبنى الاحتفالية المتداولة في الإمبراطورية الساسانية، مما أدخل وظيفة الشعر في باب خدمة المصالح الحزبية أو الفردية، بعيدا عن التحليق في أجواء الفن الطليقة.(12)
أما خلال المرحلة العباسية، فقد نزع الشعر إلى خدمة الطبقة الحاكمة والأرستقراطية، وأصبح الشاعر مستخدما بالضرورة لدى فئات المجتمع المستهلكة للثقافة، وتحولت بغداد إلى نقطة جذب قوية، شهدت إقبالا كبيرا للشعراء والكتاب على النوادي، أمثال دعبل الخز اعي وأبي نواس وأبي تمام والبحتري والجاحظ، بحثا عن اتخاذ مسار مهني أو شهرة أو تقرب من البلاط العباسي، الذي اتسع هرمية وتنظيما أكثر من بلاط سابقيهم الأموي(13).
كما توطدت خلال هذه المرحلة مؤسسة حماية الأدب التي تضمن للشاعر وجوده وتحدد له وظيفته وقواعد نشاطه، وأصبح المسار المهني للشاعر يلزمه بكل المساومات، خاصة حين خسر الشاعر الأولوية التي كان يتمتع بها بمجرد الكف عن تمجيد القبيلة والدفاع عن شرفها وعن الحفاظ على تاريخها، موجها اهتمامه نحو مصلحته الشخصية، (14) ولم يعد الشاعر المعبر الرسمي، بل أصبح متضرعا يدفع فنه إلى مستوى ممارسة حرفة مربحة تقوم على محض التسلية، فتفرغ لإنتاج يكاد ينحصر في فن المراثي والمديح والغزل، دون أن يحلم بالتحرر من الأغراض المعهودة والصيغ الشكلية المفروضة. أما وظيفة الدعاية السياسية التي كان يقوم بها الشاعر في المرحلتين الجاهلية والإسلامية، فقد أوكلت خلال هذه المرحلة إلى الدعاة وأصبحت وظيفته في هذه الناحية محدودة جدا، مقتصرا على التسلية أو التكسب.
إن وظيفة الشعر قد تغيرت، بتغير الظروف السوسيوثقافية المحيطة بالشاعر، فخسر الشاعر الأولوية التي كان يتمتع بها من قبل وتردت حرفته، لصالح فئة جديدة سطع نجمها، هي فئة الكتاب "التي توفر أسمى إداريي الدولة، (15) والتي تحرص على عروبة الدولة العباسية، وعلى المصالحة بين الأعراق المختلفة، وعلى حماية الأدب من خلال تثبيت قواعده التي ينبغي الامتثال لها.
استنادا إلى ما تقدم، يطرح أمامنا السؤال التالي: هل سيبقى الشاعر في الثقافة العربية تحث رحمة الأشياء والكلمات التي تولت في أرواح الآخرين، أم أن الشاعر سيجعل روحه منبعا لشعره كما كان في أولى مراحل تشكله وفي قليل من التجارب الشعرية التي تلتها التي تلتها؟
ملاحظة(1) قراءة جديدة لشعرنا القديم، صلاح عبد الصبور، دار العودة، بيروت، ط 3، 1982، ص10..
(2) فن الشعر، أرسطو طاليس، ترجمة متى بن يونس، تحقيق:شكري عياد، دار الكتاب، القاهرة، ،1967،ص.36.
(3)البيان والتبيين، الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الرابعة، (د.ت.) ، ص.76.
(4) العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ابن رشيق، تحقيق:محمد قرقزان، دار المعرفة، الطبعة الأولى، 1988، ص.153.
(5)تاريخ اللغة والآداب العربية، شارل بلا، تعريب رفيق بن وناس وجماعته، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، 1997، ص.86.
(6)تاريخ الأدب العربي، حنا الفاخوري، دار اليوسف للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (د.ط) ، (د.ت) ، ص.59.
(7)تاريخ اللغة والآداب العربية،ص.87.
(8) غواية التراث، جابر عصفور، كتاب مجلة العربي، وزارة الإعلام، الكويت، الطبعة الأولى، أكتوبر2005،ص. 114.
(9)طبقات فحول الشعراء، محمد ابن سلام الجمحي،قرأه وشرحه: محمود شاكر، ، (د.ط) ، (د.ت) ، ص.24.
(10) غواية التراث،ص.115.
(11) ينظر: الشعرية العربية، جمال الدين بن الشيخ، ترجمة مبارك حنون ومحمد الوالي ومحمد أوراغ، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى1996، ص.71.
(12)تاريخ الأدب العربي، ص.230.
(13) الشعرية العربية،ص.64وما بعدها.
(14) البيان والتبيين، ج1/241.
(15) الشعرية العربية، ص.92.